إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

يوسف العيسى الفلسطيني و«ألف باء» الدمشقية

جان داية

نسخة للطباعة 2011-07-15

إقرأ ايضاً


لم تكن مجلة «ألف باء» الدورية الوحيدة التي أصدرها فلسطيني في الجمهورية السورية، ولكنها كانت باكورة دوريات «سورية الجنوبية» التي صدرت في «سورية الشمالية»([). أضف إلى ذلك أنها صدرت لعشرات السنين، وكان يمكن لها أن تستمر بالصدور حتى يومنا هذا لو لم تعطلها السلطة بصورة نهائية. وهذا يعني أن «ألف باء» كانت أقرب إلى المؤسسة الصحافية منها إلى عدد من الدوريات التي كان يديرها ويحررها «جحا وأهل بيته» فتتوقف عن الصدور بعد أشهر أو أسابيع من ظهور العدد الأول، ويندرج اسمها في لائحة الصحف الطويلة المحتجبة.

أما صاحبها ورئيس تحريرها يوسف العيسى فينتمي إلى الدوحة العيسوية الفلسطينية التي دخل بعض متنوريها عالم الصحافة من البوابة العريضة من مثل عيسى داود العيسى ابن عم يوسف، الذي أصدر جريدة «فلسطين» في يافا عام 1911، وهي إحدى كبريات الصحف الفلسطينية.

ماذا عن «ألف باء» التي صدرت في دمشق بعد أشهر من احتلال الفرنسيين الجمهوريتين اللبنانية والسورية تطبيقاً لما عُرف بمعاهدة سايكس ـ بيكو؟ من المؤكد أن الجواب التفصيلي الشامل يتطلب عددا كاملا من هذا الملحق. لذلك أكتفي بالإضاءة على بعض افتتاحيات الجريدة ومساهمات محرريها خصوصا في عاميها الأولين، آخذاً بعين الاعتبار ما زوره مخرج المقالات وأرقام عداد الكلمات.

ألف باء وقضية فلسطين

تمحورت افتتاحية العدد الأول الصادر في غرة أيلول 1920 على اسم الجريدة ونهجها وسياستها. قال كاتب الافتتاحية يوسف العيسى: «قد انتقينا لهذه الجريدة اسم (ألف باء) دلالة على لزوم التجدد في سياسة البلاد وآراء مفكريها سعيا وراء الغاية المطلوبة وتقريبا لليوم المنشود». ولكن ما هي الغاية المطلوبة؟ يجيب الكاتب محددا سياسة جريدته: «تذكير الأمة الإفرنسية بوعدها وحث الأمة السورية على تعجيل زمن رقيها ليقرب اليوم الموعود بفضل تعاون الفريقين». ذلك «أن الوحدة السورية كانت ولم تزل ضالتنا المنشودة، وهي التي أوجبت إبعادنا عن ديارنا». يبقى النهج الذي يسميه «الخطة» ويلحق بها صفة «المعتدلة» التي تقتضي «إرسال كلمة حق. ولهذا جعلنا شعار الجريدة الحكمة العربية القائلة: كن في تفقد عيوبك كعدوك». ورغم الاعتدال وقفازات الحرير، فإن مكتوبجي الانتداب الفرنسي لم يكن أرحم من نظيره العثماني، بدليل المساحات البيضاء التي لم يخل منها عدد واحد في عام الجريدة الأول، وقد شمل الافتتاحيات التي تجرأت على نقد المحتل الفرنسي. أما التي انتقد فيها العيسى المحتل البريطاني فلم يحذف الرقيب حرفا واحدا منها. ولنأخذ على سبيل المثال افتتاحية العدد 7 الصادر في 8 أيلول 1920. قال العيسى تحت عنوان «ما وراء الأردن» إن المندوب السامي هربرت صموئيل «ذهب إلى ما وراء الأردن وجمع شيوخ قبائل العربان وزعماء مدن السلط والكرك ومأدبا وعجلون وأبلغهم أن مؤتمر الصلح قرر فصلهم عن أمهم سوريا وجعلهم حكومة مستقلة تحت رعاية الحكومة البريطانية دون أن يكون لهم علاقة بفلسطين التي عدت وطنا قوميا لليهود». واستغرب رئيس التحرير «كيف أن المستر صموئيل، الذي ما قبل وظيفة المندوب السامي ليساعد على تحقيق أماني أبناء دينه، يذهب هو بنفسه ويعلن القضاء على تلك الأماني واضمحلالها وجعل ما وراء الأردن حكومة مستقلة لا علاقة لها بفلسطين».

وعاد العيسى إلى شرق الأردن ليعقد افتتاحية عن حكومتها في العدد 130 الصادر في 3 شباط 1921، وقد استهلها بالأسئلة التالية: «ما هي حكومة شرق الأردن؟ أهي إمارة مستقلة عربية حُفظت لأحد أبناء الملك حسين كما يشيعون؟ أم هي مقاطعة بريطانية يقصد منها تجديد تجارة بترا والأنباط عن طريق خليج العقبة؟ أم هي قطعة صهيونية داخلة في الخريطة التي وضعها الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب لأحفادهم ويزمن وهرزل والفرد موند؟ أم هي بقية تركية تخطت جميع البلاد السورية ونبتت وراء الأردن كما تنبت حشيشة الترخون التي يدعوها الدمشقيون بالخائن لأنهم يزرعونها في مكان فتظهر في مكان غيره؟». أجاب بالإيجاب ولكن على سؤال لم يطرحه، فقال: «إذا جاز لنا أن نتكهن، لا نجد أفصح من وصف بلاد شرق الأردن بأنها بارومتر في يد تلك الدولة فتتركه يرتفع وينخفض مؤقتا، ومتى انتهت المؤتمرات الدولية في أوروبا تعيّن له درجة الحرارة اللازمة وتقول له هذا حدك فلا تتعداه.

وتحت عنوان «إحدى حظيات ويزمان» علق العيسى في افتتاحية 3 حزيران 1921 على مضمون البرقية التي تلقاها من فلسطين: حكومة فلسطين منعت دخول ألف باء. أوقفوا إرسالها». وقال في سياق تعليقه: «نستطيع أن نقول دون أن نعرّض أنفسنا لتكذيب بأننا لم نخط يوما ما كلمة تحقير للطائفة الإسرائيلية. وإنما حاربنا فقط الفكرة العنصرية لاعتقادنا بأن الدين لا يجتمع مع القومية في هذا العصر».

سوريا ولبنان

لم تحتكر المسألة الفلسطينية افتتاحيات العيسى كلها وإن استقطبت جلها في العام الأول من صدور «ألف باء» والأعوام التي اندلعت في فلسطين الثورات والانتفاضات وبخاصة في العامين 1936 و1948. وخلال ذلك، جرت فلسطنة معظم صفحات الجريدة من مقالات وأخبار. ولكن المسائل الأخرى كانت أيضا موضع اهتمام رئيس التحرير ومواضيع لافتتاحياته. في المسألة اللبنانية كتب العيسى عن «اللغة العربية في لبنان» فقال: «كنا حتى الآن ننظر إلى اللغة العربية في سوريا نظرة رجل وقف في ردهة البورصة يرقب الأخبار وهو قد اشترى على الصعود، وأسلاك البرق تنقل له بين كل ساعة وأختها هبوطا متواصلا في الأسعار. إلى أن كانت الصدمة الأخيرة وهي اعتماد بعض موظفي لبنان الوطنيين على مقاطعة لغتهم في معاملتهم، فخيّل لنا أننا رأينا اللغة الشريفة المحبوبة تستر وجهها بردائها وتقول ما قاله يوليوس قيصر: وأنت أيضا يا بروتوس! ألا يكفي اللغة العربية ما أصابها في فلسطين إذ دخلت عليها لغة جديدة عبرانية فشاركتها في كل عمل، ولا تمضي عشرون سنة حتى يصير المتكلم بها في تلك البلاد يشار إليه بالبنان كأنه من بقايا قوم عاد».

وعاد العيسى إلى المسألة اللبنانية في افتتاحية 9 آذار 1921، فكتب تحت عنوان «حديث عائلي» عن خلط الدين بالسياسة في لبنان منذ تسعين سنة: «بقيت علينا مسألة الدين. هذه بسيطة تحصر بكلمتين: لكم دينكم ولي ديني. فهل يريد الضاربون على هذا الوتر أن يقولوا بأن حكومة لبنان الكبير مسيحية وحكومة الداخل إسلامية؟ إن مثل هذا التمييز يعد أعظم وأشرّ من التفرقة السياسية لأن أبناء الطائفتين منتشرون في المقاطعتين. ولا يخال لنا أن أصحاب هذه الفكرة يرمون إلى جعل لبنان معقلا دينيا منفصلا عن كل جوار كما يحلم الصهيونيون بعمل ذلك في فلسطين».

من هو قدامة؟

ولنقلب الصفحة على هيئة التحرير، خصوصاً وأن ألف باء احتلت في العام الأول من صدورها رأس لائحة الدوريات الدمشقية واستمرت مع «الأيام» و«القبس» في الصفوف الأمامية للصحف السورية. منذ البداية، فُتح باب دائم بعنوان «المعرض العام» وذيل بتوقيع مستعار «قدامة». أهدى الكاتب في 1 نيسان 1921 «إلى صاحبة المرصد» معلومة خاصة بالمرأة لا يجوز الشك بصحتها والتعاطي معها على أساس أنها كذبة بيضاء. ويلخص (قدامة) المعلومة التي تمحورت عليها مسرحية (العودة) Le Retour التي قدمت على مسرح (آتينيه) الباريسي وأكدت على أن «قيمة النساء هبطت بعد الحرب الكبرى بقدر ما هبطت قيمة الورقة النقدية ذات الماية فرنك». وما يعزز من قيمة المعلومة أن المسرحية ليست من «صنع رجل ولكنها من نسج قرائح السيدات». ولكن من هو قدامة؟ تجيب موسوعة «كتّاب فلسطين لأحمد عمر شاهين أن «أحمد شاكر سعيد الكرمي (1894 ـ 1927) بدأ ينشر مقالاته في جريدة ألف باء الدمشقية بتوقيع قدامة».

ونشر صاحب جريدة (القدس الشريف) المحتجبة حسن صدقي الدجاني سلسلة مقالات في الجريدة الدمشقية ـ الفلسطينية اتسمت بالصراحة والموضوعية. تحت عنوان «الهوة السحيقة» استهل الكاتب مقاله المنشور في 12 تشرين الثاني 1920 بخبر وطني مفرح وهو أن الفلسطينيين أقسموا «على مقاطعة المندوب السامي، وقالوا لا نبيع أراضينا ولا نقبل بالهجرة اليهودية». ولكن لحظة «جاء ـ هربرت صموئيل ـ أصبحوا من المتزلفين». أما «أبناء بيت المقدس عاصمة فلسطين الذين يجب أن يكونوا قدوة للغير.. فكانوا آخر من نهض وأول من انسحب واعتكف». لماذا؟ «لأن كل فرد منهم كان يدعي الزعامة لنفسه. فأوجدوا البغضاء بين العائلات. حقد الحسيني على النشاشيبي. وتوعد النشاشيبي الخالدي. وجعل الخالدي يثأر من الدجاني. والدجاني يتوعد العلمي».

بين الرصافي ووديع البستاني

ردا على الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي عبر الأردن في أوائل شباط 1921 وألقى قصيدة مدحية في حضرة هربرت صموئيل، قال وديع البستاني عبر قصيدة نقدية:

بغداد يا معروف بالأرض بالسما

بربك بالإسلام بالشفع بالوتر

ليست بغيا جمالها يباع

كما يرضي البغاء لمن يشرى

فلسطين أم الأرض طرا على المدى

بمسجدها الأقصى وبالمهد والقبر

قريضك من در الكلام فرائد

وأنك غواص وأعلم بالدر

ولكن هذا البحر بحر سياسة

إذا شاء مجرى الحق آذن بالجزر

أجل عابر الأردن كان ابن عمنا

ولكننا نرتاب في عابر البحر

أيهجر أوروبا الجميلة طالبا

وصال فلسطين فتلقاه بالبشر

ولم يكن البستاني اللبناني النصراني الوحيد الذي دافع عن فلسطين وناهض بالكلمة والموقف الاستيطان اليهودي. كان أولهم نجيب عازوري، وأبرزهم أنطون سعادة الذي أصبح من أسرة (ألف باء) في العام 1931 اثر عودته من البرازيل. كان «الزميل» سعادة يكتب في السياسة الخارجية ويترجم عن الألمانية والإنكليزية. ولكن خطاب وزير خارجية بريطانيا لويد جورج الذي ألقاه في مأدبة الجمعية الصهيونية في لندن، أملى عليه ردا بعنوان «السياسة والشرف» احتل نصف الصفحة الأولى لعدد 20 أيار 1931. قال سعادة لجورج في سياق رده «إنكم ارتكبتم خطأ منطقيا وخطأ علميا وخطأ فلسفيا، حين قلتم في خطابكم: لم تكن فلسطين وطنا لقوم ما، بل كانت خرابا، وأفضل ما فيها أنها تصلح لأن تكون وطنا». أضاف معلقا على الوطن القومي العتيد لليهود الذي وعد به بلفور وترأس ورشة تحقيقه المفوض السامي البريطاني: «إن أمورا عظيمة جدا ستترتب على هذه المحاولة الأثيمة التي لم يعرف التاريخ محاولة أخرى تضاهيها في الإثم. وإني أطمئنكم بأن نتائجها لم تقتصر على فلسطين، بل ستتناول العالم أجمع، وأن عظتها البالغة لن تكون لبني إسرائيل فقط، بل لجميع بني الإنسان ومن يعش ير».

([) اسم جديد لفلسطين أطلقه ياسر على الجمهورية السورية رداً على اسم فلسطين القديم «سورية الجنوبية» الذي نوه به حافظ الأسد في سياق نقده لأبي عمار.

جريدة «سورية الجنوبية»

هي أول جريدة وطنية فلسطينية تصدر في فلسطين بعد الاحتلال البريطاني في سنة 1917. أسسها في القدس عارف العارف ومحمد حسن البديري، وصدر العدد الأول منها في 8/9/1919، وكانت أسبوعية في البداية، ثم تحولت نصف اسبوعية، وتولت مطبعة دير الروم الارثوذكس في القدس طباعتها.

سمّيت الجريدة «سورية الجنوبية» للتأكيد على ان فلسطين جزء من سورية. وقد ركزت في افتتاحيتها على ضرورة الاتحاد مع سورية. كما أبدت اهتماما كبيرا بمتابعة الأحداث الجارية فيها. وكانت تمثل روح الحركة الوطنية في أوائل الاحتلال البريطاني لفلسطين، وتنطق بلسان النادي العربي في القدس الذي كان مركز نشاط الشباب الوطني. وقد عملت السلطات البريطانية على تعطيل الجريدة مرات عدة، لكنها توقفت عن الصدور بعد 70 عدداً صدر الأخير منها في 27/7/1920. وكان يساهم في كتابة موضوعاتها عدد من الكتاب المشهورين بينهم، فضلا عن عارف العارف ومحمد حسن البديري، رأفت الدجاني وصليبا الجوزي.

الموسوعة الفلسطينية ـ القسم العام


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024