اعتذر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عن الحرب التني قادها وجورج بوش الإبن في العراق. تضليلٌ إعلامي بامتياز، جعل من بضع كلمات قالها أصغر من دخل بوابة «داونينغ ستريت» عنواناً رئيساً في مختلف وسائل الإعلام العالمية. فالاعتذار جاء جزئياً وغامضاً، بينما لا مؤشر في العمق إلى وجود تراجع في توجّهات اليمين المحافظ في الولايات المتحدة، والذي كان بلير ممثلاً له في بريطانيا التي تحوّلت إلى دولة ملحقة بالولايات المتحدة مع بدايات القرن الحالي، خصوصاً في فترة احتلال العراق.
فرئيس الوزراء البريطاني الأسبق لم يعتذر بشكل رسميّ في مقابلته مع شبكة «CNN» الإخبارية الأميركية. فهو «لا يزال يجد صعوبة في الاعتذار عن الإطاحة بصدام حسين» وما يشاهده اليوم في العراق «لن يكون أفضل حالاً في حال استمرار الرئيس العراقي». لكن بالتأكيد، «فإن خطأنا كان في فهم ما سيحدث بمجرد الإطاحة بالنظام».
هنا، وعلى رغم مفاعيل هذه الحيثية في ضوء النزوع الغربي المستمرّ لقلب الأنظمة غير المرتبطة بالاستراتيجية الأميركية واستنزاف الدول التي تعارض واشنطن، إلا أن ما سبقها ينفيها لجهة المقارنة بين حالة بقاء النظام ووجود الفوضى وحالة الإطاحة به التي يفضّلها شريك بوش في تدمير العراق.
كرّر بلير اعتذار وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول عن وجود «بعض الأخطاء في التخطيط». وحول «داعش»، قال بلير إن هناك «عناصر حقيقة» في ما يتعلق بالربط بين نهوض تنظيم «داعش» وبين حرب العراق 2003. «بالطبع لا يمكن القول إن من قام بإزالة نظام صدام حسين عام 2003 لا يتحمل المسؤولية عن الأوضاع الحالية عام 2015، ولكن من المهم أيضاً استيعاب أنه أولاً، الربيع العربي الذي بدأ عام 2011، كان له تأثير على العراق اليوم، وثانياً، داعش بدأ بالظهور أساساً في سورية لا العراق».
يخالف توني بلير تاريخ نشأة تنظيم «داعش» في العراق ويصرّ على أن سورية ساحته الرئيسة وامتداده. وهو بذلك يعبّر بصدق عن عدم وجود أيّ تغيير في توجّهات المحافظين الجدد. لكن، لماذا اهتم الإعلام بالتصريحات ووصفها بالاعتذار غير القابل للتشكيك؟
مما لا شك فيه أن الانقسام الغربي حول سورية والحرب على الإرهاب يجد التعبير الأدق له في وسائل الإعلام، وفي ضوء التدخل الروسي الأخير في سورية ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، تحاول الماكينة الإعلامية المرتبطة بالمجمع النفطي ومجمع الصناعات العسكرية في الولايات المتّحدة العمل على توجيه جملة رسائل أهمها:
أولاً، عدم الرهان على إسقاط الأنظمة بالقوة، من دون أن يكون هناك تصورٌ واضح للمرحلة التي ستلي هذه العملية. فما جرى في العراق وأفغانستان لم يؤتٍ ثماره على النحو الذي أرادته الشركات النفطية بالدرجة الأولى.
ثانياً، رسالة إلى الرأي العام الغربي وتحديداً الناخب الأميركي بضرورة عدم الانسياق وراء الدعوات المتعصبة لليمين وتحديداً المحافظين الجدد الذين لا يزالون يعدون باستئناف سياسة الحرب الاستباقية.
ثالثاً، التدخل الروسي في سورية يعتبر عند بعض النخب ثمرةً، لا لسياسات أوباما، بقدر ما هو نتيجة من نتائج محاولة تغيير التوازنات الدولية والتعامل مع موسكو على أساس أنها دولة تابعة. وهو ما أدّى إلى هذا الحلف الروسي ـ الصيني على المستوى الدولي. وبالتالي، فإن تحمّل جزء من مسؤولية ظهور «داعش»، وفق ما قاله بلير، يمهّد الطريق أمام الدعوات لتعاون ما مع روسيا لمعالجة الأزمات الدولية المتعددة وفي مقدّمها الحرب على «داعش» والوضع في سورية.
لم يتراجع بلير عن مواقفه وتوجّهاته، لكنه نطق بما يريده الإعلام وهو ما كان كافياً لتحتل تصريحاته العناوين الرئيسة في غالبية وسائل الإعلام الغربية.
|