إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

مبادئ أساسية في التربية القومية جزء2

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1932-12-01

إقرأ ايضاً


المبادئ الدينية

اعتقد أن ما أوردته بشأن المبدأ العنصري كاف لإيضاح وجهة مضاره ووجهة فوائده بالنسبة إلى المبادئ الشعبية التي يقصد منها خير الشعوب وارتقاؤها. والآن ننتقل إلى البحث في "المبادئ الدينية" التي إذا تدخلت في مبادئ الشعب، حيث لا قضية روحية بحتة، كانت خطراً عظيماً على كيانه وعلى معنى وجوده.

إذا درسنا تطور الشعوب في الغرب وجدنا أن بلوغها الشأو الحاضر في الحضارة والعمران لم يتسنَّ لها إلا بعد أن تمكنت من التغلب على كل ما ليس من المبادئ الشعبية والانتصار على قوة عظيمة كانت دائماً تقاوم الروح الشعبية جهدها وتضغط عليها ضغطاً شديداً، وهذه القوة هي قوة الكنيسة التي كانت تعتمد على الدين لاستخدام الشعوب في مصالحها الخاصة. ولقد قبضت هذه القوة، في الماضي، على أساليب التربية والتهذيب كلها، فكان التهذيب الديني أحد الأسلحة القاطعة التي حاربت تقدم الشعوب بتدخلها في شؤونها الدنيوية والمادية بدلاً من الاهتمام بشؤونها الروحية، ولولا مجيء العرب إلى أوربة واشتغالهم فيها بالعلوم والفنون لكان الجهل أبقى الشعوب الأوروبية تحت رحمة الكنيسة إلى زمن لا ندري أمده.

يجب أن لا يفهم من هذا أن المبادئ الشعبية القومية منافية للدين. كلا. ولكن المسألة مسألة أمرين يستقل كل منهما بخصائص ومزايا لا يمكن إدغامها بخصائص ومزايا الآخر بدون أن يؤدي ذلك إلى نتائج سيئة في حياة الشعوب ولهما وظيفتان متنوعتان وكلاهما يجب أن يكون غرضهما العناية بالشعب وتوفير أسباب نموه ولا يحدث بينهما تضارب إلا إذا تدخل أحدهما في شؤون الآخر تدخلاً يفسد عليه عمله.

الحقيقة أن أولى منافع الدين كانت خدمة الشعوب وإنقاذ مطالبها العليا من التلف وإنعاش معنوياتها، وهكذا نرى أن الدين أعاد الأمل والإيمان إلى الشعب اليهودي وأخرجه من عبودية مصر إلى الحرية وهو الذي جعل الشعب السوري يتمسك بمبادىء السلام مع الحرية ويقوم بخدمات كبيرة للإنسانية وهو الذي استفز الشعب العربي إلى نفض غبار الخمول وإنشاء ذلك المجد الباذخ على الكيفية المدونة في التاريخ، بيد أنه إذا فقد الدين صفته الروحية وأمسى أداة مادية يستغلها أهله استغلالاً في سبيل مصلحة سلطتهم على حساب حرية الشعب ومصالحه الحيوية تحول من نعمة منحت بها الشعوب إلى نقمة شريرة تجلب عليها الكارثات وتكون سبباً في انحطاطها فتضعف روحها القومية وتفقد ثقتها بنفسها ويستولي عليها الخمول وتمسي مطايا للشعوب الأخرى التي تتمشى على المبادئ الشعبية ذاهبة دائماً إلى الأمام - إلى التقدم والفلاح.

يدلنا التاريخ على أن الشعوب كانت تضطر، في كل حادث من هذا النوع، إلى إجراء عملية استئصال، لا للدين نفسه، بل للفساد الذي يطرأ عليه، مصيراً إياه مادة دنيوية - متاعاً للاتجار والمضاربة، والمزاحمة على السلطة والقوة. فلما قويت سلطة الكنيسة الرومانية إلى حد سولت لها نفسها عنده تصريف شؤون الشعوب كما تريد، حتى صارت هذه مجرد قطعان بشرية لا تكاد تفرق عن القطعان البهيمية إلا بخاصة النطق فقط، ساءت أحوال هذه الشعوب إلى حد خطر. حينئذ ظهر لوثر المصلح الخالد الأثر، الذي كان إصلاحه الديني إصلاحاً شعبياً من الطراز الأول، إذ بواسطته استعاد الشعب الألماني حريته النفسية واستقلاله القومي، والعبارة الألمانية المشهورة إلى هذا اليوم القائلة، "لوس فن روم" أي "الإفلات من رومية" تدل دلالة واضحة على ذلك، وفي الثورة الفرنسية لتحرير الشعب اضطر الشعب الفرنسي إلى القيام بجميع أعمال الإرهاب للتخلص من معاكسة اكليرسه الفاسد لمصالحه الحيوية.

*(وهذه الجملة أيضاً كانت مما عسر على الشيخ المغربي فهمه وتأكد للسيد كرد علي ابهامه!) إذا كنتم تريدون شاهداً أقرب على النظرية المتقدمة، فإنكم تجدون هذا الشاهد في القرون العديدة التي سيطرت في أثنائها الخلافة التركية على الشعوب الإسلامية، فقد استعمل الأتراك سلطة الخلافة ضد مصالح الشعوب المذكورة، وفي جملتها الشعب السوري، فاضطرت هذه الشعوب إلى الانتقاض على الخلافة التركية فيما يختص بأمر الجهاد الديني، الذي أصدره الخليفة التركي أبان الحرب الكبرى لمصلحة شعبه الخاص وبلاده والقيام بثورة دموية ضد تركيا، ولقد أدرك الأتراك مؤخراً أن المبادئ الشعبية هي المبادئ الوحيدة التي تمكنهم من التقدم نحو مثلهم الأعلى فاضطروا إلى إجراء التعديلات التي تعرفون أمرها بحيث بقي الدين سالماً منزهاً عن الأمور الدنيوية وانفسح المجال لنمو الروح الشعبية ونشؤ التربية القومية الصحيحة. فعل الأتراك كل ذلك دون أن يكون لأي شعب إسلامي آخر أن يقول أنه أكثر إسلاماً من الشعب التركي، فالإصلاح الذي قام به مصطفى كمال باشا في الإسلام سيكون له نتائج شبيهة بالنتائج التي كانت للإصلاح الذي قام به لوثر في المسيحية. وإن كان لم يتخذ شكل الإصلاح الديني العام كهذا.

كما كانت الجامعة الدينية وبالا على الشعوب المسيحية في الغرب، كذلك كانت الجامعة الدينية وبالا على الشعوب الإسلامية في الشرق، فرومية هناك كانت تتصرف بمقدرات الشعوب وتصرف شؤونها حسبما تريد، صارفة النظر عن نفسياتها المختلفة وعقلياتها المتنوعة ورغباتها المتعددة، متشبثة بمبدأ فاسد يقول: أن الحياة التي تريدها رومية يجب أن تريدها الشعوب الأخرى، وإن ما تراه رومية جيداً يجب أن يكون جيداً للشعوب التي تبسط هي سلطانها عليها. والقسطنطينية هنا كانت تتصرف بمقدرات الشعوب التي كانت تبسط سلطانها عليها وتصرف شؤونها حسبما تريد، صارفة النظر عن نفسياتها المختلفة وعقلياتها المتنوعة ورغباتها المتعددة، متشبثة بمبدأ فاسد يقول: إن الحياة التي تريدها القسطنطينية يجب أن تريدها الشعوب المذكورة وأن ما تراه القسطنطينية جيداً يجب أن يكون جيداً لها. ولكن كما أفلتت الشعوب الغربية من قبضة رومية لتسير إلى ما فيه صلاحها وفلاحها كذلك أفلتت الشعوب الشرقية من قبضة القسطنطينية لتسير إلى ما فيه صلاحها وفلاحها. والويل للأمم التي تلتفت إلى ورائها لترى ما حل برومية والقسطنطينية فإنه يصيبها ما أصاب امرأة لوط حين التفتت إلى ورائها لترى ما حل بسدوم وعمورة!

ترون مما تقدم أن مسألة التربية القومية مسألة دقيقة جداً، إذا لم يستوف درسها لمعرفة ما يحيط بها من المعاثر والأخطار لم تأتي بالنتائج المطلوبة وقد تأتي بنتائج معكوسة إذا أهمل أمر دخول المبادئ اللاشعبية عليها، فيكون الخطر كل الخطر حيث يظن أن هناك السلامة كل السلامة. وهذا هو السر في عدم حصول أمتنا على المركز الذي تؤهلها له مزاياها ومواهبها السامية فبينما نحن نرى أن تحرير الشعب الألماني من ربقة رومية وتنزيه تربيته القومية عن كل ما يعاكس المبادئ الشعبية أديا إلى نشوء روح شعبية قوية فيه كانت باعثاً على النهضة الألمانية الحديثة وإيجاد تلك الثقة العظمى بالشعب التي كان من ورائها ظهور الفلسفات التي تجعل الشعب الألماني محور أمل العالم بارتقاء البشرية *(على هامش هذه الفقرة والفقرة التي تليها كتب السيد كرد علي "هذا غير صحيح".) حتى أصبح كل ألماني وألمانية يعتقدان يقينا بمستقبل شعبهما ويؤمنان إيماناً ببلوغه مناه - وهذا هو سر القوة الالمانية التي ترهبها الشعوب الأخرى - أقول: إنه بينما نحن نرى ذلك، إذا بنا يبلغ من ضعف تربيتنا القومية وإهمالنا أمرها أن تنشأ بيننا اعتقادات غريبة كالاعتقاد بأن الضعف مقدر.:

نأخذ مثلاً القول الشائع بأن للسوريين مقدرة عظيمة على تقليد الشعوب من الأمم. أقول: أن هذه المقدرة الدالة على بعض مزايا الفهم الحسنة هي الضعف بعينه، فهي دليل بيّن على عدم وجود تربية قومية سورية تحمل الشعب على الاحتفاظ بنفسية وعقلية سوريتين صحيحتين، فالسوري، أينما وجد، يتبع غيره، فهو في الجامعة الأميركية، مثلاً، يقلد الأميركان وفي المدارس الفرنسية يقلد الفرنسيين، وقل أن ترى سوريا يسير على طريق خاصة به، وهذا عيب من أكبر عيوبنا القومية.

لقد آن الأوان للضرب بمثل الاعتقاد المتقدم عرض الحائط وأن ننشىء لأنفسنا تربية قومية مؤسسة على المبادئ الشعبية الصحيحة التي تقوي فينا روح احترام النفس والثقة بالنفس، وأن نوجد لأمتنا مركزاً محترماً بين الأمم القريبة والبعيدة وأن نحقق نحن بأنفسنا مطلبنا الأعلى الذي نفتخر بأنه يمثل مزايانا الخاصة بكل ما فيها الروح السليمة والمدارك العقلية العالية ونجعله منارنا الخاص الذي يهدينا إلى ما فيه فائدتنا وفائدة البشرية جمعاء.

إن في الحياة السورية مثلاً أعلى هو العمل للخير العام في ظل السلام والحرية وأن تحقيق هذا المثل واجب مقدس يدعو كل واحد إلى القيام بنصيبه والحرية وأن تحقيق هذا المثل واجب مقدس يدعو كل واحد إلى القيام بنصيبه منه، فلنجمع قلوبنا حول مطلبنا الأعلى وحذار من الالتفات إلى الوراء.

الأمة التي تنظر دائماً وأبداً إلى الوراء لا تستطيع السير إلى الأمام وإذا هي سارت فإنها تعثر، فلننظر دائماً إلى مثلنا الأعلى - إلى الأمام!

تمت.

"المجلة" مارس 1933، ألقيت في ديسمبر 1932

*المحاضرة التي ألقاها محرر المجلة في حفلة جمعية "العروة الوثقى" في الجامعة الأميركية في شهر ديسمبر الماضي. ننشرها نقلاً عن مجلة "العروة الوثقى".



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024