إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

المحاكم الجنائية الدولية وتجاوزات مجلس الأمن الدولي

د. داود خيرالله

نسخة للطباعة 2009-05-06

إقرأ ايضاً


العدالة هي مبرر وجود المحاكم الدولية, والسلم العالمي مبرر وجود مجلس الأمن الدولي. فهل من علاقة بين العدالة والسلم العالمي؟ وهل يقوم سلم في عالم ترعى شريعة الغاب سلوك حكّامه وتغيب العدالة عن قرارات وأعمال مؤسساته؟ هذه أسئلة سوف أحاول الاجابة عليها من خلال تقييم دور مجلس الأمن في القيام بالمهمّة التي من أجلها وجد, وبخاصة عن طريق اقامة المحاكم الجنائية الخاصة, وكذلك تحريك الاجراءات القضائية أمام محكمة الجنايات الدولية. وبالنظر لضخامة الموضوع والوقت المتاح, سوف اركّز على نشاطات مجلس الأمن فيما له تأثير خاص على العالم العربي.

الحروب وما تسببت به من مآس ودمار في البشر والحجر عبر التاريخ وبخاصة ابّان الحرب العالمية الثانية, والتوق الى مجتمع دولي ترعى سلوكه قواعد قانونية تعكس التطوّر البشري, كانت في أسّ الحاجة الى نظام عالمي يحدّ من ميل الدول الى اللجوء للقوّة ويدفع بها للاحتكام الى قواعد قانونية ووسائل سلمية لحلّ النزاعات فيما بينها. التعبير عن هذه الرغبة كان في التوقيع على ميثاق هو بمثابة القانون التأسيسي للأمم المتحدة.

المادة الأولى من الميثاق تنصّ على مقاصد الأمم المتحدة وفي مطلعها

" حفظ السلم والأمن الدولي", وذلك بوسائل سلمية "وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي"

ميثاق الأمم المتحدة هو من أهمّ المواثيق الدولية. وبموجب المادة 103 منه, "اذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقا لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به, فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق".

لكنّ الميثاق يعكس الواقع السياسي الذي تلا الحرب العالميةالثانية وخاصة لجهة موازين القوى, ويحمل بين سطوره امكانية القضاء على الهدف من انشاء نظام عالمي قائم على حكم القانون وناقض لشريعة الغاب. يتجلّى ذلك بوضوح في العلل البنيوية لمجلس الأمن, الذراع التنفيذي لهيئة الأمم, والجهاز المولج, بصورة رئيسية, مسؤولية "حفظ السلم والأمن الدولي", أوّل وأهمّ مقاصد الأمم المتحدة.

يتألّف مجلس الأمن من خمسة عشر عضوا. خمسة منهم أعضاء دائمون يمثلون الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية, وعلى راسها الولايات المتحدة. تصدر قرارات مجلس الأمن في كافة المسائل غير الاجرائية, "بموافقة أصوات تسعة من أعضائه يكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة". أي أنّه لا يمكن لمجلس الأمن أن يصدر قرارا يعارضه أحد الأعضاء الدائمين. وهذا ما يسمّى حق النقض (أو الفيتو) وهو امتياز تتمتع به كل من الدول الدائمة العضوية.

اذا لم يراع المجلس الضوابط القانونية ومبادئ العدالة المفروضة في الميثاق في كافة قراراته, فانّ هذا الامتياز من شأنه, ليس فقط الاخلال بمبدأ المساواة في السيادة بين جميع اعضاء الأمم المتحدة, ( وهو أوّل المبادئ التي ينصّ عليها الميثاق ), ولكن دفع تلك الدول, وخاصة أقوها, الى اعتبار نفسها خارج القانون في كل ما يمكن أن يخلّ بالسلم والأمن الدولي.

خروج مجلس الأمن في قراراته عن القانون الدولي, لابل عن الصلاحيات الممنوحة له في الميثاق, أمر مقلق ويحظى باهتمام بالغ من قبل أهل القانون, خاصة الأكاديميين منهم, لكنّه لا يلقى الاهتمام الواجب من قبل أهل الحكم وباحثي ومنظّري العلوم السياسية. وهذا أمر مؤسف لأن فعالية مجلس الأمن والواجب القانوني والمعنوي في احترام قراراته والعمل بها, مرتبط بمدى التزام المجلس الضوابط القانونية في ممارسة صلاحياته.(1)

بما أنّ الوظيفة الأساسية التي من أجلها وجد مجلس الأمن, هي "حفظ السلم والأمن الدولي", وهي المصدر الرئيسي لشرعية قراراته, سوف أركّز فيما يلي, على سلوك المجلس فيما يتعلّق بجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وسواها من الجرائم التي تعتبر بذاتها مخلّة بالسلم والأمن الدولي وبالاجراءات القضائية التي يتخذها المجلس لمعالجة هذه الجرائم.

الرغبة في الحد من وحشية الحروب, والزام المتحاربين بروادع للحدّ من مآسيها, ربما كانت من عمر الحروب. ومع تطور القانون الدولي, وربما كان تطوّر قانون الحرب عامل أساسي في هذا التطور , ان لجهة الحق في شنّها (جوس اد بيللوم) أو لجهة شرعية استعمال السلاح والسلوك القتالي للمتحاربين (جوس اين بيللو). لكنّ الالتزام بقوانين الحرب وقواعد القتال لم يكن يراعى سوى عن طريق المعاملة بالمثل, خاصة في زمن كان فيه اللجؤ الى القوّة من الحقوق السيادية للدول في حلّ النزاعات فيما بينها. ولم تكن هناك محاكم دولية لمعاقبة المسؤولين عن مخالفة قوانين الحرب وارتكاب جرائم ضد الانسانية. فكان القانون لهذه الجهة, هو قانون الغالب وتطبيقه رهن بارادته.

الفظائع التي ارتكبت خلال الحربين العالميتين في القرن الماضي, والتي دفعت الى نظام أمني جماعي قائم على تحريم استعمال القوّة لحلّ النزاعات بين الدول, هذه الفظائع كانت كذلك وراء الوعي, على صعيد عالمي, لضرورة اقامة محاكم دولية تعاقب مرتكبي جرائم الحرب, والجرائم ضدّ الانسانية.

بعد الحرب العالمية الثانية قام الحلفاء بانشاء محكمة في نورمبرغ, لمحاكمة المسؤلين الألمان عن الحرب, وأخرى في طوكيو, لمحاكمة المسؤلين اليابانيين. فكانت هذه باكورة المحاكم الجنائية الدولية لمحاكمة المسؤلين عن جرائم الحرب وغيرها من الجرائم ضد الانسانية.

لكنّ محاكم نورمبرغ وطوكيو,وبالرغم من كونها ضمّت مشاهير من رجال القانون في الدول الحليفة, وتبنّت اجراءات قضائية متطورة في سير المحاكمات وجمع الأدلّة, الاّ أنّها لم تسلم من الانتقاد كونها صنيعة المنتصر لمحاكمة المهزوم ولم تتعرّض لأيّ من الجرائم التي ارتكبها قادة وجيوش الحلفاء على الأراضي الألمانية واليابانية, بما في ذلك استعمال السلاح النووي لأوّل مرة في التاريخ.

بعد انتهاء المحاكمات في نورمبرغ وطوكيو, قامت الجمعية العامة في الأمم المتحدة عام 1948 باتخاذ قرار يعبّر عن الحاجة الى محكمة دولية مستقلّة لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب, وسواها مما يخالف القانون الدولي. الاّ أنّ هذه المحكمة لم تر النور سوى بعد خمسين عاما, حين جرى التوقيع على الاتفاقية المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية في روما عام 1998.

انّ المجازر والجرائم التي ارتكبت خلال حروب داخلية في أماكن عديدة من العالم خلال العقود الثلاثة الماضية, مهّدت وربما سرّعت في تبنّي اتفاقية روما التي هي بمثابة القانون التأسيسي لمحكمة الجنايات الدولية.

الجرائم المروّعة التي ارتكبت خلال حروب التفكك والانفصال لما كان يعرف بيوغسلافيا سابقا, والحروب القبلية في روندا, واستجابة للضغوط الدولية والشعبية, وخاصة من قبل منظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان لوقف المجازر ومعاقبة المسؤولين عنها, قام مجلس الأمن بانشاء محكمة الجنايات الدولية من أجل يوغوسلافيا سابقا في أيار 1993 وبانشاء محكمة الجنايات الدولية من اجل روندا في تشرين الثاني 1994 .

أثناء النظر في انشاء المحكمة الخاصة بيوغسلافيا سابقا, قام نقاش حول صلاحية مجلس الأمن في انشاء مثل هذه المحكمة, خاصة وأن لا نص في الميثاق على مثل هذه الصلاحية. الرأي الغالب, بالنسبة للأساس القانوني لصلاحية مجلس الأمن, كان في أنّ فظاعة الجرائم التي ارتكبت وانعكاساتها على الرأي العام العالمي, تشكل بحدّ ذاتها تهديدا للسلم والأمن الدولي, وأنّ الميثاق يعطي مجلس الأمن سلطات واسعة لاتخاذ الاجراءات الكفيلة بحفظ السلم والأمن الدولي.

فاذا كان مجلس الأمن يتمتّع بصلاحية استعمال القوّة لوقف الحروب, فانّه من الطبيعي أن يكون باستطاعته اتخاذ اجراءات قانونية لمحاكمة المسؤولين عن تلك الحروب, وما يرتكب خلالها من جرائم, وذلك بهدف معاقبة الفاعلين وردع من تسوّل له نفسه الاخلال بالسلم العالمي مستقبلا.

في الواقع لقد مهّد مجلس الأمن لقراراته في انشاء المحاكم الجنائية الدولية بشأن يوغسلافيا سابقا وروندا, بقرارات عدّة تؤكّد على الاخلال بالسلم العالمي من خلال الأعمال الحربية والجرائم التي كان ارتكابها يهزّ المجتمع الدولي, وقد اتخذ قرارات عدّة بهدف وقف القتال واحترام قوانين الحرب والقوانين الانسانية قبل اقامة المحاكم.

لم يكن هناك أدنى شك بأنّ الحرب الأهلية والمجازر التي ارتكبت في كل من يوغوسلافيا سابقا ورواندا, كانت تشكّل تهديدا للسلم العالمي كما كانت تثيرغضب المجتمع الدولي على الصعيد الرسمي والشعبي. كلّ ذلك كان يبرر لمجلس الأمن اللجوء الى الفصل السابع من الميثاق لأصدار قراراته بانشاء محاكم جنايات دولية في الحالتين كلتيهما.

النموذج القانوني الذي لجاء اليه مجلس الأمن ليقيم محاكم يوغسلافيا ورواندا, هو قرارمنفرد لمجلس الأمن, اتّخذ بموجب الفصل السابع من الميثاق, الذي يعطي قرارات المجلس والاجراءات التي يتخذها قوّة الزامية خاصة بالنسبة لكافة الدول الأعضاء, وذلك لأنّ الغاية من هذه الاجراءات هي علاج تهديد حالّ أو اخلال وقع بالسلم العالمي.

اعتمد مجلس الأمن نماذج أخرى لاقامة محاكم جنايات وصفت بأنّها ذات طابع دولي, وذلك عن طريق اتفاقيات ثنائية بين الأمم المتحدة, وسلطة دولة قامت فيها حرب أهلية أو اضطرابات ارتكبت خلالها جرائم ضد الأنسانية وأخرى يعاقب عليها القانون الدولي, بالاضافة الى جرائم يعاقب عليها القانون المحلّي, كما حصل في كامبوديا وسيراليون وسواها من الدول. وقد سمّيت هذه بالمحاكم المخطلتة أو الهجينة , لأنّها كانت مؤلفة من قضاة دوليين وآخرين محليّين. وكانت تتولّى بصورة رئيسية تطبيق القانون الجنائي الدولي بالنسبة للجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي, وهي السبب الأساس في انشاء هذه المحاكم, وبعض أحكام القانون المحلّي بالنسبة لأعمال يعاقب عليها القانون الوطني ولا تعتبر جرائم بنظرالقانون الدولي.

عدد القضاة الأجانب, بالنسبة للقضاة الوطنيين, كان يخضع للاتفاق بين الأمم المتحدة وسلطة الدولة المعنية. ففي محكمة الجنايات الدولية الخاصة بسيراليون مثلا, القضاة الدوليون يشكّلون اكثرية القضاة, بينما أصرّت السلطات الكمبودية أن تكون اكثرية القضاة من الكمبوديين في المحكمة الخاصة بكمبوديا, وذلك حفاظا على ما أمكن من مظاهر السيادة الوطنية, مع الافادة من الخبرة القانونية التي يمكن أن ياتي بها القضاة الدوليون.

ومن أبرز المحاكم الهجينة التي انشأها مجلس الأمن هناك المحكمة الخاصة بلبنان, والتي سوف أوليها اهتماما خاصا عند الحديث عن ممارسات وتجاوزات مجلس الأمن فيما يتعلّق بتطبيق القانون بشان الجرائم التي تشكّل تهديدا للسلم والأمن الدولي.

المحاكم الدولية الخاصة التي قام مجلس الأمن بانشائها لمعالجة أوضاع مخلّة بالسلم العالمي, واستجابة لضغوط دولية, لم تسلم من الانتقاد لأنّ المحاكم التي تنشأ بعد حصول العمل الجرمي, غالبا ما تكون في تشكيلها وصلاحياتها, مفصلّة لمعالجة ظروف سياسية وأوضاع خاصة, ناهيك بالكلفة المادية والمدّة الزمنية الواجبة لبلوغ أهدافها, هذا اذا نجحت.

فوجود محكمة دائمة ذات صلاحية لمحاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى, التي تهزّ المجتمع الدولي وتخلّ بالسلم العالمي, هي اكثر فاعلية وكفاءة وملائمة. انّها أكثر سرعة في اتخاذ القرارات. ولاستمرارية وجودها وفعاليتها قوّة ردعية بالنسبة لمجرمي الحرب المحتملين, لا يوفّرها احتمال اقامة محاكم خاصة. كلّ ذلك سرّع في العمل على اقراراتفاقية روما المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية.

في السابع عشر من تمّوز 1998, وقّعت120 دولة بالأحرف الأولى, في روما, على تلك الاتفاقية وقد أصبحت نافذة المفعول في الأول من تموز 2002 بعد أن جرى ابرامها من قبل 60 دولة موقّعة عملا بما نصّت عليه الاتفاقية.

مركز المحكمة الدائم هو لاهاي في هولاندا, ولها اختصاص بصورة حصرية في جرائم الابادة الجماعية, الجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب. تتناول الاتفاقية تعريفا ووصفا تفصيليا للأعمال التي تشكّل كلا من الجرائم المذكورة. وسيكون للمحكمة اختصاص فيما يتعلّق بجريمة العدوان بعد أن يجري تعريفها بدقّة بموجب تعديل, كما تنصّ عليه الاتفاقية.

تحرّك الدعوى أمام محكمة الجنايات الدولية بطرق ثلاث: (المادة 13)

الأولى: أن تحيل دولة عضو, أي موقّعة على اتفاقية روما, الى مدّعي عام المحكمة حالة قد يكون ارتكب فيها جريمة أو أكثر هي من اختصاص المحكمة.

الثانية: أن يحيل مجلس الأمن الدولي الى المدّعي العام لدى المحكمة, بموجب الفصل السابع من الميثاق, حالة يمكن أن يكون قد ارتكب فيها واحدة أو أكثر من الجرائم المذكورة آنفا.

والثالثة: أن يقوم مدّعي عام المحكمة بصورة تلقائية وبناء على معلومات حصل عليها بالنسبة لوقوع جريمة هي من اختصاص المحكمة.

في حال تحريك الاجراءات القضائية أمام المحكمة من قبل دولة عضو (الحالة الأولى ) , أو بصورة تلقائية من قبل المدّعي العام لدى المحكمة (الحالة الثالثة), تمارس المحكمة سلطتها القضائية فقط اذا كانت الدولة التي وقعت الجريمة على أرضها, هي من الدول التي قبلت بالسلطة القضائية للمحكمة, أو اذا كان المتّهم ينتمي الى دولة قبلت بسلطة المحكمة القضائية. (المادة 12)

أمّا اذا كان تحريك الدعوى قد حصل عن طريق احالة من قبل مجلس الأمن, فانّ الاتفاقية, أي النظام الأساسي للمحكمة, لا تنصّ على أيّة شروط أو حدود جغرافية لاختصاص المحكمة أو ممارستها لسلطتها القضائية. ولذلك قد تمكّن مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية من القيام بتحقيقات بشان ما يجري في دارفور, واصدرت المحكمة مذكرة توقيف بحقّ رئيس دولة غير موقّعة على اتفاقية روما ورافضة لسلطتها القضائية.

هناك من يرى ان المحكمة الدولية قد خرجت عن حدود سلطتها لأنّ السودان ليس دولة موقّعة على اتفاقية روما, وكذلك لأنّها تناولت بعملها رئيس دولة يتمتّع, بموجب القانون الدولي, بحصانة من الملاحقة القضائية.

قد تكون المحكمة الدولية أوالمدعي العام لديها ارتكبو أخطاء مهنية أو قانونية, فليس لديّ أدلّة للاثبات أو النفي. لكنّ اطلاق صلاحية المحكمة فيما يتعلّق بالتحقيقات والاجراءات القضائية التي يحرّكها مجلس الأمن, تستند بنظري, بالاضفة الى النصّ الواضح في اتفاقية روما, الى سلطات مجلس الأمن الواسعة فيما يتعلّق بحفظ السلم والأمن الدولي, والى كون الجرائم المنصوص عليها في نظام المحكمة الأساسي تشكّل بذاتها تهديدا للسلم العالمي.

فالأساس القانوني لتحريك الاجراءات القضائية لدى محكمة الجنايات الدولية من قبل مجلس الأمن, وبقطع النظر عن وضوح اتفاقية روما لهذه الجهة, لا يختلف عن الأساس القانوني لسلطة المجلس في اقامة محاكم دولية خاصة, كما فعل بالنسبة لمحاكم الجنايات الدولية بشأن يوغوسلافيا سابقا ورواندا كما بينّا آنفا.

أمّا بالنسبة لحصانة الرؤساء والمسؤلين الحكوميين, فانّ المادة 27 من الاتفاقية تنصّ على أنّ الصفة الرسمية والحصانات المتعلّقة بها, أكان مصدرها القانون الدولي أو القانون المحلّي, فهي لا تلغي صلاحية المحكمة. ويخصّ النصّ بالذكر الصفة الرسمية لرئيس الدولة أو الحكومة.

بقطع النظرعمّا اذا كان قرارالمحكمة الدولية في اصدار مذكّرة توقيف بحق الرئيس عمر البشير هو بدافع سياسي أم لا, فالمسؤلية الأساسية في استغلال المحكمة لمآرب سياسية تقع على عاتق مجلس الأمن صاحب السلوك الكيفي في ممارسة سلطته في حفظ السلم العالمي, خاصة عندما يتعلّق الأمر بجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية كمصدر تهديد للسلم والأمن الدولي. فالمجلس الذي حرّك الاجراءات القضائية لدى المحكمة, هو الوحيد الذي, بموجب المادة 16 من نظام المحكمة,باستطاعته ايقافها.

القلق من صلاحية مجلس الأمن في تحريك الاجراءات القضائية لدى محكمة الجنايات الدولية عبّر عنه عدد من أعضاء الأمم المتحدة قبل انشاء المحكمة الدولية. ففي المؤتمر الذي انعقد في حزيران عام 1998 في الأمم المتحدة قبل التوقيع على اتفاقية روما, حذّر المندوب الهندي, كما سواه, بأنّ " أي دور بارز لمجلس الأمن في تحريك سلطة المحكمة القضائية سوف يشكّل اخلالا بمبدأ المساواة في السيادة, وكذلك بمبدأ المساواة أمام القانون, لأنّه ينطوي على فرضية أن الدول الخمس التي تتمتّع بحق الفيتو, هي بشكل لا يقبل الجدل لا تقوم بأعمال جرمية منصوص عنها في نظام المحكمة, أو أنّها فوق القانون وتتمتّع بحق شرعي بعدم التعرّض للمحاكمة. بينما جميع أبناء البشرالمنتمين الى دول أخرى يمكن أن يرتكبوا جرائم يعاقب عليها القانون الدولي."(2)

أنّ جميع المخاوف والتحذيرات من دور مجلس الأمن في تحريك الاجراءات القضائية لدى المحكمة الدولية كانت مبنيةعلى الخوف من أنّ مجلس الأمن بطبيعته البنيوية سوف يسيء استعمال سلطته, لجهة التجرّد والموضوعية في سوق مرتكبي جرائم تخلّ بالسلم العالمي أمام محكمة الجنايات الدولية. وهذا بالضبط ما حصل ويحصل في ممارسات مجلس الأمن الماضية والحاضرة.

المشاهد بأمّ العين ما نقلته الفضائيات عن جرائم مروّعة ارتكبت في العراق ولبنان وغزّة, ولم يحرّك مجلس الامن ساكنا حتى لجهة التحقيق لكشف المسؤولية عن تلك الجرائم, يستصعب الاقتناع ان الدافع الأساسي في احالة مجلس الأمن أحداث دارفور الى مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية كان تحقيق العدالة أو السلم العالمي وليس استجابة لاملاءات سياسية. خاصة وانّ الاجراءات التي قامت بها المحكمة, قد فاقمت الأوضاع الأمنية في دارفور, ودفعت بالراي العام والمسؤولين, في العديد من الدول العربية والأفريقية, الى التعاضد مع الرئيس السوداني في تحدّيه لقرار المحكمة الدولية.

ولكن ربما يكون مجلس الأمن قد بلغ ذروة التسييس للاجراءات القضائية وسؤ استعمال صلاحياته, وعلى الأرجح تجاوزها قانونيا, في رعايته واقامته للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمحاكمة المسؤولين عن اغتيال رئيس مجلس الوزراء اللبناني سابقا رفيق الحريري.

تسييس الاجراءات القضائية, الذّي أوّل ضحاياه العدالة, بدأ مع تعيين لجنة تقصّي الحقائق. واستمرّ مع لجنة التحقيق الدولية وخاصة في التجاوزات القانونية لديتليف ميليس, أول رئيس للجنة التحقيق, وقرارات مجلس الأمن التي صدرت استنادا الى تقارير مشوبة بأخطاء فادحة. وقد بلغت ذروتها ابّان انشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.

الاتفاق المبدأي بين اللبنانيين على انشاء محكمة دولية تتولّى محاكمة المسؤولين عن اغتيال الرئيس الحريري, كان متوافرا, وقد عبّرت عنه لجنة الحوار الوطني التي ضمّت ممثلين لكافة الطوائف والفعاليات السياسية. بدأ الخلاف بينهم يظهر عند البدء بدراسة نص مسوّدة الاتفاقية والنظام الأساسي للمحكمة التي عرضها ممثلو الأمم المتحدة, وتحديدا لجهة سلطة المحكمة ووظائفها في ضؤ الرغبة في التوفيق بين الحفاظ على السيادة اللبنانية وتوفير الضمانات اللازمة لبلوغ العدالة.

آنئذ أظهر ممثلو الأمم المتحدة انحيازا تاما في المفاوضات الى فريق لبناني ضدّ آخر, ضاربين عرض الحائط بأحكام الدستور اللبناني لجهة ابرام الاتفاقيات. فقد امتنع ممثلو الأمم المتحدة عن الاجتماع برئيس الجمهورية الّذي بموجب المادة 53 من الدستور اللبناني, يتمتّع بالصلاحية الأساسية للتفاوض بشأن الاتفاقات الدولية. ولم يأخذوا بعين الاعتبار اياّ من الملاحظات القانونية على مسوّدة النص التي كان يرسل بها الى مسؤولي الأمم المتحدة.

سلوك ممثلي الأمم المتحدة يشكّل خرقا فاضحا للبند السابع من المادة الثانية للميثاق التي تنص, أن "ليس في هذا الميثاق ما يسوّغ للأمم المتحدة أن تتدخّل في الشؤون التي تكون في صميم السلطان الداخلي لدولة ما....". ولا يمكن الاعتداد بالاستثناء المذكور في هذه المادة, لجهة "تطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع" من الميثاق. فالتفاوض بشأن اتفاقية دولية لا يعقل أن يوصف بأنّه من تدابير القمع الواردة في الفصل السابع. وفي جميع الأحوال لم يصدر عن مجلس الأمن أي قرار يعطي الالتزام بأحكام الدستور اللبناني هذه الصفة.

أنّ موقف المفاوض الأممي هذا, عمّق الهوّة بين اللبنانيين, وخلق أزمة حكم لا تزال آثارها تتفاعل في الانقسامات السياسية والتوترات الأمنية في لبنان. فالمؤسسة الدولية التي وجدت من أجل حفظ السلم العالمي, كانت عنصرا فاعلا في خلق الانقسامات والتوترات الأمنية الداخلية والاقليمية.

وبالرغم من الانقسامات الداخلية, وعدم توفر الشروط الدستورية لجهة ابرام اتفاقية دولية بين لبنان والأمم المتحدة, ان لجهة السلطة اللبنانية الصالحة للتفاوض بشأن الاتفاقية المنشئة للمحكمة الدولية, أو لجهة ابرامها من قبل السلطة التشريعية, فقد قام مجلس الأمن في 30 أيّار 2007 بقراره رقم 1757 وباللجوء الى الفصل السابع من الميثاق, باعطاء الصيغة التنفيذية لاتفاقية غير مستوفية الشروط الدستورية لنفاذها. هكذا أنشأ مجلس الأمن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. خمسة من أعضاء المجلس امتنعوا عن التصويت, بمن فيهم الصين وروسيا, اعتبارا منهم أن الشروط التي تبرر اللجؤ الى الفصل السابع من الميثاق غير متوافرة.

درجة التسيس التي بلغها مجلس الأمن للاجراءات القضائية الدولية تظهر ليس فقط من خلال سلوك سياسيين ومسؤولين من الدول الاكثر نشاطا في تبنّي انشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان, ولكن من خلال فرادة هذه المحكمة وما تمتاز به عن كل ما سبقها من اجراءات قضائية أو محاكم جنائية دولية.

1-المحكمة الخاصة بلبنان هي أوّل محكمة جنائية دولية أقيمت بقرار من مجلس الأمن لا تنظر بجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية. لابل انّها المحكمة الوحيدة التي تطبّق القانون المحلّي حصرا ( اللبناني في وضعنا الحالي) على الجريمة أو الجرائم التي تنظر بها. جميع المحاكم الجنائية الأخرى التي أنشأها مجلس الامن, أكان انشاؤها بقرار منفرد منه, أونتيجة اتفاقية ثنائية مع الدولة المعنية, تطبّق القانون الدولي بصورة رئيسية.

2-الجريمة الأساسية التي سوف تنظر بها المحكمة الخاصة بلبنان هي جريمة قتل, الأرجح أنّها بدوافع سياسية, وصفت في قرارات مجلس الأمن بأنها عمل ارهابي. ليس هناك تعريف متفق عليه دوليا لجريمة الارهاب, أو لعقوبة معيّنة للعمل الارهابي. لا بل انّ جميع قرارات مجلس الأمن, المتعلّقة بمكافحة الارهاب, تدعو الدول الأعضاء لتبنّي تشريعات داخلية تعتبر جرائم الأرهاب جرائم خطيرة وتصف لها العقوبات الملائمة. (3)

وليس هناك قرارات قضائية لمحاكم دولية نظرت سابقا بجريمة الأرهاب يمكن أن تشكّل هداية للمحكمة الخاصة بلبنان. لا بل هناك قرارات قضائية لمحاكم وطنية, في فرنسا والولايات المتحدة على وجه التحديد, لا تعتبر الارهاب جريمة بموجب القانون الدولي. (4) لذلك كان لا بدّ من اللجوء الى القانون الجنائي اللبناني حصرا.

فضلا عن ذلك لم يكن بالأمكان احالة عملية اغتيال الرئيس الحريري على محكمة الجنايات الدولية, ليس لأنّ لبنان ليس عضوا فيها, فالمادة 12 من نظام المحكمة تعطي للمحكمة الدولية الصلاحية, اذا قبلت الدولة غير العضو بصلاحية المحكمة. انّ الصعوبة في احالة مسألة اغتيال الرئيس الحريري على محكمة الجنايات الدولية تكمن في أنّ الجريمة التي سوف تنظر بها, أي جريمة الارهاب, لا وجود لها بين الجرائم التي تدخل في اختصاص محكمة الجنايات الدولية والتي جرى شرحها بالتفصيل في معاهدة روما.

3-من مميزات المحكمة الخاصة بلبنان كذلك, أنّها المحكمة الدولية الأولى, التي تقام من قبل مجلس الأمن لمحاكمة مسؤولين عن جريمة اغتيال شخصية رسمية مشهورة. فلم يسبق للمجتمع الدولي أن تحرّك لمحاكمة مسؤولين عن مثل هذه الجريمة. واذا تصوّرنا أن مجلس الأمن, بما له من سلطة استنسابية, اعتبر أن مثل هذه الجريمة يشكّل تهديدا للسلم العالمي, وهو الأمر الوحيد الذي يعطي شرعية لقرار مجلس الأمن, فاغتيال رئيسة وزراء باكستان, بنازير بوتو,الذي تلى اغتيال الرئيس الحريري, لم يلق اهتماما من قبل مجلس الأمن مشابها للذي لقيه اغتيال الرئيس الحريري بالرغم من أنّ التشابه في طريقة الاغتيال والظروف السياسية التي صاحبته لا تعطي اي تبرير لمعاملة مختلفة.

4- لكنّ العامل, في فرادة المحكمة الخاصة بلبنان, الأشدّ خطورة في تجاوز مجلس الامن صلاحياته والأكثر أثرا على التشكيك بشرعية المحكمة, هو في أنّ أساسها القانوني يكمن في اتفاقية ثنائية غير مكتملة الشروط الدستورية لأبرامها من الجانب اللبناني وقد جرى فرضها من قبل مجلس الامن بقرار اتّخذه المجلس بموجب الفصل السابع من الميثاق.

فالاتفاقية, التي كما جميع الاتفاقيات, لا يمكن الاعتداد بشرعيتها, وبالتالي نفاذها, الاّ اذا كانت ناجمة عن ارادة حرّة لا يشوبها اكراه, ومستوفيةالشروط الدستورية لأبرامها, اكتسبت وجودها بقرار من مجلس الأمن وبموجب صلاحيات أعطيت في الميثاق لمجلس الأمن لاتخاذ اجراءات لمعالجة حالات الاخلال بالسلم والأمن الدولي الأكثر خطورة. فهل انّ التفاوض من قبل الأمم المتحدة مع الجهة الصالحة دستوريا, أو الحصول على موافقة السلطة التشريعية التي وحدها تتمتّع بحق ابرام المعاهدات, أمر يهدّد السلم والأمن الدولي؟ فضلا عن ذلك, لقد نقض مجلس الأمن القواعد التي اعتمدها المجلس سابقا فيما يتعلّق باللجوء الى الفصل السابع من الميثاق في انشائه المحاكم الجنائية الدولية.

لجاء مجلس الامن الى الفصل السابع في حالتين سابقتين. الأولى انشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا سابقا, وتلك الخاصة برواندا. في كلتا الحالتين سبقت قرار مجلس الامن بانشاء المحكمة الدولية, قرارات عدّة تؤكّد الاخلال بالسلم والامن الدولي عن طريق الامعان في ارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون الدولي, ومجازرهزّت الضمير العالمي. ما أعطى مسوّغا للجّؤ الى الفصل السابع لانشاء محاكم ينحصر اختصاصها بالنظر في جرائم يعاقب عليها القانون الدولي

أمّا في حال انشاء المحكمة الخاصة بلبنان, فيبدو أنّ مجلس الأمن قد لجاء الى الفصل السابع لكيّ يبرر تدخلّه في الشؤون الداخلية اللبنانية, بما يخالف المادة الثانية من الميثاق, ولكي يقيم محكمة دولية ينحصر اختصاصها بالنظر في جرائم يعاقب عليها ويطّبق بشانها القانون الداخلي فقط.

واضحة المعايير المزدوجة, والممارسة الكيفية لسلطة مجلس الأمن في تقدير ما يشكّل تهديدا للسلم والأمن الدولي, وفي الاجراءات التي يتّخذها لحفظ السلم العالمي. السؤال الواجب طرحه هو هل من حدود أو ضوابط قانونية على مجلس الأمن التقيّد بها في ما يتّخذ من اجراءات؟ واذا وجدت هذه الحدود فما هي وما الذي يمكن القيام به في حال تجوازها؟

هناك من يعتبر أن مجلس الأمن هو ذو طبيعة سياسية بامتياز وأنّ الميثاق يعطيه صلاحيات واسعة جدّا في ما يتعلّق بحفظ السلم العالمي من الصعب تجاوزها.(5) السلطات الواسعةالتي يتمتّع بها مجلس الأمن مصدرها المادة 24 (1) من الميثاق التي جاء فيها أن "....يعهد أعضاء (الأمم المتحدة) الى مجلس الأمن بالتبعات الرئيسية في أمر حفظ السلم والأمن الدولي ويوافقون على انّ هذا المجلس يعمل نائبا عنهم في قيامه بواجباته التي تفرضها عليه هذه التبعات".

لم يكتف الأعضاء الموقّعين على الميثاق بان عهدوا الى مجلس الأمن بالتبعات الرئيسية فيما يتعلّق بحفظ السلم العالمي, وانّما وافقوا ايضا بانّه يقوم بذلك نيابة عنهم. وفي المادة 25 من الميثاق: "يتعهّد أعضاء الأمم المتحدة بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفق هذا الميثاق".

لا شك أن المادة 24 من الميثاق تعطي مجلس الأمن صلاحيّات واسعة جدّا والمادة 25 تلزم أعضاء الأمم المتحدة بالقبول بها وبتنفيذها. لكن هل يعني ذلك أنّ مجلس الأمن هو في حلّ من أيّة قيود أو ضوابط قانونية فيما يقوم به من اجراءات؟

أنّ غالبية العلماء والباحثين في القانون الدولي يعتبرون انّ مجلس الأمن ملزم بالحدّ الأدنى عدم الخروج على الضوابط القانونية المنصوص عنها في الفصل الأول من الميثاق, أي مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها, وبالحدود التي يفرضها القانون الدولي االقطعي ويعرف بالممارسة الغربية بالاسم اللاتيني ( جوس كوجنس) وهو يعلو بالتراتبية القانونية على القانون العرفي والاتفاقيات الدولية المناقضة له ولا ردّ لالزاميته. فاذا اتخذ مجلس الأمن قرارا بموجب الفصل السابع من الميثاق, أي أنّه يتمتّع بأعلى درجة من الالزامية, وكان مخالفا لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها, أو مخالفا لأحكام القانون الدولي القطعي, فانّ هذا القرار لا يتمتع بالصفة الشرعية(6).

ما هي اذا الضوابط القانونية التي جاء النصّ عليها في الميثاق, وعلى مجلس الأمن التقيّد بها؟

البند الأول من المادة الأولى من الميثاق تفرض أن تكون التدابير التي تتّخذها الأمم المتحدة لحفظ السلم والأمن الدولي, المقصد الأساسي لوجود الهيئة الدولية, "وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي". كما تركّز نفس المادة في البندين الثاني والثالث على "التسوية في الحقوق بين الشعوب" وعلى "احترام حقوق الانسان.... للناس جميعا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء” كأساس للعلاقات الودّية بين الأمم وتحقيق التعاون الدولي, المقاصد الأخرى للأمم المتحدة. كما تعتبر المادة الثانية من الميثاق أنّ المساواة في السيادة بين جميع الدول وعدم التدخّل في "الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما" من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الهيئة الدولية. وتفرض المادة الرابعة والعشرون على مجلس الأمن أن يقوم بالتبعات الموكلة اليه "وفقا لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها".

ليس هناك اجماع بين الخبراء والباحثين في القانون الدولي على كافة الممارسات التي تعتبر مخالفة للقانون الدولي القطعي. لكنّ لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة, والمؤلّفة من كبار الأكاديميين العاملين في حقل القانون الدولي, وهي تعكس عادة في دراساتها واستنتاجاتها الرأي الراجح بين رجال القانون وقرارات المحاكم الدولية, اعتبرت أنّ جرائم العدوان, والابادة الجماعية, والعبودية, والتمييز العنصري, والجرائم ضدّ الانسانية, والتعذيب, وحق تقرير المصير كلّها تدخل في نطاق القانون الدولي القطعي.(7)

يعتبر خبراء وباحثون في القانون الدولي أنّ العديد من حقوق الانسان هي جزء هام من القانون الدولي القطعي, وبشكل خاص حقّ أو مبدأ المساواة أمام القانون. فبالاضافة الى كونه ورد في المادة الأولى من الميثاق, فهو يتصدّر الاعلان العالمي لحقوق الأنسان وميثاق الوحدة الأوربية للحقوق الأساسية والعديد من الاتفقيات والمواثيق الدولية الأخرى.

وكذلك مبدأ التناسبية بماله من تأثير على شرعية الاجراءات غير المشروعة بذاتها ولكنّها تكتسب شرعيتها كردّة فعل لعمل غير مشروع, كما في ممارسة حق الدفاع عن النفس, وقوانبن الحرب, وبعض مجالات ممارسة حقوق الانسان وسواها, هو كذلك جزئ من القانون الدولي القطعي.

المعايير المزدوجة التي يعتمدها مجلس الأمن في قراراته التي يتّخذها, أو يمتنع عن اتّخاذها, في ما يتعلّق بحفظ السلم والامن الدولي, خاصة في العالم العربي, خرق فاضح لمبدأ المساواة أمام القانون. فتجاهل مجلس الأمن لجرائم الحرب والجرائم ضدّ الانسانية التي ارتكبتها اسرائيل في لبنان وفوق الأرض الفلسطينية, وقمعها ممارسة الشعب الفلسطيني لحقهّ في تقرير مصيره, وكذلك قرارات مجلس الامن التي تضفي شرعية على الحرب العدوانية على العراق والسكوت عن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الانسانية والتعذيب التي ارتكبت خلال الغزو الأميركي والمتعدد الجنسيات للعراق, كلّ ذلك يعطي الدليل القاطع على خروج مجلس الأمن عن الضوابط القانونية الواجبة لشرعية قراراته.

مدى احترام مجلس الأمن لمبدأ المساواة أمام القانون, ولمبدأ التناسبية في ممارسة سلطته الاستنسابية أو التقديرية لما يهدّد السلم والأمن الدولي, والتدابير الواجب اتّخاذها بهذا الصدد, تجلّى بشكل خاص في لبنان. فالمؤسسة الدولية المولجة اتّخاذ التدابير الّلازمة لحفظ السلم والامن الدولي, رأت أنّ جريمة قتل هدفها شخصية سياسية مرموقة, تشكّل تهديدا للسلم العالمي يقتضي اقامة لجنة تحقيق دولية واللجوء الى الفصل السابع من الميثاق, لانشاء محكمة دولية خاصة بلبنان أساسها القانوني اتفاقية غير مستوفية الشروط الدستورية لابرامها. أمّا جرائم الحرب, والجرائم ضدّ الانسانية التي ارتكبتها اسرائيل في لبنان صيف ال2006, وقد ذهب ضحيّتها الالاف, وحصلت في فترة لاحقة لتاريخ اغتيال الرئيس الحريري وسابقة لأنشاء المحكمة الخاصة بلبنان, فلم تستوقف مجلس الأمن لحظة لمجرّد التفكير في اجراء تحقيق يمكن أن يشكّل رادعا عن تكرار ارتكاب مثل هذه الجرائم, ناهيك عن ادخال مثل هذه الجرائم ضمن اختصاص المحكمة.

سهل اثبات أنّ مجلس الأمن الدولي يمعن في تجاوز الحدود القانونية الملزمة والتي تضفي شرعية على قراراته والتدابير التي يتّخذها. ولكن ما لم يكن هناك مرجعية قضائية أو وسائل أخرى يمكن اللجوء اليها لتعديل سلوك هذه المؤسسة الدولية, فليس للقول بأن هناك ضوابط قانونية على مجلس الأمن التقيّد بها من معنى على صعيد الواقع, ومع مرّ الزمن واستمرارهذا السلوك, سوف يفقد المجلس السلطة المعنوية لاحترام وتنفيذ قراراته.( 8 )

في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي تمّ فيه نقاش ميثاق الأمم المتحدة ونظام محكمة العدل الدولية, بحث اقتراح أن تعطى محكمة العدل الدولية صلاحية النظر في قانونية قرارات مجلس الامن, وقد رفض هذا الاقتراح لصالح أن تبقى صلاحية النظر بقانونية التدابير التي يتّخذها جهاز من أجهزة الأمم المتحدة ضمن السلطة التقديرية لهذا الجهاز. (9) لكنّ المادة 96 من الميثاق تعطي كلا من الجمعية العامة ومجلس الأمن الحقّ بأن "يطلب الى محكمة العدل الدولية افتاءه في اية مسألة قانونية". فقد طلب من محكمة العدل الدولية في ظروف مختلفة اصدارقرارات استشارية تناولت قانونية التدابير التي تتخذها الأجهزة السياسية للأمم المتحدة. وابّان النظر في نزاع حول قانونية قرار لمجلس الأمن, لم تعتبر محكمة الجنايات الدولية ان ليس لها سلطة للنظرفي قانونية قرارات مجلس الأمن, لكنّها لم تعتبر أنّ مجلس الأمن قد تجاوز صلاحياته المنصوص عنها في الميثاق.(10)

محاكم دولية أخرى نظرت في قضايا تتناول قانونية قرارات مجلس الأمن, وعلى وجه التحديد محكمة الجنايات الدولية من أجل يوغسلافيا سابقا والتي طلب منها النظر بقانونية قرار مجلس الأمن بانشائها. غرفة البداية لدى المحكمة اعتبرت أن لا صلاحية لها للنظر بقانونية قرارات مجلس الامن, لكنّ غرفة الاستئناف اعتبرت في قرارها أن المحكمة تتمتّع بهذه الصلاحية, لكنّها ارتأت أنّ مجلس الأمن لم يتجاوز في قراره الحدود القانونية الملزمة له.(11)

انّ قرار محكمة الجنايات الدولية الخاصة بيوغوسلافيا هذا, يشكّل سابقة هامة جدّا لمن يرغب بالطعن بقانونية قرار مجلس الأمن بانشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. فبالاضافة الى مخالفة أحكام الميثاق ومبدأ التناسبية, فقد نقض مجلس الأمن في انشاء المحكمة الخاصة بلبنان كافة المعايير والاجراءات التي اعتمدها لممارسة صلاحيّاته بموجب الفصل السابع من الميثاق لانشاء محكمة الجنايات الدولية بشأن يوغسلافيا سابقا.

اساءة استعمال السلطة من قبل مجلس الأمن فيما يمتنع عن اتّخاذه من قرارات واجراءات ازاء ما يهدد السلم العالمي من جرائم حرب وجرائم ضدّ الانسانية, يفوق بأضعاف تجوزات المجلس فيما يتّخذ من قرارات. خطورة هذا السلوك من قبل مجلس الأمن هوأنّه يشجّع بعض الأطراف على الاخلال بالسلم والأمن الدولي, والاسترسال في أعمالهم الجرمية وتكرارها, كما يذهب بثقة الرأي العام الدولي والاقليمي بالنظام الدولي وبخاصة العدالة الدولية.

وفي جميع الأحوال, المؤسسة التي قامت من أجل مجتمع يسوده سلم مبنيّ على قواعد تعكس رقي المجتمع البشري وما عانى من حروب عبر التاريخ, أصبحت مطيّة أهواء بعض الدول المقتدرة وتضفي شرعية على ممارستها شريعة الغاب.

من أسف أن ازدراء مجلس الأمن بمبادئ العدالة والقانون الدولي فيما يتخذ أو يمتنع عن اتّخاذه من قرارات, يكاد يبلغ ذروته في كل ما يتعلّق بالعالم العربي. علاقة الولايات المتحدة الخاصة, وربما كانت الفريدة في التاريخ, باسرائيل, توضح بعض الأسباب, لكنّ هزالة الموقف العربي في الدفاع عن الحقوق والمصالح, هي المبرر الأساسي لهذا الواقع.

يجب أن لا يغيب عن البال أنّ القانون, كما المؤسسات المولجة تطبيقه, هو من صنع الأقوياء, ويعكس في وضعه وتنفيذه درجة الرقي الذي بلغه هؤلاء في وعيهم لأهمّية القانون في الحفاظ على السلم في المجتمع على الصعيدين المحلّي والعالمي.

الميثاق الأممي جعل من المساواة في الحقوق بين الشعوب, والسيادة بين الدول, مبدأ أساسيا. لكنّ تفعيل هذا المبدأ, وشرط نموّه وتطوّره, هي الرغبة, وبذل ما يلزم من جهد لممارسة الحقوق والسيادة التي يقوم عليها النظام الدولي. التقصير في تفعيل ما لدى العرب من قدرات في الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم على الصعيد الدولي, هو التفسير الأساسي لحالة الازدراء بالحقوق والمصالح التي يعانون.

كيف للعرب أن يغيّروا هذا الواقع؟ بالحدّ الأدنى, في أن يكون الحقّ العربي جزءا أساسيا من الخطاب السياسي العربي وأن ندرك أنّ القانون سلاح فعّال يجب استعماله. فاحترام القانون هو من المكوّنات الثقافية الاساسية في المجتمع الغربي. وفي ما يتعلّق بما يتّخذ مجلس الأمن من قرارات جائرة, تحدّي هذه القرارات, وبمنتهى الجدية, لدى القضاء وبخاصة الدولي, حتّى ولو لم تكن النتائج مضمونة. انّ ذلك من شانه ان يدفع بصانعي القرار في مجلس الأمن للتفكير بقانونية ما يفعلون. وفي النهاية التمنّع عن تنفيذ القرار الذي لا يتمتّع بشرعية اذا رفض مجلس الأمن الطلب من محكمة العدل الدولية رايا استشاريا بقانونية قراره. أمّا في ما يمتنع مجلس الأمن عن اتخاذه من قرارات, فالاعلان بجميع الوسائل المتاحة عن شجب جدّي لتقصير مجلس الأمن بالقيام بالمهمّة التي من أجلها وجد.

الواجب المعنوي في طاعة القانون وقرارات المؤسسات المولجة تطبيقه, مبني على فرضية عدالة القانون نصّا وتطبيقا. فاذا صار القانون وأدوات تطبيقه وسيلة لايقاع الظلم, يصبح الواجب المعنوي بطاعته, بالنسبة لاحرار العالم, واجبا معنويا في مقاومته ومحاولة تعديله.

نتطلّع الى يوم يصبح فيه العرب أسيادا في وطنهم وشركاء فعليين في وضع ورعاية قواعد السلوك السياسي والاجتماعي على المستوى الدولي.

END NOTES

(1) Sir Michael Wood, a Lecture on “The Security Council’s Powers and their Limits”, given at the Lauterpacht Center for International Law, Cambridge University, on the 8th November 2006

(2) UN Press Release L/ROM/10 of June 17, 1998

(3) S/Res/1373 (2001); S/Res/566 (2004)

(4) Cass. Crim. Mar. 13, 2001, Bull. Crim., No. 64, at 218; Tel-Oren v. Libyan Arab Republic, 726 F. 2d 774 (D.C. Cir. 1984)

(5) See note 1

(6) David Schweigman; The Authority of the Security Council under Chapter VII of the UN Charter, Pub. Kluwer Law International at 205

(7) See note 1 at 14

(8) See note 6

(9) Rosalyn Higgins, The Development of International Law through the Political Organs of the United Nations 66 and n.27(1963)

(10) Thomas M. Franck, “The Powers of Appreciation”: Who is the Ultimate Guardian of UN Legality 86 Am. J. Int’l. L. (1992) at 519

(11) See decision of ICTY in Prosecutor v. Dusco Tadic 14th July 1997


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024