إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الكيانية وعصر التكتلات الكبرى

نبيل المقدم

نسخة للطباعة 2007-05-26

إقرأ ايضاً


لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل الأحداث الجارية في عالمنا العربي منذ فترة من الزمن تمتد الى ما قبل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، ثم ما تلا ذلك من حروب عربية إسرائيلية وصولاً الى الغزو الأميركي للعراق، وانتهاءً بالأحداث الأخيرة المستمرة في لبنان منذ سنتين، عن منبعها الأساسي ألا وهو الواقع السياسي والاجتماعي المترهل الذي تعيشه منطقتنا العربية والذي سمح للمخططات الاستعمارية القديمة والحديثة بالتقدم في اتجاه وضع يدها على جزء كبير من المصالح القومية العليا للأمة وتسييرها وفق مشاريعها ومخططاتها.

في قراءة هادئة وموضوعية يتبين لنا حجم وضراوة التهديدات والأخطار التي يواجهها مجتمعنا في أمنه ووجوده نتيجة عدم التوجه نحو مكمن العلل لمعالجته المعالجة الجذرية المطلوبة. إن مكمن العلل هذا يتمثل في حصول عملية اضمحلال شديدة للعصبية القومية في مجتمعنا، التي هي حصيلة ونتيجة وعي المجتمع لتاريخه ومصالحه وهويته الحضارية والثقافية. إن غياب العصبية القومية أدى الى تقدم سريع للنهوج الكيانية التي احتُضنت وبوركت من قبل السياسات الرسمية في العالم العربي، حتى باتت هذه العصبية غائبة اليوم تمام الغياب عند معظم حكام عالمنا العربي، وهم بدورهم لا يعدمون وسيلة لتغييبها عن ثقافة شعوبهم. وقد أدى غيابها عن الوجدان القومي العام، الى تفشّي أمراض اجتماعية خطيرة في مجتمعنا راحت تنهش في جسم هذا المجتمع وتأكل من حيويته، كالطائفية والإقطاعية والمذهبية.

وغياب العصبية القومية أيضاً أدى الى تقدم للأصوليات الدينية التي راحت تقدم نفسها بديلاً من العصبية القومية الجامعة وتحمّلها مسؤولية النكبات والخيبات التي حلّت بنا. صحيح أن هذا المنطق هو في النهاية سائر في اتجاه الفشل والتلاشي، لكن لا يمكننا الإغفال عن حجم الكوارث والنكبات التي سببها هذا المنطق للمجتمع عندنا.

وأدى غياب التلاحم القومي أيضاً الى وقف عجلة التقدم الاجتماعي والثقافي عن الدوران بشكل جدي في مجتمعنا، بل على العكس من ذلك فقد ازدادت في ظل غياب هذا التلاحم عوامل التفسخ الاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة. وأدّت هذه السياسات الكيانية الى أن تصل الأمور الى حد أن العدو الصهيوني الذي كان لفترة من الزمن مرفوضاً بشكل قاطع رسمياً وشعبياً في عالمنا العربي، أصبح له في هذه الكيانات موطىء قدم رسّخه اعتراف بعض الحكام به رسمياً. لقد أدى انتهاج هذه السياسات الكيانية الى تحييد مصر التي لها ثقلها الاستراتيجي والحيوي الفعال من عملية الصراع مع إسرائيل وجرّ الأردن مخفوراً الى توقيع معاهدة سلام مع العدو بعد تهديده بتنفيذ مشروع الترانسفير وتحويله الى الوطن الفلسطيني البديل، وأدت السياسات الكيانية المتهورة للنظام العراقي السابق الى وصول العراق اليوم بعد غزوه من قبل الولايات المتحدة الى حافة التقسيم والتجزئة جغرافياً وسياسياً واجتماعياً وأصبحت ثرواته القومية عرضة للهدر والاستباحة. وكان النهج الكياني سبباً أساسياً في اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975. ليس سراً القول إن الكيان اللبناني نشأ بفعل تصادم المصالح الفئوية الداخلية والتقائها مع مصالح أجنبية.

ولقد رسخت هذه السياسة الكيانية المصالح الطائفية والمذهبية وغابت من بنية النظام السياسي في لبنان كل مؤشرات الفكر القومي الجامع، ونتيجة ذلك شهدنا جنوح بعض الفئات اللبنانية إبان الحرب الأهلية نحو الخروج من مشروع الدولة الواحدة الملتزمة بيئتها القومية الى مشروع دويلات العصبيات الطائفية المحشوة بسموم الفئوية والعنصرية. ومع أن اتفاق الطائف أعطى فرصة للبنان لإعادة بناء نظام سياسي جديد في شيء من الأسس التوحيدية إلا أن ذلك لم يحدث تحت ذريعة أن الواقع اللبناني لا يحتمل تفجير الحصون الطائفية. وها هي هذه القوى التي اختبأت في حصونها هذه في أعقاب سقوط المشاريع التقسيمية ورموزها بعد انتهاء الحرب الأهلية وبعد انسحاب إسرائيل من لبنان تحت ضعط المقاومة البطولية للشعب اللبناني تعود من جديد وفي لحظة عاصفة لتحاول أن تجرف كل الإنجازات الوطنية وتلقي لبنان من جديد في مشروع يناقض هويته القومية تستفيد منه إسرائيل في حربها المتعددة الأوجه ضد الأمة.

لقد أتى نجاح التنسيق بين لبنان والشام في الشأن الاستراتيجي والقومي العام ولا سيما في ما يتعلق بإيقاف الحرب الأهلية وتقديم المساعدة للدولة في بناء مؤسساتها، وخاصة مؤسسة الجيش، بالإضافة الى أن هذا التنسيق أسهم في ضرب مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان وإخراج البندقية الفلسطينية من أتون الصراعات الداخلية اللبنانية. كان لهذا التنسيق الدور المهم في انتصار المقاومة وتمكينها من هزيمة إسرائيل وإخراجها من لبنان. ولقد أعاد هذا النهج القومي الى دورة الحياة والتفاعل في الأمة بعضاً من مكانتها الحقيقية ولا سيما بعد حال الفوضى والبلبلة التي سادت عقب تمكن إسرائيل من خلق محاور جذبت بعض كيانات الأمة إليها في سعي لجعل هذه الكيانية جسر عبور نحو مشروعها الهادف الى بناء الشرق الأوسط الجديد، الذي يقوم على تقطيع أوصال الأمة السياسية والثقافية والاقتصادية وبعثرتها الى كيانات هشة غير قابلة للحياة تدور في فلك إسرائيل الكبرى المتخمة بالإمكانيات الزراعية والاقتصادية والخدماتية، إضافة الى التكنولوجيا النووية. إلا أنه يجب الاعتراف بأن هذا التنسيق لم يتحصن ضد طغيان بعض المرجعيات السياسية والطائفية والأمنية في لبنان وسوريا على جزء أساسي من مقدرات البلدين في مختلف الميادين، ولا سيما الاقتصادية والسياسية، وذلك على حساب شعور المواط! نين ٍ ?مصالحهم اليومية.

وقد أدى ذلك الى انخفاض حاد في مستوى الإيمان بضرورة وأهمية الترابط العضوي والتكامل القومي بين البلدين. وقد شكلت هذه الثغرة الاستراتيجية أرضية خصبة استثمرها الانتهازيون والنفعيون لتبرير الانقلاب على الخط القومي العام وليلتحقوا بمشروع المحافظين الجدد معتقدين بأنهم بذلك يحفظون مصالحهم ومواقعهم.

لم يكن القرار 1559 إلا حلقة من حلقات مشروع الشرق الأوسط الكبير. وهو يهدف من جملة ما يهدف إلى تبديد أي شكل من أشكال الوحدة والاتحاد بين الكيانين، وذلك من خلال محاولة فرض قطيعة رسمية وشعبية بينهما، عبر السعي الحثيث لإثارة مشكلات سياسية وأمنية تخلق حالة من العداء بين الشعبين. وبذلك تنفصل حلقات المواجهة بعضها عن بعض وتستفرد كلٌ على حدة.

يخطىء جداً من يظن أنه يمكن أن تظل أمتنا فاعلة ومؤثرة في دنيا الأمم وخاصة في عصر الإمبراطوريات المتوحشة اقتصادياً، إن لم تخرج من سجن الكيانية الضيقة إلى رحاب الوحدة القومية الحضارية إلا إذا كان البعض يستسيغ أن نظل مجرد أوطان منهوبة وأسواق مفتوحة للاستهلاك فقط.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024