 تحيا هذه الأيام عاصمة الرشيد دمارً وخراباً وجحيماً ، فقد عاد إليها التتار من جديد لينهبوا خيراتها وثرواتها ويفتكوا بشبابها وعلمائها و يدمروا طاقاتها ، والهدف هو وئد الأمة العربية الإسلامية وتدمير حضارتها السامية وميراثها التاريخي ، ها هي القدس تبكي صلاح وها هي بغداد تبكر عمر ومتى النصر لهذه الأمة .. ؟؟!
قد ألبس المحتل الأمريكي " بغداد " ثياب الذل والهوان وأذاقها الويلات والموت الزؤام ... هذه بغداد قبلة العشق والعاشقين .. وأنشودة الشعراء والملحنين ... هاهي بغداد الجريحة المكلومة تستصرخكم بني العرب أن هبوا لنجدتي ، فقد اغتصبني العجم الغزاة وفضوا بكارتي على مرأى أعينكم ومسمع آذانكم أيها العرب ... يا انتم يا أمتي ويا ربعي ؟؟... أين المعتصم وأين الحسام المهندُ ؟؟...
* بغداد الرشيد ... طالما تغني الشعراء والحالمون في بهائك وجمالكِ ، فكنت جنة الله في الأرضٍ ، ولم يكن لكٍ نظيرٌ في الدنيا في جلال قدرك ، وفخامة أمركِ ، وكثرةِ علمائكِ واعلامكِ ، وعظمِ أقطارك ، ومنازلك ومساجدك وشوارعك تشهد للحق أغنية ، وطيبُ هوائكِ وعذوبة ِ ماؤكِ وبَردُ ظلالكِ ، واعتدال صيفكِ وشتائكِ ، وصحة ربعيكِ وخريفكِ ...
* لم تَعد اليوم " بغداد " جنةُ الله في الأرض ، ولم تَعد قبلة المحبين والعاشقين والمتيمين ، فقد دمر الاحتلال أركانها وأمصارها وشوه صورها وأبهت زينتها ، وقتل أفذاذها وخيرة شبابها واحرق شعلة الثقافة والفكر فيها .. وأحاطها العدو بالخراب والدمار والخطط الأمنية الواهية ، فهو يقتل يوميا الآلاف ويدمر المساجد والمدارس ، وتكتمل المؤامرات ، ليسرق التراث والتاريخ من حضارة الرشيد .. والعرب يتفرجون ولا يملكون سوى إبداء الرأي والمشورة ..
* يقول الأمام الشافعي : ما دخلتُ بلداً قط إلا عددته سفراً إلا بَغداد فإني حين دخلتها عددتها وطناً ، فيما قال يونس الصدفي : قال لي الشافعي : هل رأيت بغداد ؟ قلت : لا ، فقال : ما رأيت الدنيا ، بينما قال ابن مجاهد : رأيت أبو عمرو بن العلاء في النوم ، فقلت : ما فعل الله بك ؟ فقال لي : دعني من هذا ، من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نُقِلَ من جنة إلى جنة ..
* وذكر ابن جرير الطبري أن أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور كان يبحث عن موضع لبناء مدينته بغداد ـ قد بعث روَّداً يرتادون له موضعاً ينزله وسطاً ، رافقاً بالعامة والجند ، فنعتَ له موضع ، فخرج إليه بنفسه حتى ينظر إليه ، وبات فيه ، وكَرًّر نظره فيه ، فرآه موضعاً طيباً ، فقال لجماعة من أصحابه : ما رأيكم في هذا الموضوع ؟ قالوا : ما رأينا مثله ، هو طيب صالح موافق ، قال : صدقتم ، هو هكذا ، ولكنه لا يَحمل الجند والناس والجماعات ، وإنما أريد موضعا يرتفق الناس به ويوافقهم مع موافقته لي ، ولا تغلوا عليهم في الأسعار ، ولا تشتد فيه المؤونة ، فإني إن قمت في موضع لا يُجلب إليه من البر والبحر شيء غلت الأسعار ، وقلَّت المادة ، واشتدت المؤونة وشق ذلك على الناس ، وقد مررت في طريقي على موضع فيه مجتمعة هذه الخصال ، فأنا نازل فيه وبائت به ، فإن اجتمع لي فيه ما أريد من طيب الليل والموافقة مع احتماله للجند والناس أبنيته وهكذا كان هذا الموضع هو بغداد ..
* في سنة 146هـ تكامل بناء بغداد ـ بناها أبو جعفر المنصور ، وسماها مدينة السلام ـ وقد كان في موضعها قرى وديور لعبَّاد النصارى وغيرهم ، فحينئذٍ أمر المنصور باختطاطها ، ثم سلَّم كل ربع منها لأمير يَقوم على بنائه ، واحضر من كل البلاد فعالاً ، وصناعاً ومهندسين ، فاجتمع عنده ألوف منهم ، ثم كان هو أول من وضع لبنة فيها بيده وقال : بسم الله ، والحمد لله ، والأرض لله يورثها من يَورثها من يَشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين ، ثم قال : ابنوا على بركة الله ، وأمر ببنائها مدورة ، وجعل لها ثمانية أبواب في السوار البرَّاني ، ومثلها في الجوَّاني ، وليس كل واحد تجاه الآخر ، ولكن أزور عن الذي يليه ، ولهذا سميت بغداد الزوراء ؛ لازورار أبوابها بعضها عن بعض ، وقيل : سميت بذلك لانحراف دجلة عنها ، وبني قصر الإمارة في وسط البلد ليكون الناس منه على حد سواء ، واختطًّ المسجد الجامع إلى جانب القصر ..
إلى الملتقى ،،
|