لا نقصد بالعنوان جميع رفقائنا في الشام الذين عرفوا السجون والإضطهاد والتشرّد، واستمروا على إيمانهم ووفائهم لقسمهم، لا يهابون الصعاب، ولا يتراجعون أمام ألمحن.
عسانا نتمكن من الكتابة عن أكبر عدد من هؤلاء الرفقاء، وعلى أمل أن يحذوا حذوَنا رفقاء آخرون.
*
الرفيق الدكتور راتب الحراكي
أورد الرفيق حراكي في نبذة قدّمها عام 1991 أنه انتمى على يد المحامي الأمين عيسى سلامة عام 1944 (أو عام 1945) .
تولّى مسؤولية ناظر الإذاعة في منفذية دمشق " لمدّة قصيرة في ظروف سياسية معيّنة، إبان الإحتلال الفرنسي وما رافقه من إضرابات ومظاهرات".
يقول: " يوم انتمائي شعرت أن كياني كلّه قد تغيّر، بدفقة من التحوّل الغريب والكثيف والشديد، هزّ كياني هزّاً وكأني خُلقت من جديد، وظللت في حكم جوار مسافات من الزمن حتى تركزّت أعصابي وأفكاري المتطورة على الإنسجام مع هذا الأفق الجديد. وأعتقد أنّ الظرف الآن أسهل بكثير من الظرف الذي بدأنا فيه حيث أنّ ما يحيط بنا حالياً من الأفكار التقدميّة والأجواء التقدمية وهذا العالم الجديد يسهل عليكم التماس الفكرة، بينما نحن كنّا في أعماق الرجعية والتأخر الإجتماعي، والثقافي، والسياسي، بحيث أنّ انتسابنا للحزب هو انقلاب حقيقي، ما له سوابق فكرية وهذا ما هزّنا، هزّاً عنيفاً، فهو ولادة حقيقية جديدة.
وعن حادث استشهاد الزّعيم يقول: " أعتقد أنّه في التاريخ كله لا يشابه هذا الحدث إلا حدثان اثنان: حدث ولادة مريم للمسيح بالنسبة لها، والحدث الثاني وفاة الرسول محمد بن عبدالله الذي هزّ المسلمين في المدينة. كنت دائماً أعدد هذه الأحداث الثلاثة، وأظن كذلك أنّ استشهاد الزعيم كان أعنف.. لا أستطيع أن أصف ذلك اليوم إلا بشعر، ولدي مقدرات شعرية وكنت أؤجلها لأبعد تلك الذكرى عن نفسي. ولا زلت أؤجلها، وكيف بنا ونحن في السجن عندما أتانا النبأ.. ليس عيباً على الرّجل أن يبكي.. لقد بكينا. وكيف بالبكاء في السّجون، إنّ الألم لا يوصف ولذلك لا أزال محجماً عن وصفه بأشعاري لأنني أخشى أن ترجع تلك الصورة إلى مخيّلتي.
*
كان الأمين بشير موصلي على معرفة وثيقة بالرفيق الدكتور راتب حراكي. بتاريخ 24/03/1990 نشرت له "البناء - صباح الخير" في صفحتها الأخيرة "وليست الأخيرة" الكلمة التالية وفيها، إضاءة جيدة ووجدانية وصادقة عن الرفيق الدكتور راتب حراكي.
راتب حراكي بدّل مجرى حياتي
" لم يكن الحوار، الدافىء، اجراه فيروز – عصام في عدد آذار من البناء(1)، هو ما ذكرني بالدكتور راتب حراكي.
راتب حراكي لم يغب عني أبداً حتى هذه اللحظة، طوال 44 عاماً 46-89. دائماً أتتبع أخباره وكنت "عاقاً" معه إذ اكتفيت بالسؤال دون الإتصال به.
في معرة النعمان وفي مطلع صيف عام 1945 وبعد فترة بسيطة من انتهاء جولة العنف الفرنسية في حلب وخلال حصار حماة (كنت في السنة الثالثة ثانوي). اجتمعت صدفة بالطالب في كلية الطب راتب حراكي بواسطة قريبه صديقي المرحوم عماد حراكي (أصبح فيما بعد من أبرز القوميين العرب في كلية بيروت الأميركية). كنا ثلاثتنا نتنزه عصر كل يوم على طريق حلب – حماه، نتابع أخبار المعارك ونستمع إلى آراء الدكتور. ورغم عموميتها استهوتني في شمولها لقضايا قومية ولما وراء الكون. جذب نظره تجاوبي مع أفكاره، رغم صغر سني ودرجة تعليمي، فبدأ يتحدث معنا صراحة عن الحزب. وكان عماد حراكي متجهاً نحو القومية العربية بتأثير من زميله البحريني في الكلية يوسف شيراوي (وزير الصناعة والتجارة فيما بعد). ومع ذلك فقد تأثر عماد كثيراً بآراء الدكتور.
بعد أسابيع من الشروح الطويلة، تشبعت بالعقيدة وتفهمت المبادئ، فطلبت الإنتساب إلى الحزب. فأجابني: " ليس بعد، فأنت أولاً صغير السن، وثانياً عضوية الحزب مسؤولية كبيرة أهمها أن تكون متعمّقاً وناضجاً في فهم العقيدة ومستعداً لتضحيات عظيمة ".
انتهت الصيفية وأنا حزين لفراق الدكتور وكأنني أعرفه منذ سنوات، وكأننا في عمر واحد لأنني معه صرت في فكر واحد. وصلت دمشق، وليس معي سوى فكر الحزب وكرّاس المبادئ (المستطيل الشكل) وعنوان المرحومين خالد الموره لي وكامل بنقسلي اللذين عليّ الإتصال بهما لمتابعة صلتي بالحركة لإكمال النّضج، حيث "بعد بكّير" على انتمائي كما قال.
أديت القسم أمام الموره لي وبنقسلي، وكنت حفظت كرّاس المبادئ كما تحفظ المقطوعات الشعرية المدرسية، بعد أن عجزا لعدة أسابيع بتأجيل أداء القسم وانتظاراً لعودة "الوسيط" إلى دمشق. كان ذلك في نهاية صيف سبتمبر أوائل أكتوبر 1945. وبعدها بدأت رحلة النّضال الطويلة ولها حديث آخر ذات يوم.
صرنا بعد القسم رفيقين واستمرت صلاتنا الحزبية. ومع مر الشهور والسنين كان يزداد نضوجي العقدي، ويزداد معه إعجابي بوعيه ونضجه المبكرين في استيعاب العقيدة حيث لم أجد صعوبة في فهم اي شيء. كان من المبكرين الذين انتبهوا للإنحراف الفكري لفايز صايغ ولمسوا ذلك الإنحراف قبل عودة الزعيم (اليوم فقط عرفت أنه انتسب عام 1945 وكنت أظنه منتسباً من أول الأربعينات).
في الحوار تحدّث الدكتور عن الثورة القومية واشتراكه فيها. وبحكم مسؤوليتي، آنذاك، في المساهمة اللوجستية بالإعداد للثورة، كنت على صلة تنظيمية مع جميع المشتركين المتواجدين في دمشق استعداداً للإنطلاق بعد أيام. الرفيق حراكي كان النموذج الأول للإنضباط والإستعداد والحماس والبساطة والتواضع. لا تفارقه روح الفكاهة والبشاشة، رغم جديّته المميزة. يضحك من أعماقه وبلذّة لأية نكتة فينشر جو المرح من حوله في أصعب المواقف، كثير التفكير، فإذا ما تكلّم كان هادئاً فاهماً موضوعه، مقنعاً بعيداً عن كل صيغ المبالغة.
إنني مدين للدكتور الرفيق راتب حراكي باعتناق العقيدة القومية الإجتماعية، أهم وأغلى ما في وجودي، وما تبع ذلك من تغيير وتأثير في حياتي هو دائماً مصدر فخري واعتزازي" .
*
يورد الرفيق مطانيوس كرم في معرض حديثه عن " أبرز ما انطبع في الذاكرة من أحداث" أنّ قسم الرفيق أحمد علوان من بلدة خان شيخون، وكان طالباً في جامعة دمشق، قد تمّ بواسطة الامين الصيدلي بدري جريديني حيث كان يتم اللقاء معه أسبوعيّاً، ومع الرفيق الدكتور أحمد راتب حراكي من بلدة معرّة النعمان الذي كان يقدّم لنا كافة التسهيلات بالنسبة للعمل الحزبي".
*
وفاته
وجاء في نعي الحزب له، ونشرته جريدة "الديار" بتاريخ 08/01/1994 مايلي:
يوم الخميس الواقع فيه 06/01/1994، غيّب الموت، في مدينة حلب، الرفيق الدكتور أحمد راتب حراكي، ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه في قضاء معرّة النعمان، بلدة أبي العلاء المعرّي(2) حيث شارك في تشييع جثمانه مئات من الأصدقاء والأهل والرفقاء.
"انتمى إلى الحزب في الأربعينات، وكان من القلائل الذين اكتشفوا انحرافات فايز صايغ الفكرية، قبل عودة الزعيم، وعندما أعلن الزعيم الثورة القومية الإجتماعية الأولى، حمل قطع الذهب، التي ادّخرها من عمله في الطبّ حتى ذلك التاريخ ليفتح بها عيادة، وقدّمها للحزب في الشام مساهمة منه.
في دعم خزينة الحزب وتأمين حاجاته.
شارك في الثورة القومية الإجتماعية الأولى، وكان مع الفرقة بقيادة الرفيق المرحوم زيد الأطرش، وكانت معه معدّاته الطبية الكاملة لمداواة الجرحى من الرّفقاء. عُرف بعمق فهمه للعقيدة والإنضباط والتواضع، وكان الإيمان عنده والعطاء فعل إرادة وتنفيذ وسلوك. قليل الكلام، كثير التفكير، واسع الثقافة، لا تفارق البسمة وجهه. أجرت مجلة البناء تحقيقاً معه في آذار 1990، وكتب الرفيق بشير موصللي مقالاً عنه في 24/03/1990، وعمدة الإذاعة والإعلام التي آلمها فقد هذا الرفيق المعطاء، تتقدّم من ذويه، بإسم قيادة الحزب بالعزاء الحار. والبقاء للأمة"
تقديراً لعطاءاته مُنح الرفيق راتب الحراكي وسام يوسف العظمة الذي صدر بمرسوم عن رئاسة الحزب رقم 50/74 وجرى تعميمه من قبل عمدة الداخلية في 10/06/2006.
***
الرفيق العميد الطيّار حسن الجزائري
هذه النبذة كتبها الأمين غسان زكريا في لندن بتاريخ 24/09/2003:
" يوم الأربعاء الواقع فيه 17 أيلول 2003 أصيب العميد الطيار (المتقاعد) حسن الجزائري بنوبة قلبية أخذته إلى عالم آخر، تاركاً خلفه زوجته ليلى الخرسا، وابنتين، كانت لهما شقيقة ثالثة، (توفيّت قبل أربعة أشهر في دمشق) وابن اسمه هيثم، وهو رجل أعمال على درجة من النجاح.
انتمى الرفيق الرّاحل إلى الحزب سنة 1951 وأقسم يمين الإنتماء أمام الرّفيق بشير الموصللي(3) عندما كان ناموساً لمنفذية دمشق العامة، بعدها دخل الكلية العسكرية في حمص سنة 1952، وتخرج ملازماً سنة 1954 ليلتحق بكليّة الطيران فيصبح طيّاراً يرسل إلى الإتحاد السوفياتي في بعثة تدريب وتأهيل مع آخرين. بعد بعثة سيبيرية (الإتحاد السوفياتي)، عاد إلى دمشق، ومنها إلى بريطانية في بعثة أخرى.
سنة 1967 قاد النقيب حسن الجزائري سرباً من مقاتلات "ميغ 17" ضد الطيران الحربي الإسرائيلي، فأبلى بلاءً حسناً في أعمال الكرّ والفرّ فوق الجولان.
كذلك كان الطيار الذي قصف مصفاة حيفا في بداية معركة الأيام الستة، لكنّه سرّح فيما بعد في جملة من سُرّح من ضباط سلاح الجو... إلى أن جرت "الحركة التصحيحية" سنة 1970، التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد، فأعاد إلى صفوف الجيش عدداً كبيراً من الضباط، كان بينهم الرائد حسن الجزائري، الذي اختير لقيادة سرب طائرات "ميغ 19" و "سوخوي" .
في حرب 1973 شارك بطلعاته ضد المقاتلات "الإسرائيلية" وتمكن من قصف مصفاة حيفا مرة ثانية ملحقاً بها أضراراً جسيمة.
سنة 1982 كان واحداً من الطيارين الذين قاتلوا الصهاينة في سماء لبنان. وأصيبت طائرته خلال إحدى المعارك الجوية فوق صيدا. لكنه، بمهارة فائقة وبسالة نادرة تمكن من إعادتها إلى قاعدتها شبه سالمة. ولم يُكتب له شرف الشهادة، بل أصيب في قدميه وجسمه برصاصات عدّة، أثّرت على قدراته القتالية، فتقاعد، وغادر دمشق مع عائلته إلى بريطانية، فسكن منطقة Worthing الساحلية، بين ذكرياته، ومكتبة زاخرة بالمؤلفات التاريخية والعسكرية والعقائدية... مراقباً متتبعاً لأخبار الوطن من خلال الفضائيات العربية والأجنبية.
خضع العميد الطيار حسن الجزائري إلى عمليات جراحية في قلبه المتعب، لكنّه لم ينقطع يوماً عن التفكير بالعقيدة التي آمن بها، وبأمّته التي خدمها جندياً استبسل في الدفاع عنها ضد الهجمة "الإسرائيلية" البربرية".
***
الرفيق فؤاد أبو الجبل، مجاهد قومي
تحت هذا العنوان نشرت مجلّة "البناء – صباح الخير" في عددها تاريخ 17/10/1987 الخبر التالي:
" افتقد القوميون الإجتماعيون في الشام الرفيق المجاهد فؤاد يوسف أبو الجبل الذي توفي في دمشق بتاريخ التاسع من آب الماضي عن عمر يناهز السبعين عاماً، قضاها مناضلاً دون توقف في صفوف الحركة القومية الإجتماعية منذ ريعان شبابه حتى آخر يوم في حياته.
والرّفيق أبو الجبل من مواليد مجدل شمس في الجولان عام 1917. درس في عاليه في جبل لبنان ونال شهادة البكالوريا عام 1932.
انتمى إلى الحزب السوري القومي الإجتماعي في فترة العمل السرّي في مطالع الثلاثينات. شارك في أعمال المقاومة ضد الإنتداب الفرنسي من أجل الإستقلال. تحمّل عدّة مسؤوليات حزبية في منطقته، ورافق الزعيم بعد عودته إلى الوطن عام 1947 في جولته التاريخية في حمص والمنطقة الوسطى.
من أشقائه: المجاهد الوطني شكيب أبو الجبل الذي نظّم عمليات المقاومة ضد الغزاة اليهود في الجولان المحتل رافضاً الهوية الإسرائيلية، فاقتيد إلى السجن في فلسطين المحتلة حيث حيث قضى عدّة سنوات، خرج بعدها إثر عملية مبادلة أسرى حرب تشرين عام 1973، واختير بعدها بالإجماع نائباً عن الجولان في مجلس الشعب السوري.
عُرف عن الرفيق فؤاد أبو الجبل في منطقته ثمّ في منطقة سكنه الثانية في مدينة الحسكة إخلاصه لقوميته ورسوخ انتمائه وشجاعته وسيرته الحسنة في أوساط المواطنين.
هوامش
(1) نشرت "البناء – صباح الخير" في عددها بتاريخ 03/03/1990 حواراً مع الرفيق راتب حراكي عرض فيه عن لقاءاته السبعة مع حضرة زعيم الحزب . سنأتي عليها لاحقاً.
(2) تعرّض تمثاله في مدينة "معرّة النعمان" للنسف من قبل ظلاميّي القرن الحالي.
(3) منح لاحقاً رتبة الامانة
|