مارين لوبين نقلت «الجبهة الوطنية» إلى مستوى جديد في الحياة السياسية الفرنسية. اليمين الأوروبي الذي يوصم بأنه «متطرف» تقدّم في الانتخابات الإقليمية في فرنسا بعد تقدّمه في الانتخابات الأوروبية التي أجريت عام 2014 وحصوله حينذاك على نسبة 25 في المئة من أصوات الناخبين الفرنسيين.
«الجبهة الوطنية» الذي تركّز الحملة ضدّه على أنه يخالف مبادئ الجمهورية الفرنسية، تقدّم خلال ست سنوات من الانتخابات الإقليمية الأخيرة بمقدار ثلاثة أضعاف، حصل في الجولة الأولى للانتخابات الحالية على 30 في المئة من أصوات الناخبين، فيما كانت نتيجة الحزب في انتخابات عام 2010 11.4 في المئة من الأصوات، في وقت يتعرّض الرئيس فرانسوا هولاند وحزبه للهزيمة الرابعة في حقبة الرئيس الاشتراكي بحصول تحالف اليسار على 23.26 في المئة من الأصوات في الانتخابات الإقليمية، وهو الذي خسر قبلها الانتخابات البلدية وانتخابات المناطق والانتخابات الأوروبية. لا شعبية للرئيس الفرنسي، لكن ما سرّ شعبية لوبين، وكيف يحوز حزب يتعرّض لأبشع أنواع التهم والخطايا وفق القاموس الأوروبي، على المرتبة الأولى في الانتخابات الإقليمية الفرنسية، ويفوز بستّ مناطق من أصل 13 منطقة؟
تأتي انتخابات مجالس المناطق أو «الأقاليم» بعد ثلاثة أسابيع على هجمات باريس الدامية التي وضعت فرنسا ومن ورائها أوروبا على المحك. وأدت إلى طرح عدد من الأسئلة حول الهوية الأوروبية ومسألة الانتماء. وعلاقة هذه الهوية بالعاملين القومي والديني. وتأثيرات أزمة اللاجئين على التركيبة الديمغرافية للقارة الأوروبية، فضلاً عن تأثير المهاجرين الجدد على العلاقة بين قطبي القارة أي بين الغرب والشرق، هذا الأخير الذي يرى في المدّ الذي يأتيه من المتوسّط تهديداً وجودياً له كونه المستفيد ألأول من فرص العمل والنظام الاجتماعي الذي توفّره أوروبا الغربية؟
ماذا عن اليمين واليسار المتطرّف في أوروبا وتأثيرات بزوغ أحزاب جديدة على الأحزاب الكلاسيكية التي كيّفت القارة مع متطلبات الهيمنة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية؟
الإسلاموفوبيا هي الأخرى باتت هاجساً مسيطراً على العامة قبل النخب الأوروبية، فما يجري من رعاية لتنظيم «داعش» ونفخٍ في قدراته الخارقة، ونعته بالدولة من غالبية الساسة الأوروبيين، ما أدى إلى نتائج عكسية وأثّر بشكلٍ مباشر على مزاج العامة الذين باتوا لا يميزون بين الإسلام والوهابية التي قدّمت غربياً على أنها رأس المظلومية السنية في المنطقة؟
مارين لوبين التي تملك أجوبة مختلفة في هذه الملفات عن كافة الساسة الفرنسيين بدءاً من كيفية انتقاء المهاجرين مروراً بالتعامل مع الإرهاب، وليس انتهاءً بالموقف من سورية ودولتها، وضعت الأحزاب التقليدية على الرف، وعلى رغم التقارب في النتائج بينها وبين تحالف الجمهوريين والحركة الديمقراطية اليميني الذي حصل على 27.33 في المئة من أصوات الناخبين، إلا أن الموجة الزرقاء التي غطّت خريطة المناطق الفرنسية وأبعدت الموجة الوردية الاشتراكية جاءت لمصلحة لوبين التي أحدثت زلزالاً سياسياً في البلاد وصدمةً تتجاوز في تداعياتها فرنسا لتمنح الأحزاب القومية الأخرى في أوروبا دفعاً معنوياً كبيراً، خصوصاً في إسبانيا على سبيل المثال، وحتى ألمانيا التي تشهد انقساماً واضحاً في شأن ملف المهاجرين.
«داعش» على سواحل أوروبا وأبوابها، ولا يزال هولاند وفريقه محتارين بين ما إذا كان العائد من سورية إلى فرنسا «جهادياً أم إرهابياً»، بينما ساركوزي الذي أخذ موقفاً متمايزاً للغاية عن هولاند وفريقه في الملف السوري وملف العلاقات مع روسيا فشل هو الآخر في الحصول على المرتبة الأولى في الانتخابات، ولعل هذه الحيثية هي التي تفسّر ما يمكن تسميته بالتغيّرات العميقة في بنية المجتمع الأوروبي والاتجاه نحو الانكفاء على الداخل ومقاربة المسألة الوطنية والقومية بطريقة أكثر تحرراً من عقد الحرب العالمية الثانية، وأكثر إلحاحاً ومصيرية بسبب ملفي اللاجئين والإرهاب. وبغض النظر عن نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الإقليمية التي ستُجرى في 13 كانون الأول الجاري، فإن حزب الجبهة الوطنية بات يتمتع بقاعدة شعبية تتجاوز ربع الناخبين الفرنسيين، وهو أمر له حساباته قبل 18 شهراً من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
|