قد لا تتوصل إيران والدول الكبرى الست إلى صيغة إتفاق نهائي في الاجتماع المقرر الشهر المقبل في فيينا. وربما تحتاج هذه المفاوضات المعقدة إلى جولات عدة قبل الوصول إلى خواتيمها المنشودة. لكن يجب أن لا يخامرنا أدنى شك في أن الأطراف المعنية كلها حريصة على بلوغ بر الأمان النووي... أللهم إلا إذا وقع ما ليس في الحسبان!
التصريحات التي أطلقها مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله خامنئي، في وقت كانت جولة المباحثات الأخيرة قائمة في جنيف، رسمت الإطار العام الذي تتحرك فيه طهران. فبعد أن شدد على حق بلاده بامتلاك التكنولوجيا النووية، وضرورة عدم التراجع عما أنجزته خلال العقود الماضية في حيازة المعرفة النووية، دعا بوضوح إلى مواصلة المفاوضات التي وافق عليها منذ البداية بهدف "كسرالأجواء العدائية لجبهة الاستكبار ضد إيران، وانتزاع المبادرة من الطرف الآخر، وإظهار الحقيقة لدى الرأي العام العالمي"، على حد تعبيره.
ولم تكد تمضي 24 ساعة على مواقف خامنئي هذه، حتى نقلت وكالات الأنباء العالمية عن مسؤول إيراني رفيع قوله إن طهران قدّمت في جولة جنيف الأخيرة إقتراحات إيجابية تُظهر استعدادها للوصول إلى تسوية في ما يتعلق بالمفاعل النووي في آراك الذي ينتج مادة البلوتونيوم. وأشار علي أكبر صالحي رئيس المنظمة الإيرانية للطاقة النووية في تصريح للتلفزيون الإيراني إلى إن الخطة الإيرانية "تتضمن العمل على تصميم جديد لمفاعل آراك بحيث ينخفض إنتاجه من البلوتونيوم إلى درجة كبيرة". وهذا ما يزيل بالفعل عقبة أساسية من طريق التسوية المطلوبة.
لكن أهم ما تكشفت عنه جولة جنيف، والأرجح أن تتم مواصلة بحثه في فيينا وربما في غيرها لاحقاً، هو ما ذكره مسؤول أميركي مشارك في المفاوضات بعد إنتهاء الاجتماع الأخير. كان المسؤول، الذي لم يكشف عن إسمه إلتزاماً بالقواعد الديبلوماسية المعمول بها، يرد على سؤال عما إذا كان برنامج الصواريخ الإيرانية مطروحاً للنقاش، فقال: "كل قضية يمكن أن تتخيلها... طرحت"!
نحن لسنا بحاجة إلى كثير من التخيل للقول إن قضايا بلادنا ستكون مطروحة في مسار المفاوضات النووية هذه، مباشرة أو مداورة، قبل التوصل إلى صيغة التسوية النهائية أو بعدها، بين إيران ومجموعة الست أو بينها ودول بعينها!
ولسنا بحاجة إلى كثير من التخيل للإشارة إلى أن التسويات العالمية، عندما توضع حيز التنفيذ، يكون لها وكلاء إقليميون قادرون على الإشراف على سلاسة تطبيقها أو فرضها بالقوة حين تدعو الحاجة.
ولسنا بحاجة إلى كثير من التخيل للتأكيد على أن التسوية تعني تقديم تنازلات من جانب جميع الأطراف حسب المصالح القومية الإستراتيجية لهذا الطرف أو ذاك.
إن التأمل الهادئ في أوضاعنا القومية من العراق إلى الشام إلى لبنان إلى الأردن إلى فلسطين... يكشف الحقيقة المفجعة: نحن الحلقة الأضعف في مجالنا الإقليمي الحيوي. "إسرائيل" وتركيا وإيران والسعودية (مصر غائبة مؤقتاً) لاعبون فاعلون بينما الأمة السورية تتمزق داخلياً على مختلف المستويات. ومن الطبيعي أن التسوية، عندما يحين موعد تطبيقها، ستكون على حسابنا شعباً ووطناً.
مرة أخرى نعود إلى تأكيد ما سبق وحذر منه سعادة في ثلاثينيات القرن الماضي بقوله إن "تقسيم البلاد إلى دول إسمية قضى على وحدة العمل القومي الوطني". لقد سقطت مفاعيل سايكس بيكو أمنياً وعسكرياً، وبات من واجب الحريصين على مستقبل هذه الأمة أن يتحركوا في اتجاه إسقاط الحدود الوهمية بمشاريع سياسية واقتصادية واجتماعية محددة وليس بالتشبث بتفكير كياني إنعزالي هو الذي سهّل للقوى الإقليمية تغييب إرادتنا القومية الفاعلة. لقد بات من الملح العودة إلى "وحدة العمل القومي الوطني" لأن وجودنا القومي أصبح في ميزان الموت أو الحياة!!
|