إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

لـمـاذا أنـا عـائـد الـى الـوطـن (*)

الأمين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2012-11-23

إقرأ ايضاً


هل تعرف يا صاحبي لماذا أنا عائد الى الوطن؟.. بالطبع تستغرب وتتعجب وقد تتهمني بالجنون.. لأ.. ما أنا بمجنون ولا غبي.


صحيح اني أملك هنا المنازل ومصنع النسيج، وعائلتي تعيش بهناء، كما أبنائي في المدرسة... وصحيح أيضاً انني هنا منذ خمس وعشرين سنة، وان الأوضاع الاقتصادية في الوطن ليست على ما يرام.. كل هذا صحيح يا صاحبي، ومع ذلك أنا عائد.


مجنون؟ مهلك قليلاً، سأفسّر لك لماذا أعود... أجلس أرجوك، فقصتي طويلة، ولن تنتهي بدقائق. أنت تعلم انني من قرية كفر بعل الواقعة قرب الحدود مع "إسرائيل"، بالطبع هذه القرية يا صاحبي كانت تضم ثلاثة الآف نسمة.. ما زلت أذكر عندما كنت أذهب الى العين مع الصبايا، وعندما كنا نرقص الدبكة في ساحة الضيعة في المناسبات. كذلك ما زلت الى اليوم اتنشق هواء السنديانة العتيقة قرب باب منزلنا العتيق. كنا صغاراً نزقزق كالعصافير.. نركض كالفراشات، وكانت أزقة قريتنا تردد صياحنا وغناءنا.. بينما أصوات أجران الكبة تتعالى مع صوت جرس الكنيسة وصوت المؤذن.


قريتنا، يا صاحبي، أحببتها. أتلومني؟ أحببت ساحتها الرملية، أزقتها المغبرة.. سنديانتها.


لم تعجبني مدينة في العالم كما أعجبتني كفر بعل. ساحتها أكبر من الكونكورد.. أزقتها أكبر من الشانزليزيه.. وتأكد يا صاحبي ان سنديانتها أضخم من غابات الأمازون.


أأبالغ؟

لا يا صاحبي.. هي في نظري هكذا.


هكذا كانت كفر بعل.. لن أخبرك عن سهرات الطرنيب، عن مباريات رفع الجرن، عن فروسية أبناء قريتنا، عن المدرسة العتيقة، عن الصبايا الجميلات، لن أخبرك عن ذلك، لأنني ان بدأت فلن انتهي من قصتي قبل اسابيع.


هل تعلم ماذا حدث لكفر بعل يا صاحبي؟ كفر بعل اليوم مقفرة. لم يبق فيها الا الشيوخ يا صاحبي.. الصبايا هجرتها.. الشباب هجروها.. حتى العصافير لم تعد تغط على السنديانة، والفراشات، آه، الفراشات أيضاً، هاجرت من كفر بعل.


لا لم تأخذها "إسرائيل".


كفر بعل هاجرت.. كفر بعل أصبحت هنا، هنالك. في كل مكان كفر بعل..

كان عمري تسعة عشر عاماً عندما غادرت كفر بعل.


أمي العجوز، قلت لها اني سأعود بعد خمس سنوات.. ما هي الخمس سنوات يا والدتي؟ اجمع المال وأعود.. لم يفد رجاؤها، لم تؤثر دموعها. دموع أمي يا صاحبي ما زالت تتساقط حتى اليوم على وجنّتي. كل ليلة اسمع كلمتها الأخيرة: عد يا ولدي...


غادرت كفر بعل.. وغادرها الكثيرون.. الى البرازيل غادروا.. الى كندا غادروا.. الى استراليا غادروا..


في مصنع النسيج يعمل 65 شاباً من كفر بعل.. كنت أطلبهم للعمل. شباب أقوياء، مخلصون، لا يغشون ابن قريتهم.. اطلبهم ويسافرون..


وكفر بعل تصغر وتتلاشى وتنزل في الأرض... أربعون عائلة فقط بقيت في كفر بعل. أربعون عائلة تنتظر دورها للسفر..


وتبقى كفر بعل للوحوش.. للحشرات.. "لإسرائيل" الرابضة أمامها..


لا تهزّ رأسك أسفا يا صاحبي... سأعود لأعمّر كفر بعل، لأعيد الفراشات والعصافير والدبكة وجرن الكبة وجرس الكنيسة وصوت المؤذن..


هل تعلم يا صاحبي ان مصنعاً ابنيه في كفر بعل يعيد اليها شبابها وصباياها.. أجل يا صاحبي سأبنيه في كفر بعل.. سأشيد مزرعة، ومدرسة، وأزرع التلة...


لا تضحك أرجوك!!


من لم يعد يتنشّق هواء السنديانة لا يشعر بمثل ما أشعر!.. قلت لك ان صوت جرن الكبة ما زال يرنّ في اذني، وصوت أمي ما زال يتردد في خاطري...


تسألني عن أولادي يا صاحبي؟.. سأعيدهم.. نعم، سأعيدهم... ليتعلموا لغتنا، لينشأوا كما نشأت... ليعمّروا قريتنا..


هل تريدهم يا صاحبي ان يضيعوا هنا؟.. اما سمعت يا صاحبي باليهود؟.. أما علمت انهم يذهبون الى بلادنا، بينما نحن نهجرها.


كفر بعل هي قريتنا يا صاحبي... فيها ماتت والدتي ووالدي وأهلي وأقربائي. سأعود لأضع زنبقة على قبر أمي ولأقول لها:


سامحيني يا أمي.. لقد كذبت عليك.. ولكنني أخيراً، عدت يا أمي!.


ما بك سكتّ؟. هل اقتنعت أخيراً يا صاحبي.؟


هل ستعود معي؟..

*

(*) نشرت في العام 1978 في جريدة "السلام" التي كانت تصدر في بيونس ايرس (الأرجنتين)، باسم "أبو غسان".

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024