إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

انتهى هنري حاماتي الجسد البالي وبقي منه الفكر والموقف والشجاعة

يوسف المسمار

نسخة للطباعة 2019-02-05

إقرأ ايضاً


قال سعاده واضع عقيدة الحياة القومية الاجتماعية لحظة مواجهة اغتيال جسده : " لقد أتممت رسالتي وأختمها بدمي " فكان للمؤمنين بعقيدة الحياة قدوةً صالحة جعلت منهم لا يرون في الموت الا حقيقة اتمام مهمتهم في الحياة وانجازها لتستمر أجيال النهضة تردد أسماءهم باعتزاز ، وتذكر عطاءاتهم بفخر ، وتروي قصص مواقفم باحترام ، وتخطو على خطاهم بثبات .

فليس الموت الا حقيقة كحقيقة الحياة ، وليست حقيقة الأموات الا كحقيقة ألأحياء . وأبناء الحياة الذين يحبون الحقيقة يحوّلون الموت الى حياة باتمام مهمتهم في حياتهم وليسوا كابناء الموت الذين يجعلون بكسلهم وتخاذلهم في حياتهم من الحياة مستنقع موت .

وشتان بين من يجعل الحياة موتاً ويعيش كأنه ميت، وبين من يجعل الموت حياةً فيستمر حياً وهو ميت .

هذا هو مفهوم أبناء عقيدة الحياة لحقيقة الحياة والموت: يحيون أحياءً ويمارسون الحياة بعد موتهم أكثر من الأحياء وهذا ما كانه معلمهم سعاده في حياته ولا يزال فاعلاً ومتالقاً بعد موته وهو القائل :

" ليست نكبة ان يموت انسان ، فكل انسان يموت يوماً ، ولكن النكبة هي في الانسان الذي يعيش وكأنه ميت لا يتحسس حاجات محيطه ولا يشعر مع قومه بما يضرهم وما ينفعهم ، ولا يدرك أن عليه واجبات نحو أمته ووطنه ."

ان الميت الميت ليس الذي يقوم بما عليه في الحياة بل الذي يعيش ميتاً ولا يحس بواجب، ولا يكون له مثلٌ أعلى ، ولا يجاهد لتحقيق غاية سامية لأمته فيسمو بها .

أما الحيّ الحيّ فهو الذي لا يرى في الحياة لعباً ولهوا فيلعب ويلهو ويسترخي ويصيبه الخمول ويتلاشى ، بل الذي كلما كثرت المصائب عليه ازداد عزماً ، وكلما اشتد الويل على مجتمعه كبرت ثقته بنفسه وعظم ايمانه بقضية نهضة مجتمعه . وكلما كبرت جراحه هانت جراحه أمام جراح أمته فسار على درب الآلام غير آبه بكل ما يعترض طريقه من صعاب وعثرات وعراقيل فسعى جاهداً على تضميد جراح أمته وتعزيز نهضتها فنال بعزتها العز والكرامة .

بهذه المزايا وهذه الصفات عرفتُ الرفيق الأمين هنري حاماتي وعملنا معاً بعد محاولة الثورة الانقلابية الثانية في بيروت فكان من القلائل الذين حملوا راية القضية السورية القومية الاجتماعية ولم يتردد ولم يخف اويتراجع او يجبن أمام كل ما تعرض له من همجية السلطة اللبنانية التي لم تترك وسيلة من وسائل الاجرام الا واستعملتها، ولا اسلوباً من أساليب الارهاب البربري الوحشي الا ومارسته مع رفقائنا في السجن وتصفية أكثر من ثلاثين رفيقاً قتلوا بدم بارد دون محاكمة . قتلهم البرابرة الطائفيون بأوامر من القادة الموظفين من قبل الدوائر الاستعمارية وعلى رأسهم فؤاد شهاب من غير ان يرتفع ولو صوت ضعيف من سياسيّ وقضاة لبنان وشعب لبنان يستنكر ذلك الأمر الفظيع مما اضطرالأمين هنري حاماتي الى كتابة مقال في مجلة "الجمهور" اللبنانية قال فيه" الشعب اللبناني مأكول ومهضوم وعلى رأسه فؤاد شهاب" و دخل على أثره الى السجن فكتبت بعد دخوله السجن قصيدة تحت عنوان : " صيحة الجرح " مطلعها :

طـفـحَ الكيـلُ واسـتـبـدّ البـغـاء ُ

فاستـفيقي وشـاهـدي يا سماءُ

كبّـلَ الشـعبَ زمـرةٌ من طغـاةٍ

شوّهوا الخيرَ فاستطال البلاءُ

واستبدوا فأوهم الناس وهماً

يا لعـمـري فـلَـن يُـذلَّ الإبــاءُ

شرفُ الشعب أن يثورمع الحق

ويخـتــارُ للعُـلى مـن يـشـاءُ

وإذا الشـعـبُ ما تفجّـرَ يوماً

فُجِّرَ الفجرُ واستجابَ القضاءُ

ودواءُ النهوض في صيحة الجرح

فـصيحي وافـصحي يا دمـاءُ

ألقيتها في مهرجان الشعر1964 في قاعة الأونسكو الذي قام به اتحاد الطلبة الجامعيين في لبنان ، ومن أجل تلك القصيدة اعتبرتني اللجنة التحكيمية من خارج المتبارين بلسان رئيس الجامعة الدكتور فؤاد افرام البستاني .

ويكفي في مناسبة رحيل الرفيق الأمين هنري حاماتي الجسد وبقاء الرفيق الأمين هنري حاماتي الفكر والموقف والشجاعة أن أذكر موقفين للرفيق هنري وكنت يومها رئيساً لمكتب الطلبة :

الموقف الأول في محاضرة القاها بدعوة من كلية الآداب كانت تحت عنوان : " المسألة الفلسطينية وأبعادها الاجتماعية والسياسية وكيف تُحل " أمام حشد كبير من الطلاب مخترق بعدد من رجال المخابرات اللبنانية حين قام أحد الحضور في نهاية المحاضرة وطرح عليه السؤال: " لقد ورد في محاضرتكم كلمات :المجتمع ، و الأمة ، والقومية ،ومجتمعنا وأمتنا ، وقوميتنا مراراً فأي مجتمع ، وأية أمة وأية قومية تقصدون ؟ وكان المقصود أحراجه وكنت أمامه في الصف الأول فنظر الي وابتسم وترك برهة تمر الى أن عمّ السكوت والصمت في القاعة، وكان من المحتمل أن يقاد الى السجن على جوابه في تلك اللحظة ثم أجاب : " تريدون أن تعرفوا ما أقصد ؟ فاليكم ما أقصد : أقصد المجتمع السوري . أقصد الأمة السورية . أقصد القومية السورية ،ونحن سوريون قوميون اجتماعيون " فوقفت يومها وصفقت له فدوت القاعة بالتصفيق ووقف الطلبة الحضور يصفقون لأكثر من دقيقتين . فتهيَب رجال المخابرات مما حصل وفاتت الفرصة عليهم ولم يجرؤا على فعل شيء .

أما الموقف الثاني فقد كان في الجامعة الأميركية أثناء مناظرة تحت عنوان " هل الميثاق الوطني اللبناني هو لعلمنة الدولة أم لتكريس الطائفية ؟ "

وفي تلك الفترة العصيبة كنا نعمل وننشط في صفوف الطلبة بشكل سري ودعي الرفيق هنري حاماتي الى المناظرة كصحفي وليس بصفته عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي . كان يدير المناظرة الاستاذ العروبي منح الصلح وكان المتناظرون : الدكتور أنور الخطيب والاستاذ رشاد سلامة والاستاذ جوزيف مغيزل والاستاذ بهيج تقي الدين.

واذكر ان خلاصة مدير الندوة الاستاذ منح الصلح بعد استماعه الى كل من الاساتذة بهيج تقي الدين وجوزيف مغيزل والدكتور انور الخطيب ورئيس المكتب السياسي في حزب الكتائب اللبنانية الاستاذ رشاد سلامة كانت : " ان الميثاق الوطني اللبناني هو في الحقيقة الاتفاق المثالي الذي تم بين المسلمين والمسيحيين على التعايش معا في لبنان، وان لبنان اتفق بجناحيه الجناح المسلم والجناح المسيحي ممثلا الجناحين بشارة الخوري عن المسيحيين ورياض الصلح عن المسلمين، وهذا هو الميثاق الذي قام عليه النظام السياسي اللبناني وقد اتفق الاساتذة المتناظرون الاربعة في هذه الامسية : جوزيف مغيزل والدكتور أنور الخطيب ورشاد سلامة وبهيج تقي الدين على صلاح الميثاق الوطني اللبناني الذي عبر فيه الرئيس بشارة الخورة عن ارادة المسيحيين ،وعبّر دولة الرئيس رياض الصلح عن ارادة المسلمين ووقال الاستاذ منح الصلح أنه يضم صوته وموافقته على ما توصل اليه المتناظرون الأربعة على ان الميثاق الوطني هو النظام الافضل للمسيحيين والمسلمين ليعيش اللبنانيون بهناء وسعادة، وان الخروج عن هذا الميثاق الطائفي اللبناني الى نظام علماني سيجلب اضرارا كثيرة على اللبنانيين مؤكدا على وجهات نظر المتناظرين الذين اشادوا :

" بابطال الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح وعبقريتهما في ترسيخ الميثاق الوطني الطائفي اللبناني "

وأضاف الاستاذ منح الصلح قائلاً : " بقي علينا الآن ان نستمع الى رأي الصحفي الاستاذ هنري حاماتي في الميثاق وأرجو أن نكون جميعاً متفقين على صلاحية الميثاق الوطني الصالح للجميع . والكلمة الآن للاستاذ هنري حاماتي فليتفضل :

وهذا ما ورد في كتابي " مأساة الحضار ثقافة الأنانية " عن تلك المناظرة في مقال : " الميثاقية الطائفية اللبنانية تقيوء واجترار تقيوء " حيث قلت : " اذكر انني كنت في الصف الاول من الحضور وكنا في مكتب الطلبة قد دعونا الطلبة القوميين الاجتماعيين ودعوة الأصدقاء لحضورهذه الندوة من أجل حشد اكبرعدد ممكن من الطلبة.وقد توزّع الطلبة القوميون الاجتماعيون ومن معهم من اصدقاء في كل ارجاء القاعة مجموعات تتراوح ما بين شخصين او ثلاثة او اربعة أو أكثر . وللانصاف اقول اننا لم نكن مرتاحين طوال الوقت الذي تكلم فيه السادة الأوائل ولكننا كنا صاغين ونظاميين ومنتبهين لكي لا يفوتنا شيء من وجهات النظر والآراء والأفكار التي طُرحت من مديرالندوة والمتحاورين ألاخرين .

استهل الرفيق هنري حاماتي كلامه بتحية الحضور مضيفاً : " انه بالفعل حصل اتفاق وظهر الميثاق ، ولكن الاتفاق الذي حصل كان بين أفراد من المتعصبين الطائفيين المسيحيين وبعض المتعصبين من الطائفيين المحمديين . أما الأحرار المتنورون فقد بقيوا خارج الميثاق " .في هذه اللحظة وقفنا الرفيق جوزيف بابلو وانا الذي كان يجلس بجانبي وصفّقنا فدوت القاعة من جميع الجهات بالتصفيق.وبعد هدوء التصفيق أضاف الرفيق هنري حاماتي قائلاً:" انه ميثاق الطائفيين المتعصبين المسيحيين والمحمديين ضد الأحرار. وليس للأحرار أي رأي وأية مساهمة في هذا الميثاق . فلا بشارة الخوري استفتى المسلمين المسيحيين وأخذ رأيهم وموافقتهم، ولا رياض الصلح استفتى المسلمين المحمديين وحصل على بيعتهم. وما حصل هو ان بشارة الخوري ورياض الصلح نفّذا ارادة من اعتمدهما في الحكم من الخارج من أجل تأمين مصالحه في السيطرة على اللبنانيين . ولذك نحن ضد هذا الميثاق الطائفي الذي لا يخدم الشعب اللبناني لا في حاضره ولا في مستقبله "

وأذكر ان القاعة كانت تدوي بالتصفيق بعد كل مقطع من كلام الرفيق هنري حاماتي .

والآن رحل هنري حاماتي الجسد البالي الذي لن يعود ، وبقي الرفيق الأمين هنري حاماتي الفكر والموقف والشجاعة ،وهذا هو الأهم وليس أفضل من أن نقول : ولا تحسبن الراحلين العقائديين الواعين الصحيحين فكراً، والمتميّزين الممتازين مواقفاً ، والشجعان اقداماً وبطولة، أمواتاً بل أحياءٌ في ضمائر أجيال نهضة الأمة خالدون، وللناهضين بصحة الفكر وفرادة الموقف وبطولة الاقدام قدوةً ومثالاً وهذا ما أراده باعث نهضة الأمة السورية سعاده من أبناء عقيدته عندما قال : " نحن جماعة لم تُفضّل يوماً أن تترك عقيدتها وإيمانها وأخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له ." وختم رسالته بدمه وكان قدوة في افكر وقدوة في الموقف وقدوة في البطولة ، وبهذا كله يصح القول : البقاء للأمة .

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024