حفِلت الفترة بين أواخر العام 1954 وأوائل العام 1955 باشتباكات وعراكات بين رفقائنا في مدينة دير الزور من جهة، وبين عناصر مناوئة من جهة أخرى. في دير الزور بدأت شرارتها في مدرسة التجهيز الأولى بين ثلاثة رفقاء طلبة هم: محمد أمين جمعة، عبد الحميد منديل وعبد الشافي بعاج وبين شلّة أخرى مناوئة، انضمت إليها شلة من خارج الثانوية، وكان من نتيجتها أن أصيب أحد المهاجمين من غير الطلبة.
على أثر ذلك تسارعت الأحداث بحيث لم يكن يمرّ أسبوع دون أن تقع تحرشات أو صدامات. هكذا كان الوضع عندما انطلقت مظاهرة من التجهيز في ذكرى سلخ لواء الاسكندرون في أواسط شهر كانون الثاني عام 1955 شاركت فيها مختلف الأحزاب والقوى التي كانت اتفقت على رفع العلم السوري فقط دون أي شعارات أخرى. وفيما تقيد القوميون الاجتماعيون بذلك عمدت الفئات الأخرى المناوئة إلى رفع أعلامها مما جعل المنفذية الى ان تطلب من الرفقاء الانسحاب من المظاهرة والعودة إلى منازلهم. فيما توجه عدد من الرفقاء إلى مكتب المنفذية الذي، عندما وصلت المظاهرة إليه (يقع في الشارع الرئيسي للمدينة ولا بد للمظاهرة أن تمرّ بالقرب منه)، هتف البعض هتافات ضد الحزب، فتصدى لهم الرفقاء المتواجدون، وكان منهم احمد مضحى، عبد الرزاق بعاج، جبرا توما، عبد المحسن شهاب، عصام خوري، وجرى اشتباك مع الرفقاء سقط من جرائه الرفيق عبد الرزاق بعاج جريحاً ، كما أصيب عدد من المهاجمين، مما دفع بقوى الجيش لأن تتدخل وتصل آليات منها إلى أمام مكتب الحزب(1) .
على أثر ذلك عقدت هيئة المنفذية اجتماعاً قررت فيه الرد على الهجوم الذي استهدف مكتبها، إلا أن قيادة الحزب رفضت إعطاء الإذن بذلك وحذرت من القيام بأي حركة .
تحسباً لكل طارئ عمد مسؤولو المنفذية إلى نقل الأوراق من المكتب ووضعوا حرساً يتناوب على حراسة مكتب الحزب بصورة دائمة .
هذا هو الوضع الذي كان سائداً في دير الزور التي كانت تشهد نمواً جيداً للحزب بمديرياته الأربعة وازدياد عدد المواطنين المقبلين على الانتماء، مما اثار غيرة وحسد الفئات المناوئة، ويوم الحادث 27 شباط، وصلت مكالمة هاتفية الى المكتب من مجهول، يفيد أن ناظر المالية الرفيق نديم سليمان سيتعرض لاعتداء عند خروجه من محله التجاري، فاسرع الرفيقان محمد أمين جمعة وعبد الحميد منديل، الى دراجة هوائية (بسيكلات) واتجها لاستطلاع الخبر وحماية ناظر المالية، إلا أنهما قبل وصولهما إلى محل ناظر المالية بمائة متر تقريباً، تعرّضا إلى كمين غادر سقط فيه الرفيق جمعة إثر طعنة نافذة في رئته، كما أصيب الرفيق منديل بعدة طعنات .
نقل الرفيق جمعة فوراً إلى "المشفى الوطني" في دير الزور حيث راح الدكتور عبد الخالق النقشبندي يعالجه. قال وهو ينزف متوجهاً إلى منفذ عام دير الزور الرفيق حسن عياش: "من المؤكد أنني سأموت، فأوصي أن أشيّع بمأتم قومي اجتماعي ويلف جثماني بعلم الحزب" وقبل أن ينقل إلى غرفة العمليات رفع يده بالتحية وردد هذا البيت الشعري :
" بَقيَت بِطاح من بلادي عطشى فلنسقها فحوى عروق الأجسد "
ولفظ أنفاسه شهيداً .
قبل ذلك كان الرفيق جمعة أدلى بإفادته إلى أفراد الشرطة الذين كانوا وصلوا إلى المستشفى، وأورد اسم الذي طعنه، لكن رئيس الدورية أخفى ذلك وسجل في التقرير اسماً غير اسم الفاعل الحقيقي، لأن الفاعل من عشيرة كبيرة في المدينة، عكس المسمى .
إثر ذلك تسلّم الجيش إدارة الأمن في المدينة بعد ان اعلنت الأحكام العرفية .
*
في اليوم التالي قررت المنفذية تشييع الرفيق الشهيد باحتفال مهيب، فغطت جثمانه بعلم الحزب وكلّفت عدداً من الرفقاء بحمل الجثمان وإحاطته بفرقة تضع على سواعدها شعار الزوبعة. لكن أقارب الشهيد المتنفذين حالوا دون سير الجنازة في شوارع المدينة الرئيسية كي لا يقع صدام بين أهل البلد كما زعموا، لكن الحقيقة هي أنهم تبلغوا أوامر من السلطة بعدم سير الجنازة الحاشدة في شوارع المدينة .
انطلقت الجنازة من بيت الرفيق الشهيد يرافقها عدد كبير من الأهالي متوجهة إلى المدفن الذي لم يكن يبعد عن البيت أكثر من خمسماية متر. قبل وصولها بعشرين متراً مرت على سرية عسكرية كان يقودها الضابط المسؤول عن الأمن، فأدت التحية العسكرية للجثمان، وكان الضابط قائد السرية رفيقاً سورياً قومياً اجتماعياً .
بعد هذه الحادثة ساد التوتر في المدينة لأن الرفقاء علموا من هو القاتل الحقيقي للشهيد. وعلى الأثر انتدبت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي أحد أعضائها البارزين، ابن المدينة، السيد جلال السيد(2) للتحقيق في الحادث. فما كان منه إلا أن أغلق مكتب فرع حزب البعث في دير الزور وأمر بتجميد نشاط الحزب فيها، مما دفع بقائد المنطقة الشرقية العسكرية ان يطلب من منفذية الحزب السوري القومي الاجتماعي في دير الزور أن تغلق بدورها مكتب الحزب وتجمد نشاطه، إلا أنها رفضت ذلك وبقيت على إصرارها رغم المحاولات المتكررة .
بقيت الأوضاع متوترة في المدينة إلى أن حصل حادث اغتيال العقيد عدنان المالكي .
*
هوامش
(1)وصلت أربع آليات عسكرية صدف أن قومياً اجتماعياً كان على رأس كل منها، بينهم الرقيب الرفيق عفيف الجوهري، الذي كان له لاحقاً دوره البطولي في معارك شملان، وتولى مسؤوليات حزبية ونشط في لبنان، في غانا حيث هاجر إليها ثم في رأس بيروت إذ عاد إليها وفيها وافته المنية. والاخرون: النائب الضابط بدر كنج، الرقيبان محمد منديل وعلي الدرار .
(2)جلال السيد احد الثلاثة الذين اسسوا حزب البعث، لعب دوراً كبيراً في حياة البعث كحزب ودولة، مؤلف كتاب "حزب البعث العربي" الذي اصدرته "دار النهار للنشر" عام 1937. اقترن عام 1974 من الرفيقة محسنة عياش، شقيقة منفذ عام دير الزور في حينه الرفيق حسن عياش.
بطاقة هوية:
ــــــ
-الاسم الكامل: محمد أمين جمعة الدغيم
-الام: مريم
-مواليد دير الزور عام 1935
-اخوته واخواته، خلف، احمد، عبد العزيز، الرفيق جميل، الرفيق محمد علي، صالح، زكية، صبحية، فصيحة، امينة وخلوقة.
-انتمى إلى الحزب في منفذية دير الزور عام 1953، حين ادى القسم في بيت جلال الدين بعاج على يد الرفيق عبد الرزاق بعاج وبحضور الرفيق عبد الوهاب بعاج والرفيق جبرا توما، توتر مرتبكاً، فاستغرب منه الرفيق جبرا هذا الموقف، فكان الجواب ان هذا القسم العظيم يدعو لذلك.
-عرف عنه جرأته النادرة وقوته البدنية وكان يهاب منه الخصوم ويخشون بطشه.
-ثقافته ثانوية وكانت له ميول أدبية وشعرية .
-بقي عازباً .
-استشهد ليل الخامس من شباط عام 1955 جراء طعنة خنجر في رئته وأقيم له مأتم حافل في مدينة دير الزور، كما اقيمت له ذكرى الاربعين بحضور الامين كامل حسان وغطتها مجلة "البناء" في عددها 348 بتاريخ 5 نيسان 1955 على مدى صفحة كاملة، كما كتب عنه الرفقاء محمد خلف الحمود، عبد الوهاب بعاج، جودت عياش .
***
للرفيق الشهيد محمد أمين جمعة قصائد قومية نشر البعض منها في جريدة "الزوابع" التي كان يصدرها الحزب، وهذه إحداها وقد نشرت في العدد 86 تاريخ الاثنين 26 نيسان عام 1954 :
هيـــا للكـفــاح
تكاتفنا لسحق الظالمينـا ونعمل للمبـادئ مخلصينا
وحاربنا المفاسد في بلاد لنرفع مستواها كـي يبينا
ونبني صرحنا في وعي وحق ونحيا في البـلاد معززينا
فهيا للكفاح نعيد عرشا ونصبح في عداد الطامحينا
تعالوا للحياة نسير جيشا شبابنـا بالنظـام مرددينـا
***
صدر عن مكتب رئاسة الحزب التعميم عدد 7/26 تاريخ 31/12/1957 وفيه يعمم مرسوم رئاسة الحزب عدد 14/26 تاريخ 31/12/1957 بتسمية عدد من الرفقاء شهداء للقضية السورية القومية الاجتماعية،
وقد نصت المادة الأولى من المرسوم على ما يلي:
" يسمى الرفيق محمد أمين جمعة شهيداً سورياً قومياً اجتماعياً بناءً على الفقرة (1) من المادة الأولى من قانون الاستشهاد لثبوت استشهاده في عراك حزبي في دير الزور في شباط 1955 بخناجر الغدر على أثر مواقف بطولية وعقائدية للشهيد ، وقد استشهد وهو يردد أبياتاً من الشعر في تمجيد سورية وقضيتها القومية الاجتماعية" .
|