إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

بعـض من رائـــدات في بـــــلادي الحلقة -6-

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2023-03-17

إقرأ ايضاً


كنا بتاريخ سابق عممنا عن رفيقات تميّزن كل في مجالها.

نعيد تعميم النبذات عنهن.

*

أول وأبرع مذيعة في لبنان والشام الرفيقة عبلة ايوب الخوري

الوالد السيد ايوب الخوري، والوالدة السيدة حنة ميخائيل مع ابنائهم سنة 1925

من الرفقاء الذين لفتوا نظري في منفذية الطلبة الجامعيين أواسط سبعينات القرن الماضي، برقيهم النفسي، وبتجسيدهم لفضائل النهضة اتذكر دائماً بكثير من الحب، الرفيقين رائد يوسف الدبس، وكمال خوري. الأمين عبد الله حيدر رئيس مكتب الطلبة(1) في "تلك الفترة يعرفهما مثلي وربّما أكثر"

في الأوراق الثبوتية هو كمال البوشي، أما في كلّ التعاطي فهو كمال خوري. موقفه من والده مماثل لموقف والدته فلا يريد أن يحمل كنيته.

عائلة خوري، برأسها السياسي المميز فارس الخوري(2) وبرأسها الحزبي الأمين د. سامي الخوري(3) تستأهل أن يُكتب عنها الكثير(4)

كان يمكن أن يفعل ذلك الأمين نواف حردان وهو عرف العائلة جيداً، ونزل بضيافتها أكثر من مرة. لقد ذكرها في مؤلفه "على دروب النهضة" إلا أنّ ما ورد لا يشكّل إلا جزءاً من كثير. وكان يمكن لأحد أبناء الراحلة أليس(5) أن يكتب، وفاءً لعائلة سطرّت حضوراً جيّداً في الحزب.

عبلة خوري

لأنها، كشقيقها الأمين سامي خوري، الاشهر من بين باقي الاشقاء والشقيقات، ولانها كانت أول وأبرع مذيعة في الشام ولبنان، وما زال جيلنا يتذكر صوتها الإذاعي الذي لا يشابهه صوت، رخامة وصفاءً وإلقاءً رائعاً.

لأنها كذلك نحكي عنها.

بتاريخ 16/05/1990 نشر الصحافي طاهر ابو حمدان في جريدة "السفير" نص المقابلة التي كان قد أجراها مع الرفيقة عبلة خوري، نورد أهم ما جاء فيها:

" كانت عبلة أيوب الخوري أول مذيعة في إذاعة دمشق. وأول صوت نسائي خرج من استديوهاتها، وبعد تسع سنوات من العمل في الإذاعة السورية، انتقلت عبلة الخوري إلى إذاعة لبنان في بيروت، وعملت فيها على مدى سبعة وعشرين عاماً، تلتها فترة قصيرة من العمل في إذاعة لندن.

وبعد هذا المشوار المهني الطويل، عادت عبلة الخوري إلى البيت الابوي في بلدة الكفير. وهو البيت الذي سبق وانطلق منه عمها فارس بيك الخوري ليصبح رئيساً للوزراء في سوريا لحقبة من الزمن. وفي البيت نفسه، الثقت "السفير" عبلة الخوري وكان لنا معها الحديث الآتي:

- كان تعليم البنت في زمانك يصطدم بعوائق عديدة منها البيئة ومنها الإقتصاد. فكيف قُدّرَ لكِ أن

تتعلمي خارج قريتك؟

• إنه القدر الذي ينتزع الإنسان بخيط من حرير، ويشدّ به حتى يصل إلى المكان المقرّر. تسألني كيف تعلمت ابنة الكفير خارج قريتها. وأنا أقول أنها مشيئة الخالق التي تبنتها أمي وشدّت على يد الزمن بقوة ليقف معها أمام إرادة الوالد الرافضة لهذه الفكرة ومن خلفه المجتمع بأسره. ولكنني لا أخفي عليك سراً إن قلت لك أنني لا أحمل أي شهادة – حتى السرتفيكا رسبت في امتحانها – وأكملت دراستي دون شهادات إلى الصف الأول الثانوي باللغتين العربية والفرنسية، ومن ثمّ بالإنكليزية هذه باختصار قصة تعليمنا في مرجعيون أنا وأخوتي.

الرفيقة عبلة خوري مع شقيقاتها خلف الرفيق سامي خوري واشقاؤه

والدها ووالدتها في الكفير يقفون خلف والدهم ووالدتهم في الكفير.

- متى كان انتقالك إلى سوريا ولماذا؟

• الجواب هو مرّة أخرى: القدر. القدر الذي سحبني إلى دمشق. هناك تزوّجت، وكان زوجي خليل الأسعد من اكبر موظفي الدولة(6). وكان عليه بحكم هذه الوظيفة أن يلتحق بمركزه في مدينة القنيطرة. فعشنا هناك منذ سنة 1943 وحتى 1947. ولا أخفي الُرقة التي تجرح مني الشرايين وأنا أتذكر القنيطرة. لقد عشت طبيعة الناس هناك. طبيعة البدو الذين يملؤون جوانب المنطقة كلّها وهم "عرب آل الفضل" الذين كان أميرهم المميّز فاعور الفاعور من سلالة الرسول. والذي كنت أرى في سلوكه نبل العظماء وكرامة العربي الأصيل.

- وماذا بعد القنيطرة؟

• إلى اللاذقية لضرورات عمل زوجي. ومن اللاذقية إلى دمشق حيث توفيّ زوجي وأصبحت في عرف المجتمع أرملة، وفي دمشق التي احتوتني من جديد، بدأت حياتي الإذاعية.

- ومن الذي أوصلك إلى إذاعة دمشق؟

• أنا وصلت بنفسي عن طريق إعلان عن إذاعة دمشق يقول أنّ الإذاعة تطلب مذيعات ومذيعين (مذيعات لأوّل مرّة في تاريخ سوريا). ولم ينته المذيع من إعلانه حتى كان تصميمي قد أصبح نهائياً. فقصدت منزل نشأت التغلبي الذي كان مديراً للإذاعة. وكنت لم أزل مجلّلةً بالسواد حداداً على زوجي. وعرّفت عن نفسي بقولي "عبلة الأسعد" وكان يعرف من أنا عن طريق شقيقته. سألته عن شروط المباراة فأجابني أن يتقن المرشّح العربية وأن يلمّ بلغة أجنبية. ولكنه عندما عرف أنني أريد أن أرشّح نفسي قام عن كرسيّه والذهول يغطّي محياه وقال: "غير معقول. أنتِ.. أنتِ...؟ أرجوك، هذا عالم بعيد عنك..." ولكنه رضخ أخيراً أمام إصراري وقبل بإجراء التجربة. وفي استوديو إذاعة دمشق، كان عليّ أن أقرأ مقطعاً من صحيفة، ونشأت التغلبي والأمير يحيى الشهابي كانا خارج الأستديو يراقبان. ونجحت التجربة. وبقيت في إذاعة دمشق 9 سنوات كمذيعة لنشرات الأخبار.

منزل ايوب الخوري في الكفير

- وكيف مضت التجربة؟

• أحببت العمل وحصلت مفاجآت كثيرة سيرد ذكرها جميعاً في كتابي الذي أعتزم نشره. منها الجدّي مثلما حصل عندما قرأت الملفّ الإتهامي بعد اغتيال عدنان المالكي والذي يحوي إنزال عقوبة الإعدام بأخي سامي – ومنها الطريف مثلما حصل عندما اقتحم جرذ كبير الأستديو حيث كنت أقرأ نشرة الأخبار. فصعدت إلى الطاولة واستمرّيت في القراءة من فوقها ولا أحد من حولي كان يعرف ما الذي يجري.

- كيف تركت دمشق إلى بيروت آنذاك؟

• جئت مأذونة إلى بيروت، وأتاني من يقول: لا ترجعي.

- وكيف دخلت الإذاعة اللبنانية؟

• عندما كان أسعد الاسعد مديراً عاماً لوزارة الأنباء، أرسل أدفيك شيبوب في طلبي. وفي مكتبه مدّ إليّ ورقة طالباً التوقيع عليها وتحديد الرّاتب الذي أشاء. وهكذا بدأت رحلتي في إذاعة لبنان لتستمرّ 27 سنة. وفي النهاية خرجت من يد أسعد بك الرحومة إلى أيادٍ جامدة كقطع الثلج، وما من عمل بوسعه أن يذيب الثلج. وبعد هذه السنوات الطويلة عدت إلى البيت بدون تعويض.

- والسبب؟

• السبب يعرفه المرحوم قائد الجيش السابق اللواء عادل شهاب، واللواء سامي الخطيب مسؤول الشعبة الثانية آنذاك.

- ماذا يعني لكِ الميكروفون بعد هذه العلاقة الطويلة؟

• اللاقط حسب رأي العلامة عبد الله العلايلي.. يعني لي هذه القطعة من الحديد التي كنت أتمنى أن تبقى رفيقتي حتى نهاية العمر، شرط أن يكون ذلك في نشرات الأخبار فقط وأنا لا أتمنى الآن إلا أن أقدّم ولو نشرة واحدة كلّ اسبوع. هذا ما يعنيه لي رفيق الدّرب الطويلة ومؤنس الآخرين.

- كيف عشتِ مع اللغة العربية السليمة خلال حياتك المهنيّة؟

• طلبت يوم دخلت إذاعة دمشق من أستاذ يتقن اللغة العربية أن يسمعني مرّة في الأسبوع في المنزل كمدرّب. وهكذا أعطاني الأبواب الشائعة في اللغة لاستعمالها بدل العودة إلى المنجد في كلّ لمحة من الزمن. وأيضاً أفادني جداً الرجوع الدائم إلى القرآن الكريم عملاً بنصيحة عمّي فارس الخوري.

- ماذا تقول سيدة المذيعات إلى الشابات في هذا الحقل؟

أنا لا أنصح، بل أتمنى على كلّ فتاة ترغب دخول عالم الإذاعة أن تسجّل صوتها، وتصغي إليه. فإن بكت فلتدخل عالم الاذاعة، وإن لم يهزّها هذا الصوت فلتذهب الى مكان آخر.

*

سُمَح لها، وحدها، بزيارة الامينة الاولى

يروي الأمين د. سامي خوري في مؤلفه "أمل لا يغيب" (ص 172) ما يلي:

" كانت الأمينة الأولى قد انتقلت بعد حادث الجميزة إلى اللاذقية وبعد 8 تموز نقلها حسني الزعيم إلى دمشق ثم وضعها مع بناتها في دير صيدنايا تحت حراسة مشدّدة ولم يسمح لأحد بزيارتها أو زيارة بنات سعاده سوى شقيقتي عبلة الخوري التي قامت بزيارتين واحدة للبنات والثانية للأمينة الأولى. وكانت تعود من كلّ واحدة منهما منهكة من الحزن والبكاء.

(مذكرات الأمينة الأولى جولييت المير سعاده ص 114 – 115) "

*

وفـاتهـا

عن جريدة الديار بتاريخ 14/11/1992

الكفير- مفيد سرحال

" شيعت بلدة الكفير والمنطقة في موكب مهيب أول مذيعة في الدول العربية، الأديبة عبلة الخوري بحضور المطران الياس نجم وعضو مجلس إدارة تلفزيون لبنان الدكتور نسيم الخوري وإعلاميين وشخصيات سياسيّة وإجتماعية.

بعد القدّاس والجناز في كنيسة القديس جاورجيوس في الكفير ألقى المطران نجم عظة قال فيها: نحن وإياكم نشيّع هذه الأديبة الراحلة التي عُرِفت بالذكاء وبالمعرفة والحكمة وبالأدب والصحافة نشأت في بيت كريم عريق كلّكم تعرفونه، عُرِف بالوطنية والعروبة الصحيحة الحقّة.

وأضاف: أربعون سنة قضتها في الإذاعة وكان الكلّ ينتظر أن يسمع صوتها وجمال صوتها ونبراته من أدبها: هنا دمشق، هنا بيروت، هنا لندن منها.. وها هي اليوم تترك دنيا الفناء والعذاب وتذهب إلى الخلود والحياة السعيدة.

ثمّ ألقى الزميل سعيد معلاوي(6) كلمة أسرة وزارة الإعلام فقال: انطلق صوتها عبر أثير دمشق يطرب ويعلي شأن المحبة والسلام أينما حلّ، ولكم تقاذفته المسامع فدوى في إذاعة لندن وكان برداً وسلاماً على الآذان المرهفة العاشقة. لم يتعبه الطواف لكنه آثر العودة إلى العرين الذي انطلق منه.. لبنان الصوت والكلمة والجذور "

*

نشكر الرفيق الياس عوض الذي زوّدنا بهذه الكلمة للاديب عادل ابو شنب، كان حررها بتاريخ 19/09/2006.

" في مطلع الخمسينات من القرن الماضي, كانت الإذاعة السورية وليدة لا تزال, لكن صوتا قويا كان يجلجل من وراء مايكرفونها هو صوت المذيعة الكبيرة عبلة الخوري.‏

لست أدري إن كانت عبلة سورية أو لبنانية لكنها كانت مقيمة في دمشق هي وأسرتها وكانت لها أخت أكبر منها اسمها أسماء وكنت أزورها في البيت بعد أن توطدت أواصر الصداقة بيني وبين الأسرة منذ عرفت الإذاعة وصرت فيها قاصا تذاع قصصي فيها عدة مرات في السنة.‏

كان لعبلة الخوري صوت جميل، وكانت تتقن اللغة العربية اتقانا قل أن تتقنه مذيعات هذه الأيام، وكانت تذيع نشرات الأخبار وبعض الأحاديث السياسية، والجميع معجبون بصوتها يقدرونه ويقدرونها وقد شاءت ذات يوم أن تكتب قصة حياتها فلجأت إلي، على عمري المحدود بالنسبة لها، وصارت تملي علي الحوادث التي مرت بها، وأنا أكتب القصة التي اسمتها (حياة) ومرت عدة أشهر وأنا أسجل ما تقول إلى أن اضطرت إلى ترك عملها في الإذاعة، بل تركت الإقامة في دمشق، وسافرت إلى بيروت وأقامت فيها وعملت في الإذاعة اللبنانية ولم أعد اسمع عنها كثيراً، وإن كنت أعرف أنها أقامت في بيروت تربي ابنها الوحيد الذي كان قد ولد في العاصمة اللبنانية ولم أعد أسمع عن القصة التي أملتها علي وهي قصة (حياة) ولم أعرف ما إذا كانت قد أصدرتها أم لا.‏

لم تمر الإذاعة بصوت أحلى أو أقوى من صوت عبلة الخوري، وها أنا أشهد بأنها كانت مذيعة عظيمة لم تأت بعدها منافسة بمثل جمال صوتها وقوة لغتها العربية، وأحسب أنها توفيت الآن رحمها الله.‏

كانت عبلة الخوري تجتهد اجتهاداً ملحوظاً في تشكيل الجمل التي تقرؤها حتى تكون قراءاتها ناصعة خالصة من شوائب الخطأ، وكانت تقول: المذيعة ليست صوتاً جميلاً فحسب بل يجب أن تكون أستاذة في القراءة الصحيحة "

هوامش

(1) كان مكتب الطلبة المركزي، ورئيسه عميد دون مصلحة، يشرف على كلّ العمل الحزبي الطالبي قبل أن تنشأ عمدة التربية والشباب

(2) تولّى، وهو المسيحي، رئاسة الحكومة في دمشق، وكان مميزاً بكفاءته وبمواقفه الوطنية. حفيدته (من ابنه سهيل) الأديبة المعروفة كوليت خوري.

(3) تولّى مسؤولية عميد للثقافة وانتخب لعضوية المجلس الأعلى. كان طبيباً. أقام في الربع الأخير من حياته في عمّان، وأصدر ذكرياته في كتاب حمل اسم "أمل لا يغيب"

(4) أشقاء وشقيقات الأمين سامي، ومعظمهم رفقاء الأديب عارف، نجلاء، أليس، أسمى، عبلة، عادل، المحامي غالب.

(5) اقترنت من مدير المدرسة الرسمية في الكفير، يوسف كحيل وأنجبت منه الرفيقين رياض وعماد، جهاد، نبيلة وعارف.

(6) كان محافظاً في القنيطرة، وفي اكثر من مكان في الجمهورية الشامية.

(7) منح رتبة الأمانة. مراسل جريدة "النهار" في منطقة حاصبيا.

***

ثريا الحافظ.. مناضلة وأديبة

في زيارتي الاولى الى البرازيل عام 1976، اطلعت على جريدة حمص، وتعرفت على مراسلها في البرازيل الشاعر الصديق نبيه سلامة، وعلمت أنه كان لها مراسل في الارجنتين، الاستاذ رامز شقرا، وآخر في التشيلي.

تلك االبلدان الأميركية الجنوبية غنية بالجالية الحمصية: ففي سان باولو ناد في أهم شوارعها "باوليستا" Paulista، ولأبنائها الفضل الأكبر في تأسيس مستشفى القلب، الأهم في البرازيل، الى مأتم ودار للعجزة ومؤسسات عديدة تخدم الجالية، كما الشعب المضيف. أما إذا رغبنا الحديث عن الأدباء والشعراء المهجريين من أبناء مدينة حمص، كما عن الافذاذ منها الذين برعوا في التجارة والصناعة والاقتصاد، أو تولوا مسؤوليات في الحزب السوري القومي الاجتماعي (ألبرتو شكور، اديب بندقي، جورج بندقي، عيسى بندقي...) ومثلهم في كل من الارجنتين والتشيلي، لاحتجنا الى جهد غير قليل، والى كتب عديدة.

ومنذ فترة تسلمت من منفذ عام حمص الرفيق نهاد سمعان، مجموعة من اعداد جديدة صادرة عن جريدة "حمص"، ففرحت أنها مستمرة في الصدور، وفي قيامها بدور الجسر بين المدينة وأبنائها المنتشرين في الخارج، كما في نشرها نبذات مضيئة عن مفكرين وادباء وشعراء سوريين.

منهم هذه النبذة عن المناضلة الاديبة السيدة ثريا الحافظ، ننشرها لفائدة الاطلاع على احدى المناضلات المجهولات من نساء بلادنا.

ل. ن.

*

السيدة ثريا الحافظ

« كنت عرضة لعداوة الطبقة الرجعية المتلبسة بلباس الدين باعتباري أول امرأة عربية سورية خرجت سافرة مع مئة سيدة سرن في مظاهرة ضد الرجعيين الذين كانوا يهاجمون النساء ويرمونهن بالبيض الفاسد والبندورة العفنة، أو بماء الفضة لا لسبب، بل لأنهن يرتدن داراً للسينما خاصة بالنساء، أو لأنهن يقصصن شعورهن، ويقصرنها، فيزعم الرجعيون أنهن يتشبهن بالرجال..».

تكشف السيدة ثريا الحافظ، في هذا المقطع من كتابها الحافظيات، عن جانب مهمّ ومؤثر في حياتها الاجتماعية والسياسية التي عاشتها بزخم عاطفي وإنساني كبير، كان ميزانه الأول القضية الوطنية ببعديها السياسي والاجتماعي، وتحتل المرأة جانباً هاماً من مسيرة النضال هذه... مسيرة طبعت حياة ثريا الحافظ الغنية بالعطاء والفعل والدفاع عن قضايا آمنت بها.

تعتبر ثريا الحافظ من أهم الرائدات السوريات، فهي أديبة ومناضلة ولدت في دمشق عام 1918 لأسرة مثقفة ناضلت ضد الاستعمار، وابنة المجاهد أمين لطفي الحافظ أحد شهداء السادس من أيار، درست في دمشق وعملت في إدارة المدارس، وتابعت النضال ضد الاستعمار الفرنسي لسوريا (أسوة بوالدها) وخاصة بعد اعتقال زوجها المناضل منير الريس عام 1939، إذ قادت مع رفيقاتها وبنات جيلها ومنهن: ألفة الإدلبي وجيهان الموصللي وسنية الأيوبي، المظاهرات للضغط على الحكومة التي أقامها الفرنسيون شعبياً، للإفراج عن زوجها وعن السجناء الوطنيين عامة، كما قادت حركة التوعية من أجل تحرر المرأة سواء من خلال الأحاديث الإذاعية والمحاضرات والأندية والجمعيات التي شاركت في تأسيسها ومنها: يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمات، دوحة الأدب، جامعة نساء العرب القوميات، الرابطة الثقافية النسائية، منتدى سكينة الأدبي، النادي الأدبي النسائي، وكذلك من خلال الاتصال المباشر بالنساء عن طريق المقاومة الشعبية، إذ تلقّت مع رفيقاتها التدريب على السلاح خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. كما أسست من خلال جمعية "خريجات دور المعلمات" جمعية رعاية الجندي، عام 1956 التي كان من أهدافها القيام بزيارات للجنود في مواقعهم، وتقديم الهدايا لهم في المواسم والأعياد وإرسال الكتب والنشرات والمجلات التي تزيد من ثقافتهم أو ترفــّه عنهم، وكذلك عيادة الجرحى في المستشفيات وإقامة الحفلات الترفيهية لهم في المناسبات القومية، كما انبثق عن جمعية "خريجات دور المعلمات" دار كفالة الفتاة لتعليم بنات شهداء 1945. كما نشطت ثريا الحافظ في دعم أطفال الشهداء مادياً ومعنوياً من خلال الميتم التابع لجمعية خريجات دور المعلمات.

وعلى صعيد آخر كانت رائدة في الدعوة إلى رفع الحجاب، إذ شاركت مع مئة امرأة برفع النقاب عن وجوههن في مظاهرة تحررية في شوارع دمشق، مما مهد الطريق أمام النساء للقيام بذلك. كما ناضلت من أجل حق المرأة في الانتخاب، ففي عام 1953 حصلت المرأة السورية على حقها كاملاً في الانتخاب، وأصبحت تَنتخِب وتُنتخب، وبذلك كانت ثريا الحافظ أول امرأة ترشّح نفسها للانتخابات، النيابية في العام نفسه. وعندما أسس زوجها الصحفي والمناضل منير الريّس "جريدة بردى" عام 1946، طالبته بأن تكون الجريدة صوتاً إضافياً يدعم قضايا المرأة ويقف إلى جانبها. وإذا كانت ثريا الحافظ قد لعبت دوراً مهماً في الحياة الثقافية والسياسية السورية حتى نالت بلادها الاستقلال عام 1947، فقد امتد نشاطها إلى خارج الوطن، إذ مثّلت بلدها سوريا في عدة منتديات ومؤتمرات في القاهرة، فرنسا، الهند، الصين، الاتحاد السوفياتي... وغيرها، كما مثّلت جمعية "خريجات دور المعلمات" في أول مؤتمر نسائي في بيروت.

كنتُ قد التقيتُ ثريا الحافظ في منزلها عام 1994 وقد بلغت الشيخوخة، ولكنها كانت في قمة حماسها وحيويتها وذاكرتها المتقدة... قدمت لي يومها نسخةً من كتابها "الحافظيات" وحدثتني عن حياتها ونشاطها السياسي والثقافي، فنشاط ثريا الحافظ الثقافي حافلٌ أيضاً ولا يقل أهميةً عن نشاطها السياسي والنضالي، فقد افتتحت عام 1946 صالونها الأدبي (حلقة الزهراء الأدبية) وكان مقره منزل زهراء العابد زوجة رئيس الجمهورية آنذاك. ثم بعد ذلك أسست (منتدى سكينة الأدبي) عام 1963ساعدها على ذلك كل من: إبراهيم الكيلاني وأسعد محفّل وفؤاد الشايب، وكانت غاية المنتدى رفع مستوى الآداب والفنون وتنمية الثقافة والذوق الأدبيين وتشجيع الأدباء وجمع وطبع نتاجهم, ونقل المهم من نتاج الغرب إلى اللغة العربية، ومن النتاج العربي الى اللغات الأجنبية... وفي هذا المنتدى تبارى كبار الشعراء في إلقاء روائع أشعارهم، والأدباء في قراءة القصص والمقاطع الفريدة من إنتاجهم، والفنانون في العزف على آلاتهم الموسيقية، وفرقة المنتدى المسماة بفرقة الأندلس تعرض الرقصات الشعبية على الحضور، من رقص السماح إلى الدبكة العربية بأزيائها التاريخية... كانت ثريا الحافظ تدير كل هذا في المنتدى الذي كان مقرُّه دارَها، التي أطلق عليها "دار الأمة"، وفي هذا المنتدى استضافت كبار مثقفي سوريا والوطن العربي: محمد مهدي الجواهري، نازك الملائكة، عبد السلام العجيلي، مدحت عكاش، غادة السمان، نجاة قصّاب حسن، فخري البارودي ، إبراهيم الكيلاني، ميخائيل نعيمة، يوسف السباعي، فكري أباظة، حسين مروة، الأخوين رحباني وفيروز.... أما نتاج ثريا الحافظ الأدبي فهو كتابان، الأول بعنوان "حدث ذات يوم" وفيه تتحدث عن الفترة النضالية من حياتها، وقد دفعها الأمير مصطفى الشهابي لكتابته عندما سمعها تُلقي بالمذياع أحد أحاديثها عن الكفاح يوم زار مدرسة دار المعلمات المفوض السامي "دو جوفنيل" يومها غدت ساحة المدرسة ساحة مقاومة وكفاح وهتافات ضد فرنسا ومفوضها السامي الجديد.

الكتاب الثاني هو "الحافظيات" وفيه تتحدث عن الأحداث الهامة في حياتها، وقد أهدته إلى المجاهدات في سبيل تحرير فلسطين.. وقدّم له الأمير يحيى الشهابي الذي قال في المقدمة: "إنك لتجد نفسك أمام جاذبين أحدهما غنى الأحداث التي تُروى لك، ولعلك واجد نفسك فيها، والآخر صدق وصراحة ما يُروى. ففي حياة ثريا الحافظ مَعينٌ لا ينضب من الحركة والاندفاع. ابنة شهيد وزوجة أروع مناضل قضت الجزء الأوفى من حياتها في ميدان العمل الوطني والاجتماعي والفكري، وتعرضت لأقسى أنواع الإرهاق النفسي وهي تعرض علينا اليوم بعض صور الشريط، شريط ذكرياتها الغنية. وكان من الإنصاف لها أن يدرس هذا النتاج، ولكني أترك المهمة للقراء، إنهم لواجدون أنفسهم في الشريط. بعضهم عاش مع صاحبتها، وآخرون خطها تاريخ نضال بلادنا لهم".

رحلت ثريا الحافظ عام 2000 بعد أن خاضت معركتها مع بنات وأبناء جيلها، تاركةً لنا إرثاً كبيراً علّه ُيضيء لنا الدرب في مواصلة ما بدأته.






 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024