إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

مستقبل «إسرائيل»: مقاربات متعدّدة مع تركيز خاص على مقاربة علم الاستعمار الاستيطاني المقارن 1

د. جورج جبور - البناء

نسخة للطباعة 2018-02-16

إقرأ ايضاً


أولاً ـ مقدمات: أسئلة البحث وخطته:


منذ ولدت «إسرائيل» في عام 1948 وسؤال المستقبل يلاحقها: هل ستدوم؟ كم من السنوات ستدوم؟ ما العوامل التي ستؤدّي الى ديمومتها والأخرى التي ستعمل على زوالها؟

ولا ريب انّ هذه الأسئلة المترافقة مع ولادة «إسرائيل» إنما هي ناتج طبيعي لشعور عام مؤدّاه انّ ولادة «إسرائيل» لم تكن طبيعية. يضاف إلى الشعور العام المستقرّ باصطناعية الولادة، عامل ثان ناتج عن ظروف التطوّر. فمنذ قامت «إسرائيل» وهي تعتدي وتتوسّع. وقد أحسن من وصفها بأنها غدة سرطانية.

يحاول هذا البحث الإجابة عن الأسئلة السابقة في ضوء المعطيات المتوافرة وقت الكتابة التي ابتدأت يوم العاشر من الشهر الأول من عام 2018. من أجل بلوغ الهدف فسوف أتناول مبرّرات الدراسات المستقبلية وحدودها، ومقاربتين مختلفتين لمستقبل «إسرائيل»، ثم أنتقل إلى التعريف بما أدعوه «علم الاستعمار الاستيطاني المقارن»، لأخلص إلى محاولة قراءة مستقبل «إسرائيل» بمقتضى هذا العلم. ولا ريب انّ الوقوف مع مكان الأمم المتحدة في تقرير مستقبل «إسرائيل»، ولا سيما على ضوء علم الاستعمار الاستيطاني، أمر واجب إذ انّ «إسرائيل» إنما ولدت من رحم التنظيم الدولي في عملية بدأت عام 1922. واختم البحث بنظرة ختامية.

ثانياً ـ الدراسات المستقبلية: مبرّراتها وحدودها

للدراسات المستقبلية تاريخ عريق يبتدئ مع بدايات البشرية وترسخ لا ريب مع الديانات التوحيدية، ولا سيما منها المسيحية والاسلام. في الرسائل تحذير من تحديد موعد لقيام الساعة وفي القرآن الكريم ما يماثل ذلك. وفي القرآن الكريم أيضاً نظر مستقبلي في موضوع الروم فهم «من بعد غلبهم سيغلبون».

وفي العصور الحديثة استشرافات مستقبلية مبنية على معطيات واقعية. من ذلك مثلاً ما توقعه توكوفيل الفرنسي، منتصف القرن الثامن عشر، من انّ من المستحيل جعل الجزائر فرنسية. كتب ذلك في وقت كان تطلق فيه فرنسا على الجزائر تسمية «فرنسا ما وراء البحار». كذلك من توقعات المفكر نفسه ما ذكره من انّ قطبي العالم سيكونان أميركا وروسيا. بنى توقعه على ما لدى الدولتين من اتساع أراض ومن ثروات طبيعية.

وفي القرن العشرين انتشرت مراكز الأبحاث المستقبلية ولا سيما في أميركا والغرب يعامة. ومع تقدّم العولمة في القرن الحادي والعشرين أصبح «علم المستقبل» واحداً من ركائز الحياة المعاصرة بدءاً من توقعات مستقبل سوق سلعة معينة، إلى حسابات ما ينتج عن تقاطع فعاليات زرّين نوويّين يهيمن عليهما زعيما كوريا الديمقراطية والولايات المتحدة الأميركية. ولنتذكر أنني أكتب في فورة «النار والغضب» التي أطلقها كتاب وولف عن الرئيس ترامب.

مبرّرات الدراسات المستقبلية كثيرة وأوّلها شوق الإنسان الى معرفة ما يخبّئه له الغد. ويغذي هذه الدراسات التقدّم العلمي الكبير الذي تخوض غماره البشرية. إلا انّ حدود هذه الدراسات كثيرة أيضاً. فإذا كان من السهل توقع التطوّرات الديموغرافية مثلاً فمن الصعب توقع ان يكون يوماً بعينه، هو يوم 11 ايلول 2000، موعداً لتنفيذ أعمال إرهابية هي الأعظم حجماً في أميركا ومن قبل مجموعة استقرّ الرأي الرسمي على أنها غير أميركية.

وقد لاحظت منذ أوائل العقد السادس من القرن العشرين، وكنت آنذاك اتابع الدراسات العليا في أميركا وقد أوفدتني اليها جامعة دمشق، انّ العلوم السياسية تتجه اتجاهاً رياضياً تحت عنوان: «البوليتيكومتريكس»، متابعة في ذلك علم الاقتصاد الرياضي: «الايكونومتريكس». ولا تزال مراكز الأبحاث الاستراتيجية تتابع التطوّر في هذا الاتجاه، وتتابع أيضاً، وفي الوقت نفسه، الرصد والتقييم التقليديين للظواهر السياسية بما فيها من «حدس» شخصي.

في الدراسات السياسية المستقبلية شيء من عدم الدقة العلمية نتيجة عدم القدرة على ضبط كلّ عوامل الفعل السياسي. وهذا أمر مفهوم. إلا انّ عدم الدقة ليست مسوغاً للابتعاد عن محاولة رؤية المستقبل. وتبقى الرؤية احتمالية تقريبية في كلّ حال. ولا يدّعي هذا البحث لنفسه علمية تتجاوز الاحتمال والتقريب.

ولعلي في ما أحاوله اليوم إنما أحاكي ما قام به مؤرّخ جنوب أفريقيا الأبيض، ارثر كبل – جونز الذي جعل لكتاب نشره أواخر الأربعينات، أوائل سنوات الأمم المتحدة وبعد استيلاء حزب الابارتايد على الحكم، جعل لكتابه عنواناً مثيراً في غرابته: «تاريخ جنوب افريقيا من عام 1952 الى عام 2010، نشر لأول مرة عام 2015».

في الكتاب تنبّأ المؤرّخ بانتهاء حكم الابارتايد، لكنه أجّل نهايته الى ما بعد عقدين تقريباً من نهايته الفعلية. ما هو ثابت في فكر ذلك المؤرّخ الكبير، الذي يحظى باحترام وافر، إيمانه بأنّ ذلك النظام الظالم، نظام الابارتايد الفصل العنصري زائل لا محالة.

ثالثا: مقاربتان متداولتان لمستقبل إسرائيل:

الحتميات اللاهوتية والاحتمالات السياسية

تحفل الأدبيات المتداولة بشأن مستقبل «إسرائيل» بحتميتين لاهوتيتين، واحدة إسلامية والثانية يهودية.

معظم القائلين بحتمية إسلامية في ما يتعلق بمصير اليهود يعتمدون في قولهم على انّ القرأن الكريم أوضح ذلك في الآية الرابعة من سورة الإسراء.

لكن هذا لا يعني انّ كلّ المسلمين يؤيدون الفكرة التي تقول بأنّ مستقبل اليهود هو التتبير ايّ الدمار. واحد من المسلمين يرى في القرآن الكريم إشارة الى «حق» لليهود في فلسطين فقد وعدهم الله بها. هذا الواحد هو الإعلامي الكويتي عبد الله الهدلق، ولا يذكر رأيه أحد إلا في معرض استنكاره. وثمة مسلمون عديدون لا يأخذون بالتفسير الحرفي لتلك الآية الكريمة او لغيرها.

أما القائلون بحتمية لاهوتية يهودية بشان مستقبل إسرائيل فيرون في بعض الكتابات التوراتية ما يثبت وجهة نظرهم. فأرض فلسطين لليهود بموجب وعد إلهي. ولنلاحظ انّ تصريح بلفور لم يشر الى مبرّر إعطاء اليهود حقاً في فلسطين رغم وضوح الجذر الديني فيه. وحين أقرّت عصبة الأمم صكّ الانتداب على فلسطين عام 1922 جعلت المبرّر تاريخياً ولم تذكر ايّ مبرّر ديني لأنّ العصبة علمانية. إلا انّ الحكومة البريطانية في 23 نيسان 2017 وفي معرض إعلانها عدم نيّتها الاعتذار عن تصريح بلفور ذكرت انّ التصريح مبرّر تاريخياً ودينياً. في بلادنا اليوم إفصاح أوضح عن العلمانية تظهره أحياناً بعض التصريحات الرسمية. مع ذلك لم يقم أحد بتنبيه الحكومة البريطانية الى انّ التبرير الديني لتصريح بلفور كان أحد الأسباب التي أسهمت في تعميق التطرف ـ بل الإرهاب ـ التكفيري.

وتبقى فكرة الوعد الإلهي متداولة دينياً، وخادمة مخلصة للاستغلال السياسي في «إسرائيل» خاصة رغم أنها مرفوضة علمياً وعلمانياً.

ولنلاحظ انّ الوعد الإلهي لا يعني انّ كلّ اليهود او انّ كلّ الصهاينة ومن معهم يؤيدون الفكرة التي تقول بانّ «إسرائيل» الحالية الراهنة هي التي أوصت التوراة بإنشائها. المدى الجغرافي للوعد الإلهي موضع جدل مستمرّ. ثمة اختلافات جذرية في هذا الموضوع بين الصهاينة.

هل يتزايد أنصار القائلين بحتمية لاهوتية إسلامية؟ من الصعب تأكيد ذلك. إذ بينما تنتشر دعوات تكفير اليهود ـ ومعهم النصارى أحياناً ـ لدى بعض الجهات الإسلامية، فإننا نلاحظ انّ هذه الجهات منشغلة عملياً بمحاربة المسلمين والمسيحيين وكأنها لا ترى في التوسّع الصهيوني ما يوجب عليها الانشغال بمحاربته. غدا النص الديني لدى كثير من هذه الجهات مبرّراً لأعمال إرهابية موجهة الى الداخل العربي والإسلامي، وليست موجهة الى «إسرائيل» واليهود. عند هذه الجهات ينبغي إصلاح البيت أولاً. واذ يتعمّق الضعف العربي والإسلامي العام، فمن الممكن الجزم بأنّ القائلين بحتمية لاهوتية إسلامية مقيمون في حالة كمون يمليها الضعف.

في كلّ حال، وإذا أخذنا بالقول المتداول من انّ التطرف يولّد التطرف، فإنه يصحّ التفكير بانّ تصاعد نفوذ أنصار الحتمية اللاهوتية اليهودية سوف يؤدّي، في الأرجح، الى تصاعد نفوذ أنصار الحتمية اللاهوتية الإسلامية. لكن التطرف عند طرف قد لا يولّد تطرّفاً عند الطرف الآخر. قد يولّد التطرف عند طرف قوي ليناً لدى الطرف الآخر الضعيف، ليناً قد يتحوّل إلى رضوخ يصحّ ان تتمّ فلسفته على انه مجسّد لإرادة إلهية توصي بالجنوح الى السلم.

ولا ينتهي حديث الحتميات اللاهوتية الى نتيجة مقبولة لدى الجميع، لكن للمؤمن بحتمية لاهوتية لدى الطرفين مسافة أمان. الحتمية التي يؤمن بها ستفرض نفسها على الأرض ولكن ليس الآن بالضرورة، بل في مدى زمني غير محدّد. الزمن اللامتناهي مسافة أمان. ويبقى غامضاً مستقبل «إسرائيل» المنظور بمقتضى مقاربة الحتمية اللاهوتية.

ماذا عن مستقبل «إسرائيل» في مقاربة الاحتمالات السياسية؟

تتنوّع المشاهد بحسب هذه المقاربة. أكتب بعد لحظات من قراءة كلمة تشبه الإنذار لصديق أقدّره يحذر بها من قمة الرياض العربية القادمة إلينا قريباً. قضية فلسطين التي يرى كثيرون أنها تصفّى على مراحل، قد تأتي قمة الرياض لتصفّيها بالكلية إذ هي موعد صفقة العصر كما يقال. تلك هي وجهة نظر الصديق كما فهمتها. يدعم أصحاب هذا المشهد رؤيتهم بإقبال عدة أنظمة عربية على إقامة علاقات مع «إسرائيل» وعلى توطيد تلك العلاقات ان سبقت إقامتها.

وثمة وجهة نظر يمكن ان يُقال إنها تتناقض مع المشهد السابق. مؤدّى وجهة النظر هذه ـ ومؤيدوها كثر وأنا منهم ـ انّ قضية فلسطين أصبحت قضية الإنسانية جمعاء ولن يهدأ للإنسانية بال إلا إذا وصل الفلسطينيون إلى حقهم مع بعض التنويعات في تفاصيل هذا الحق. ولدعم هذا المشهد يسوق أصحاب وجهة النظر هذه أدلة تظهر تصاعد قوة القضية حتى ضمن دوائر التنظيم الدولي الذي كانت منها بداية الاجرام بحق الفلسطينيين عام 1922 حين تبنّت عصبة الامم صكّ الانتداب متضمّناً تصريح بلفور. من أمثلة تصاعد قوة القضية انسحاب أميركا وإسرائيل من اليونسكو. ومن امثلتها انّ قراراً تحت الباب السابع من الميثاق قد صدر عن الجمعية العامة في دورة استثنائية بصفتها صاحبة قرار مساو في قوّته لقرار من مجلس الأمن، وصدر بأغلبية كبيرة. وقبل ذلك كان القرار بشأن القدس في مجلس الأمن حيث انفردت أميركا بحق نقضها مجابهة كلّ الدول الأعضاء الأخرى. وليس في علمي انّ اياً من الاستعمالات الروسية لحق النقض في الشأن السوري شهد روسيا منفردة في مجابهة مماثلة. كان لروسيا دائماً في استعمالاتها لحق النقض من يؤيدها من أعضاء المجلس الآخرين.

المشاهد متنوّعة ومتناقضة، والسياسة الدولية كما نعلم ملأى بالمفاجآت. هي علم وتآمر معاً. هي حسابات موضوعية وهي تفاعلات حدس وهاجس ونرجسية معاً. من كان من العرب او غيرهم يتنبّأ بأنّ الرئيس السادات سيقوم بما قام به في 19/11/1977 من زيارة الى «إسرائيل»؟ من كان يتنبّأ انّ اغتيال رابين سوف يعزّز الاتجاه الديني اليميني في «إسرائيل» بدلاً من تقويضه؟

ليس للاحتمالات السياسية ضوابط يمكن ان ترشدنا الى ما سيكون عليه مستقبل «إسرائيل». وتتاقلم المقاربة الدينية في كثير من الأحيان مع مفاجآت مقاربات الاحتمالات السياسية. فهناك من قال بعد هزيمة 1967 العسكرية انّ الاسرائيليين تمسكوا بدينهم فانتصروا. اما نحن فقد هزمنا لأننا ابتعدنا عن الاسلام. كذلك تتأقلم معها الدراسات الاسترجاعية فتجعل مثلاً من زيارة السادات الى القدس أمراً متوقعاً. تجعله كذلك، لكن ليس قبل أن يحدث، بل بعد أن حدث. اما «بطل» المفاجآت السياسية وقت الكتابة فهو الرئيس ترامب وما أثار من نار وغضب.

باختصار: ثمة في علم المستقبل السياسي احتمالات تحاول الحواسيب محاصرتها، الا انّ السياسة، وهي اختيار إنساني، تبقى طليقة الى حدّ لا بأس به، متمرّدة على علم السياسة الرياضي، خاضعة للحدس بل للهوس وللحسابات الشخصية. ويبقى عليّ ان أتجاوز القول السابق الى نقيضه فأتابع: وسيستمرّ مع ذلك علم السياسة الرياضي في محاولته ترويض ما يصعب ترويضه.

رابعاً: مقاربة علم الاستعمار الاستيطاني المقارن

انتقال الأفراد و/ او الجماعات من مكان لآخر ظاهرة عرفتها البشرية منذ القِدم. وتتنوّع أسباب الانتقال فقد تكون اقتصادية او دينية او غير ذلك. وليس بالأمر المتنازع فيه انّ تشكلات الدول الحالية في كثير منها إنما تجسّد حالات انتقال سكاني. الا انّ الظاهرة الأهمّ تاريخياً في موضوع الاستيطان هي تلك التي عرفها العالم اثر الاكتشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر. وبما انّ الاستيطان في المناطق المكتشفة حديثاً انما قامت به القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك، فمعنى ذلك انّ استعمارها لتلك المناطق لم يكن بقصد الاستغلال الاقتصادي فقط بل كان بقصد الاستيطان. من هنا يمكن القول انّ «ثمة حالة استعمار استيطاني في كلّ مرة حدث فيها، في العصر الحديث، ان قام غرباء، هم في الأغلبية اوروبيون، باستيطان قطر معيّن او أرض معينة لا تخصّهم، وحيث جاء هذا الاستيطان نتيجة التأييد الضمني او العلني للنظام والقوى السياسية الأوروبية، وحيث أخذ المستوطنون، بعد توطيد استيطانهم، بممارسة السلطة فوق ذلك القطر او تلك الأرض، وفوق من كان أو لا يزال في ذلك القطر او تلك الأرض من سكان أصليين». من دراسة لصاحب هذه الأسطر في المجلة المصرية للقانون الدولي، مجلد عام 1971 وعنوانها «الطبيعة العنصرية للاستعمار الاستيطاني والمسائل القانونية الناجمة عنها» .

أما علم الاستعمار الاستيطاني المقارن فهو تلك المقاربة العلمية التي تدرس التجارب المتعدّدة للاستعمار الاستيطاني وتحاول استخلاص قواعدها الثابتة. ونعلم بالطبع انّ كلمة «علم» لها معنى دقيق في حالة العلوم الاساسية، ولها معنى اقلّ دقة حين يختصّ الأمر بالعلوم الاجتماعية، وعلم الاستعمار الاستيطاني واحد منها.

أساس هذا العلم مقارنة أسباب انتقال المهاجرين من بلادهم وأساليبه الى بلاد الاستيطان في ظلّ قوة استعمارية مهيمنة، وفي ظلّ شعور بالتفوّق الذاتي، العنصري او الديني في الغالب، ثم مقارنة تفاعل المستوطنين مع السكان الأصليين في ظلّ تلك القوة، ثم مقارنة نظم التفرقة العنصرية والتمييز العنصري التي يقيمها المستوطنون بعد تشكيلهم كياناً سياسياً مستقلاً. ثم مقارنة مستقبلات النظم الاستيطانية.

وبالطبع ثمة تمايزات في كلّ حالة من حالات الاستعمار الاستيطاني. بعض تجارب الاستيطان لم تصل الى مرحلة يشكل فيها المستوطنون كياناً مستقلاً كحالة مستوطني الجزائر. وبعضها كان للتنظيم الدولي دور أساس في إحداثه كـ»إسرائيل»، بينما كان لهذا التنظيم نفسه دور في القضاء عليه، كما في حال جنوب روديسيا وأفريقيا الجنوبية.

كذلك علينا ملاحظة انّ الاستعمار الاستيطاني يتميّز عن الاستعمار التقليدي بثلاثية العلاقة التي تحكمه. في الاستعمار التقليدي طرفان: المستعمِر بالكسر والمستعمَر بالفتح. في الاستعمار الاستيطاني طرف ثالث هو المستوطن. المستعمِر بالكسر هو من أتى بالمستوطن اساساً، الا انّ تزايد عدد المستوطنين يولد لهم مصالح تختلف عن مصالح الدولة الاستعمارية. الطرفان يضطهدان السكان الأصليين، الا انّ اضطهاد المستوطنين للسكان الأصليين أعتى وأشدّ. لماذا؟ لأنّ الدولة الاستعمارية لها حضور دولي فيه شيء من الحرص الأخلاقي على تواضعه. أما المستوطنون فهم قوة داخلية في المكان الذي يمارس عليه الاستيطان، وهذا الانحصار في الداخل يحجب عنهم ضغوط الخارج. في الاستعمار الاستيطاني كثيراً ما يلوح للسكان الأصليين انّ العدو هو المستوطن. اما الدولة الاستعمارية التي هي من سمح بالاستيطان بل شجعته، فانها تبدو احياناً ـ بل وبالضرورة ـ كأنها حكم بينهم وبين المستوطنين.

لعلم الاستعمار الاستيطاني هذه الخصيصة التي تميّزه. من أساسياته التركيز على العلاقة الثلاثية واستنطاقها. ورغم انّ هذا العلم لم يكن غائباً في تاريخ تطوّر العلوم الاجتماعية، الا انه لم يجتذب كثيراً من الاهتمام.

وتدلني المتابعة التي استطعت القيام بها على إمكان القول بانّ علم الاستعمار الاستيطاني ازدهر بدءاً من الستينات. وفي قولنا « ازدهر» شيء من المبالغة. فالحقيقة الجارحة انّ هذا العلم الموجود في أرض الواقع، والذي يبحث عمّن يدعمه، لم يجد من يتعاطف معه بجدية في الأكاديميات الكبرى التي تصنع العلم، ونعني بها أساساً الأكاديميات الغربية. وسبب عدم التعاطف الجدي مع هذا العلم غياب المصلحة في التعاطف معه. وهكذا نجد علم الاستعمار الاستيطاني مبعثراً في حقول أكاديمية متعددة لكلّ حقل منها عنوانه الخاص.

ولننظر: العنوان الأبرز للاستيطان في أميركا يدرس تحت عنوان الاكتشافات الجغرافية. والعنوان الأبرز للاستيطان في الجزائر يدرس تحت عنوان سياسة فرنسا الاستعمارية. بينما يدرس الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين تحت عناوين عديدة منها اللاهوتيات اليهودية والمسيحية.

وأتى ازدهار علم الاستعمار الاستيطاني في الستينات ضمن ونتيجة أجواء سياسية ملائمة. فقد ابتدأ ذلك العقد بإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 1514 الذي يعلن حق الشعوب في استقلالها، وتتابعت فيه أحداث تحرّرية وسياسية ذات اثر مثل استقلال الكونغو بقيادة لومومبا، ونجاح الجزائر في التحرّر من الاستعمار الفرنسي، وقيام منظمة التحرير الفلسطينية وإصدارها الميثاق الوطني الفلسطيني عام 1964، وإعلان ايان سميث الاستقلال المنفرد عن المملكة المتحدة والذي قال الرئيس عبد الناصر في وصفه بأنه يماثل ما قام به الصهاينة في فلسطين، وترافق كلّ ذلك مع ما نتج عن الاحتلال الإسرائيلي في حزيران 1967 من سياسة اضطهاد للفلسطينيين ثم من سياسة توسع استيطاني، وترافق أيضاً مع توسع تمثيل الدول الأفريقية في الأمم المتحدة، وتصاعد النضال في الأقطار الجنوبية من أفريقيا ضدّ العنصرية، وعقد مؤتمر عدم الانحياز في الجزائر ايلول 1973 قبل اسابيع قليلة من حرب تشرين، وتوّج ذلك كله بحرب تشرين التحريرية وقمة نجاحاتها الدبلوماسية إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 تشرين الثاني 1975 القرار رقم 3379 المساوي بين الصهيونية والعنصرية. ولن أنسى أن أذكر لعام 1960 انّ الرئيس عبد الناصر حين ألقى خطابه في الأمم المتحدة ذلك العام انما ألقاه بالعربية، وهكذا فقد طرقت الضاد العربية أسماع العالم، مؤذنة بزمن عربي بدا إذذاك قادماً.

في تلك الأجواء تصاعد الحديث عن ظاهرة الاستعمار الاستيطاني. وبدأت سلسلة مقارنات سريعة بين تجارب الاستعمار الاستيطاني المختلفة. وفي تلك الأجواء وبفضل مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت، متضامناً مع جامعة الخرطوم في السودان، صدر في الخرطوم وبيروت معاً، في آب 1970، كتاب بالانجليزية لصاحب هذه الأسطر، يرسم ملامح علم الاستعمار الاستيطاني، مركزاً على تجارب ثلاث، كانت ذات أهمية راهنة سياسياً آنذاك، هي تجارب جنوب أفريقيا وفلسطين وروديسيا الجنوبية. اسم الكتاب:

Settler Colonialism in Southern Africa and the Middle East

وبعد عام وبضعة أشهر وجهت سورية رسالة رسمية الى جامعة الدول العربية تحثها بها على تنفيذ مشروع وضعه مؤلف الكتاب وتبنّاه الرئيس حافظ الأسد بإنشاء «مؤسسة لدراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن في العالم».

ومن الممكن تلخيص علم الاستعمار الاستيطاني استناداً الى جدول محتويات الكتاب آنف الذكر كما يلي:

ثمة في البداية أجواء الاستعمار والامبريالية، وثمة من ضمنها، مستوطنون يستبطنون العنصرية الحضارية و/ أو الدينية، وفي أحيان كثيرة يجاهرون بها، يبحثون عن وثيقة تعطي استيطانهم شرعية من دول الاستعمار والامبريالية التي يدركون أنها تتعاطف معهم. تبلورت الوثيقة المنشودة في التجارب الثلاث، في أعلى مراحلها، تبلورت في الميثاق الذي منحته بريطانيا لسيسيل رودس، وفي الدستور المؤسس لاتحاد جنوب أفريقيا، وفي تصريح بلفور.

على أساس هذه الوثائق توغل المستوطنون بأساليب مختلفة في داخل الأراضي المستوطن عليها، مصطدمين، بعلوية، مع السكان الأصليين، مصدِرين في الوقت ذاته وبالترافق مع التوغل، قوانين وأنظمة تقيّد حركة المواطنين الأصليين، حتى إذا فشلت تلك القوانين والأنظمة في هدف إخضاع المواطنين الأصليين كانت القوة العارية في مواجهتهم هي الملجأ الأخير، متجاوزة قوانينهم وأنظمتهم العنصرية بالذات.

ثم يتقدّم علم الاستعمار الاستيطاني ليدرس ردود الفعل على الاستيطان محلياً ايّ وطنياً وإقليمياً ودولياً. ويخطو بعد ذلك خطوة أخرى فيتبيّن نظرتين للمستقبل رؤيتين للمستقبل: واحدة للمستوطنين أساسها التفوّق، وثانية للسكان الأصليين أساسها العدالة، بما في العدالة من سمو أخلاقي إزاء من يسمّون أنفسهم متفوّقين. هذا ويمكن الاطلاع على مزيد من التفصيل عن العلم المقترح وعن مفردات مقرّر عن الاستعمار الاستيطاني ضمن بحث قرئ في ندوة مرافقة للمؤتمر الثاني الذي عقدته الجمعية العربية للعلوم السياسية، أواخر كانون الثاني أوائل شباط 1987، نشر في كتاب لي بعوان: «نحو علم عربي للسياسة» دمشق، الإدارة السياسية للجيش، ط. /3/، 2009 .

ومن الجميل انّ محاولة الكتاب الأساس، أيّ الكتاب بالانجليزية، الصادر عام 1970، توليد علم الاستعمار الاستيطاني لقيت أصداء حسنة من قبل عديد من الاختصاصيين على الساحتين العربية والدولية من بينهم لجنة الخبراء التي أنشأتها جامعة الدول العربية لبحث ما تبناه الرئيس الأسد، ومن بينهم أيضاً سيد يس وعلي الدين هلال ومحمد صفي الدين ابو العز وعبد الوهاب المسيري ومحمد خالد الأزعر وريتشارد ستيفينز وجيمس زغبي وغيرهم كثير. كذلك أحدثت جامعة الخرطوم مقرّراً خاصاً عنوانه «الاستعمار الاستيطاني في جنوب أفريقيا وفي الشرق الأوسط» – معتمدة حرفياً عنوان الكتاب ـ كذلك قرّرت لجنة أكاديمية في معهد الاستشراق بموسكو، برئاسة بريماكوف، ترجمة الكتاب الى الروسية. كان ذلك عام 1981، وليس في علمي انّ القرار قد نفذ. وكما علمت، فقد أوكل أمر ترجمته الى الاستاذ جورج عويشق، الباحث والسياسي السوري الذي انتقل الى رحمة الله قبل إكمال العمل.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024