إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

جـنـيــة الـنـبــي 3

د. سليم مجاعص

نسخة للطباعة 2010-01-21

إقرأ ايضاً


ولنص الروحاني أهمية كبرى في الاضاءة على معاني في رسائل جبران تكاد تكون مبهمة بدونه:

في رسالة بتاريخ 6 كانون الثاني، 1903، الساعة الثانية صباحاً، يكتب جبران رسالة إلى جوزفين قائلاً " في مثل هذه الساعة ولدتني أمي". وقد نسأل انفسنا لماذا بقي جبران ساهرا حتى الثانية صبحاً لكتابة الرسالة. ونعلم من نص الروحاني ان جبران وعد جوزفين مساء الخامس-السادس من كانون الثاني انه سوف يكتب لها رسالة في اللحظة التي ولد فيها.

في رسالة بتاريخ 21 نيسان، 1903، يكتب جبران عبارة "الأم تأتي عندما الجوع يأتي". والعبارة بذاتها ذات طرافة اذ انها تربط بين الشعور بالحاجة وتسديد الحاجة. لكن معنى ومغزى العبارة يتضحان عند معرفتنا ان العبارة هي شطر من قصيدة كتبها جبران بالانكليزية وقرأها لجوزفين في إحدى الامسيات سوية. ومغزى العبارة شعور فرخ الطير بالاسر لأن ريش جناحه لم يكتمل واعتماده على أم متفانية تبعد عنه الجوع الجسدي والمعنوي. ففي هذا الاطار الجديد تتخذ العبارة والرسالة معاني أهم وأشمل.

في رسالة بتاريخ 21 نيسان 1903، يكتب جبران ان "دموع أبناء الشمس" تعزيه وتحرقه. ولا حاجة لنا أن نتخيل ما مراده من قوله "دموع أبناء الشمس" فهذه ليست فذلكة لغوية روحانية جبرانية، بل مصطلح استعمله جبران وجوزفين لوصف حبات من العنبر صنعت منها جوزفين عقداً. وكانت جوزفين اعطت جبران العقد أمانة قبيل سفرها الى شيكاغو لمؤاساته في غيابها وأعاد جبران العقد إليها عند عودتها. ونرى ذلك في يد جوزفين في إحدى صورها.

في رسالة بتاريخ 26 ايار 1903، يتحدث جبران عن "الراعي الحزين". وعبارة "الراعي الحزين" ليست كناية جبرانية قروية، بل عنوان مسرحية دعته جوزفين الى حضورها في المعهد حيث مارست التعليم.

وبالاضافة الى هذه الامثلة، سوف يرى القاريء خلال تقدمه عبر النصوص كيف تتكامل المعاني وتتضح بين الرسائل ونص الروحاني.

وهناك بالطبع نصوص يوميات جوزفين التي كانت حتى اليوم المادة الوحيدة التي اعتمد عليها الكتاب لتدبر العلاقة بين الشاعرين. وقد كان الجبرانان خليل وجين المصدر الاصل لنصوص هذه اليوميات اذ ليس من دليل ان احداً آخر تفحص هذه النصوص مباشرة خلا الجبرانيين. وجل ما فعله الآخرون هو الاعتماد على ما ورد في كتاب الجبرانين. وادراجنا لنصوص هذه اليوميات اعتماداً على ما ورد عند الجبرانيين الى جانب نص الروحاني ورسائل جبران يوضح بعض المعميات في العلاقة اذا اقتصرنا على نص اليوميات فقط لأن هذه الاخيرة هي صوت جوزفين وحدها. وما يفتقد بالطبع هو رسائل جوزفين الى جبران فإننا ندرك من إشاراته المتعددة في رسائله وحواراته معها ان جوزفين ارسلت عدداً كبيراً من الرسائل اليه. لكن مصير هذه الرسائل ومكانها مجهولين في الوقت الحاضر.

وختاماً، ندرج نموذجاً آخر من دخول تجارب جبران الحياتية الشخصية إلى فنه وندعو القارئ إلى إبقاء معاني هذا النص نصب عينيه وربما العودة إليه خلال القراءة لتدبر الناحية السيرية الدقيقة في هذا المثال من أدبيات جبران. في مقالة "حديث الحب"(1) يكتب جبران: " في بيت منفرد جلس فتىً في صبح الحياة ينظر آناً من النافذة إلى السماء المزدانة بالكواكب، وآونة الى رسم صبية بين يديه. رسم تنعكس خطوطه وألوانه على وجهه، فتظهر عليه أسرار هذا العالم وخفايا الأبدية. صورة ملامح امرأة تناجيه جاعلةً عينيه آذاناً تفقه لغة الأرواح السابحة في فضاء تلك الغرفة ومبتدعة من مجموعه قلوباً انارها الحب وأفعمها الشوق.

" كذا مرت ساعة كأنها دقيقة أحلام مستحبة أو عام من حياة البقاء، ثم وضع الفتى الرسم أمامه وأخذ قلماً وورقة وكتب:

"يا حبيبة نفسي!

" إن الحقائق العظيمة الفائقة الطبيعة لا تنتقل من بشري إلى آخر بواسطة الكلام البشري المتعارف، لكنها تختار السكينة سبيلاً بين النفوس. وانا أشعر بأن سكينة هذا الليل تسعى بين نفسينا حاملة رسالة أرق من تلك التي يكتبها النسيم على وجه الماء، تالية كتاب قلبينا على قلبينا، ولكن مثلما شاء الله فجعل النفوس في أسر الاجسام شاء الحب فجعلني أسير الكلام..

يقولون يا حبيبتي إن الحب ينقلب بالعباد ناراً آكلة، وأنا وجدت ساعة الفراق لم تقو على فصل ذاتينا المعنويتين، مثلما علمت عند أول لقاء أن نفسي تعرفك منذ دهور، وأن أول نظرة اليك لم تكن بالحقيقة أول نظرة... يا حبيبتي، ان تلك الساعة التي جمعت قلبينا المنفيين عن العالم العلوي هي من ساعات قليلة تدعم إعتقادي بأزلية النفس وخلودها. في مثل تلك الساعة تكشف الطبيعة القناع عن وجه عدلها المتناهي والمظنون به ظلماً...

"هل تذكرين يا حبيبتي ذلك الروض، حيث وقفنا وكلانا ناظرٌ وجه حبيبه؟ وهل تعلمين ان نظراتك كانت تقول لي أن محبتك لي لم تنبثق من الشفقة علي؟ تلك النظرات التي علمتني أن أقول لذاتي وللعالمين ان العطاء الذي يكون مصدره العدل لهو أعظم من الذي يبتديء من الحسنة، وأن المحبة التي تبتدعها الظروف تشابه مياه المستنقعات.

"أمامي يا حبيبتي حياة أريدها عظيمة وجميلة. حياة تؤاخي حياة الانسان الآتي وتستدعي اعتباره ومحبته. حياة قد ابتدأت عندما لقيتك وأنا واثق بخلودها، لأني مؤمن بكونك قادرة على اظهار القوة التي أودعني الله اياها متجسمةً بأقوال وأعمال كبيرة، مثلما تستنبت الشمس أزهار الحقل ذات العرف الطيب، كذا تظل محبتي لي وللأجيال، وتبقى منزهةً عن الانانية لتعميمها، ومتعاليةً عن الابتذال لتخصيصها بك.

" وقام الفتى ومشى بتمهل في تلك الغرفة، ثم نظر من النافذة ورأى القمر قد طلع من وراء الأفق وملأ الفضاء أشعة لطيفة، فرجع وكتب في تلك الرسالة:

"سامحيني يا حبيبتي فقد ناجيتك بضمير المخاطب وأنتِ نصفي الجميل الذي فقدته عندما خرجنا من يد الله في آن واحد، سامحيني يا حبيبتي."

والرسالة المزعومة في النص أعلاه تحمل مختصراً مكثفاً لكثير من الأفكار والعواطف التي كان جبران يدرجها في رسائله الواقعية إلى جوزفين وفي أحاديثه معها. لقد مارس جبران في هذه القطع الادبية كتابة السيرة الذاتية لكن خصوصية رسائله لم تسمح للقراء بتدبر هذه الامور.

وقد نصحني صديقي بدر الحاج ان ادرج في هذا الكتاب النصوص الكاملة لرسائل جبران بالانكليزية ونص الروحاني بالانكليزية أيضاً لتسهيل عمل الباحثين ففعلت ذلك نزولاً عند حكمة نصيحته.



1- مقالة حديث الحب في جبران خليل جبران: المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران، دار صادر 1964، الصفحات 313.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024