1
من العادات المتوحّشة التي خبِرَها اللبنانيّون بحقّ، عادة إحراق الدواليب. وهي تكاد تشكّل بشيوعها بين الفئات الشعبيّة والسياسيّة والمذهبيّة اللبنانيّة كافّة نقطة لقاء بدائيّة وحيدة في زمن الافتراق والتفتّت والانحلال.
وإذا كان إحراق الدواليب يضجّ بمعاني الاستنكار والاعتراض والاحتجاج على وضع قائم، فإنّه يحمل أحيانًا صرخات الآتي الغضوب. ولكن من مفارقاته، أنّ انقشاع دخانه ظاهريّ فقط، فما من سلطة تسلّلت من وراء الدخان إلاّ وتلطّخ حكمها بالشحتار، وما استطاعت إلى النقاء سبيلا. فمثلاً، لم يكن قطار حكومات رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري بخاريًّا وحتمًا لم يكن يجري على الطاقة الشمسيّة، رغم الوعود كلّها، وإنّما انطلق رسميًّا بقوّة دفع طاقة نيران الدواليب ودخانها؛ دخان انتشر في شوارع بيروت ومداخلها عام 1992 وبتنسيق أوركستراليّ منظّم أدّى حينها إلى استقالة حكومة رئيس الوزراء السابق عمر كرامي، وإلى ابتداء زمن حكومات التحالف الحريريّ (السعوديّ) – البعثيّ العسكريّ الشاميّ – الأميركيّ الذي دام عقدًا ونصف تقريبًا.
2
إذْ عادت الدواليب إلى الاحتراق، في تفجّر، فوضويّ متفرّق وضعيف إنّما صارخ، للاحتقان الشعبيّ من سياسات الإفقار والإهمال والتمييز التي تنتهجها حكومة رئيس الوزراء اللبنانيّ فؤاد السنيورة، بات ضروريًّا أن تحسم المعارضة اللبنانيّة خياراتها الاعتراضيّة ضدّ السلطة، وتعلن تحرّكاتها، وتباشر. فإضافة إلى الإطاحة بالأمر الراهن، فإنّ الحسم ضروريّ لأسباب عديدة أخرى، منها:
أوّلاً، أنّ التلكّؤ، وقد طال، يبرّد الرصّ السياسيّ الجامع للمعارضة ويسمح بنفاذ الشقاق الطائفيّ إليها.
ثانيًا، أنّ التلكّؤ، يضيّع وضوح خطوات المعارضة ككتل سياسيّة وأحزاب وتيّارات منظّمة في دخان التململ الجماهيريّ الذي بات صعبًا لجمه والسيطرة على تصرّفاته ولغته.
ثالثًا، أنّ التلكّؤ يفتح المجال أمام أعداء لبنان الموحَّد للنفاذ من الجحور، والدفع نحو الاقتتال، كما حدث في 27 كانون الثاني، حين تحرّك قنّاصة رسميّون وميليشياويّون غير آبهين بكاميرات المحطّات التلفزيونيّة ترصدهم، وأطلقوا رصاصات الفتنة على المتظاهرين. وإن تلقّت رؤوس الشبّان وظهورهم الإصابات القاتلة، فإنّ التصويب الفعليّ، كان باتّجاهين:
الاتّجاه الأوّل، استدراج المتظاهرين للاشتباك مع الجيش بهدف ضرب الأجواء الإيجابيّة بين الجيش وجمهور حزب الله وأمل، استكمالاً لضرب العلاقات التنسيقيّة المتينة بين الجيش والمقاومة، والتي كانت تصفية اللواء الركن فرنسوا الحاج محطّة أساسيّة في سياقه؛ تصفية، فتحت المجال على ما يبدو لأن يتعامل الجيش مع المتظاهرين العزّل بما لم يكن ليرضى به مدير العمليّات اللواء الركن الشهيد. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، بهدف الدفع باتّجاه مزيد من ريبة المعارضة بالعماد ميشال سليمان كمرشّح توافقيّ لرئاسة الجمهوريّة، فيطول أمد الفراغ الرئاسيّ، ويترسّخ انقسام السلطة، وتزداد فرص الولايات المتّحدة في إدخال لبنان في مزيج من آتون العراق وغزّة والضفّة، ليليق به موقعه على خريطتها للشرق الأوسط الجديد.
والاتّجاه الثاني، استدراج ردّات فعل جماهيريّة من جهة الشيّاح "الشيعيّة" ضدّ عين الرمّانة "المارونيّة"، ليسقط شعبيًًّا في مار مخايل، جثّةً، التفاهمُ الذي جرى توقيعه في 6 شباط 2006 في كنيسة مار مخايل ذاتها! فغرائز لبنان أقوى من تفاهمات موقّعة، وهاجوج طائفيّته وماجوجها أعمق من ثقافة الروِيّة السياسيّة ورؤاها؛ ردّات فعل، ستجهد مستقبلاً الولايات المتّحدة ووكلاء سياستها المحلّيّين للاستمرار في افتعال ما يستدرجها، لأنّ الصدام الطائفيّ يستنزف جماهيريًّا تفاهم حزب الله والتيّار الوطنيّ الحرّ، ويضعفه، من خلال إحراج التيّار أمام قاعدته؛ إحراج ناشئ أيضًا من التصويب بالاتّجاه الأوّل، لِما للجيش اللبنانيّ في ذاكرة الكيان، والحاضرة، من نكهة "مسيحيّة"، ولِما للتيّار الوطنيّ الحرّ مع الجيش من علاقة عاطفة وأكثر. وكلاهما، الصدام الطائفيّ المباشر والاشتباك مع الجيش، يسحب التعاطف "المسيحيّ السياسيّ" شعبيًّا عن حزب الله، من جهة، وينعِش من جهة أخرى صفوف "القوّات" الخنجريّة ومنطقها.
مدّت الولايات المتّحدة الأميركيّة قطار حكومة رئيس الوزراء الحالي فواد السنيورة بالطاقة الدوليّة لسنتين، ولكن يبدو أنّ إهمال الطاقة الكهربائيّة المحلّيّة خارج بيروت الصغرى، والاستخفاف بالتيّار، يهدّدان بشدّة مسيرة القطار!
3
يبقى أن نذكّر، بل نحذّر، أنّ، وإضافة إلى إحراق الدواليب، يفخر اللبنانيوّن بعادة متوحّشة أخرى، يمارسون طقوسها، على اختلاف طوائفهم وأطيافهم ومشاربهم وشواربهم، في مناسبات سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة متعددّة، أعني بها عادة ذبح الخراف!
التحدّي أمام المعارضة، هو في إيقاف قطار تسلّط الحكومة من دون اللجوء إلى العادة الأولى ومثيلاتها، ومن غير الانجرار إلى العادة الثانية وتداعياتها.
|