كان في السابعة عشرة من عمره عندما غادر قريته، تلك الرابضة عند سفح حرمون، إلى البرازيل. كان سبقه الكثيرون من أبناء بلدته، ومنهم أصدقاء وأقارب وزملاء طفولة ودراسة.
وراح، مثل غيره، ينشط ويجول المجاهل والأدغال، حمل " الكشة " ومعها الألم والأمل والرغبة في تحقيق المستقبل. ونجح، فاستقرّ، واقترن من امرأة من بلدته، فوتينا حنا(1).
مثل العديدين ممن غادروا الى البرازيل في الربع الاول من القرن الماضي، قرأ للدكتور خليل سعاده، ثم لابنه الشاب أنطون، فأعجب بهما، وراح يتتبع "الجريدة" ويتحمّس، فيكتب إلى الدكتور خليل كي يعتبره مشتركاً فيها ومراسلاً لها في مدينة " ريو بريتو" (ولاية سان باولو) حيث كان أقام في البدء قبل أن ينتقل إلى مدينة "سان باولو".
كان بلغ التسعين من عمره عندما تحدث إلينا فقال:
" كنت أقيم في العام 1922 في مدينة "سان جوزي دو ريو بريتو" التي تبعد عن سان باولو مسافة 400 كيلومتر، والتي كان يقيم فيها أكثر من خمسمائة عائلة سورية.. كنت قبل ذلك بعام قد أسست مع بعض الشباب جمعية ذات أهداف وطنية دعيناها: "جمعية الشبيبة السورية" وكنا في مركز الجمعية نتسلم بعض الصحف العربية التي تصدر في سان باولو.. وكان من بينها جريدة "فتى لبنان" لصاحبها الشيخ رشيد عطيه.. وجريدة "الجريدة" للدكتور خليل سعاده وغيرهما.. وكانت هاتان الجريدتان على طرفي نقيض، إذ الأولى لبنانية متفرنسة، والثانية وطنية تدعو للوحدة السورية الشاملة وتُصلي فرنسة والانتداب نار حرب شعواء.
وكان لي صديق حميم في ذلك الوقت أجلّه وأعجب باخلاقة هو الأمير يوسف جهجاه أبو اللمع، كان غادر البرازيل عائداً إلى الوطن، فكتب لي بعد وصوله بمدة رسالة طويلة ما زلت احتفظ بها.. يصف لي فيها حالة الوطن ويشكو من تصرف الفرنسيين المنتدبين على سورية ولبنان وإخلالهم بوعودهم للشعب السوري وظلمهم له، وحكمهم إياه بالحديد والنار.. ويقول لي في رسالته عبارة لفتت نظري، هي التالية:
بخصوص السياسة أترك جريدة "فتى لبنان" واهتم بالدكتور سعاده.. ومن كان مثلك فطين لا يلزمه زيادة شرح أكثر.
لفتت نظري هذه العبارة لأن صديقي أبو اللمع كان يخالفني الرأي قبل عودته إلى الوطن بخصوص فرنسة والفرنسيين برغم محبته لي، وكنت دائماً على خلاف معه حول الوحدة السورية واستقلال لبنان. فعجبت لعبارته تلك وأدركت بأن انقلاباً كبيراً حدث في تفكيره بعد أن رأى ما رأى من تصرف الفرنسيين في لبنان ولمس اخلالهم بوعودهم وسررت كثيراً لذلك.. وبادرت فكتبت للدكتور سعاده في سان باولو أرجوه أن يعتبرني مشتركاً في "الجريدة" ومراسلاً لها في المنطقة التي أقيم فيها إذا وجد ذلك مناسباً.. بعد أيام قليلة بدأت أتسلم أعداد "الجريدة" ثم تسلمت رسالة جوابية لطيفة من الدكتور يشكرني فيها ويثبتني مراسلاً ووكيلاً "للجريدة" التي رحت أقرأها بشوق ولذة وأقوم بخدمتها كوكيل لها ولجريدة "القلم الحديدي" بإخلاص وإيمان وحماس.
وصرت أتتبع بعد ذلك أخبار "لجنة التمثال" في سان باولو بواسطة الصحف إلى أن عرفت بعد إجراء مسابقة بين الشعراء، أن اللجنة، قررت اعتبار أبيات الشاعر الياس فرحات الفائزة، كما قررت نقشها على قاعدة التمثال.
شعرت بأن سلكاً كهربائياً مسّني وهزّني هزاً عنيفاً عندما قرأت في صدر الجريدة، بعد أيام قليلة، مقالاً للشاب أنطون سعاده، نجل الدكتور سعاده، وقد نشر في عددين متتاليين، يتضمن نقداً لاذعاً للجنة التمثال(2) لاعتمادها تلك الأبيات دون غيرها.. على ما تحمل من إهانة " لشعور العالمين المسيحي والإسلامي" وطعن للشعور الوطني وتحقير للشعب السوري ".
" حملت عددي "الجريدة" المذكورين وذهبت إلى مقر جمعية الشبيبة السورية " الآنفة الذكر التي كنت أنتمي إليها.. فقرأت بصوت عال على عدد لا بأس به من الحضور مقال ابن الدكتور سعاده، فكان له في نفوسهم تأثير كبير إذ شعروا بما شعرت به.. وقررنا بعد التداول إرسال برقيات مستعجلة إلى "لجنة التمثال" ورسائل إلى "الجريدة" وصحف أخرى، نحتج فيها على اختيارها أبيات فرحات ونطلب إبدالها بغيرها ".
***
وانتمى إلى الحزب(3)، كالمئات من مواطنيه في البرازيل الذين كانوا قرأوا لسعاده، الأب والابن، وتعرفوا إلى مواقف الزعيم فيما بعد اثر انكشاف امر الحزب فاعجبوا بها، كما بالعقيدة التي حمل إلى أمته.
ومضت السنون وهو مؤمن أكثر، مشعٌ أكثر في محيطه، ومستمرّ في أداء واجبه الحزبي. وطعن في السن، ورغم الشيخوخة استمرّ كما لو أنه ما زال فتياً، يحضر المناسبات الحزبية، يكتب في صحف مهجرية، يدافع عن
الحزب في أي مكان. وكان، هو الذي غادر إبن 17، لا يتلعثم بالعربية، ولا يلجأ إلى البورتغالية، كأنه وصل لتوّه من وطنه، أو لكأنه لم يغترب.
وبقي حلمه واحداً: أن يعود ذات يوم إلى بلدته كي يتفيء "سنديانة خميس" مرة أخرى، كي يرى جليل فلسطين مرة أخرى، كي تطلع نظراته نحو "حرمون" مرة أخرى.
ولم يتحقق حلمه، فقد رحل وفي قلبه، ككل مواطن ارتحل عن وطنه، دمعة في القلب، وجراح من حنين.
إذا وصلتَ سان باولو وسألت عنه الجالية، أجابتك: نادراً كان، في مناقبه، في سموّ تعاطيه، في صدقه، في إيمانه القومي، في دماثة أخلاقه، وفي كل تعاطيه.
*
عام 1984 افتتحت منفذية الساحل البرازيلي مكتباً لها، في سان باولو. في حفل الافتتاح القى الرفيق خطار نعمة، اكبر الاعضاء سناً، كلمة قومية اجتماعية، كما تكلمت الصبية ساندرا ابنة الرفيقين نقولا ورمزة صليبا، على انها اصغر المقبلات والمقبلين الى صفوف النهضة.
حضر الحفلة جمع غفير من القوميين الاجتماعيين ومن ابناء الجالية، منهم رئيس اتحاد المؤسسات العربية (فياراب) في البرازيل المحامي الاستاذ رزق الله توما(4).
*
نشط الرفيق خطار نعمة في عصبة الادب العربي التي كان اسسها الامين نواف حردان في البرازيل مع عدد كبير من ادباء وشعراء المهجر البرازيلي.
كانت له كتابات عديدة في مجلة "الرابطة" التي كان اصدرها الامين نواف حردان، ثم في جريدة "الانباء" التي اصدرها بعد توقف "الرابطة". كان على رغم تقدمه بالعمر يتابع اخبار الوطن، ويقرأ كثيراً، ويذيع عن الحزب في اي مكان تواجد فيه.
بطاقة هوية
-ولد في راشيا الفخار عام 1911.
-تلقى علومه في مدرسة الأميركان في المية ومية ( صيدا ).
-سافر إلى البرازيل بعد تخرجّه وله من العمر 17 عاماً.
-انتمى إلى الحزب عام 1941 بعد أن كان استقرّ في مدينة سان باولو.
-تولى مسؤوليتي ناموس مديرية، ومدير مديرية في سان باولو.
-عضو في " عصبة الأدب العربي ".
-اقترن من السيدة فوتينا حنا.
-وافته المنية عام 1989.
**
من رفقاء راشيا الفخار على ما اذكر:
الامين نواف حردان، الرفقاء فؤاد حنا (ابن خال حضرة رئيس الحزب)، وديع جرادي، خيرالله رزق، عبدالله متري، الياس حردان، فهد حردان، اسعد منصور (شقيق العميد الامين سبع منصور)، ابراهيم العدس، انيس صليبا، ابراهيم متري، وفايز متري.
هوامش:
(1)خالة حضرة رئيس الحزب الامين اسعد حردان
(2)كانت الجالية السورية قررت في عام 1917 بمناسبة مرور مئة عام على استقلال البرازيل في 7 ايلول 1922 ان تعرب عن شعورها وامتنانها لهذه البلاد بهدية قيّمة تقدمها لها. في عام 1921 قررت اللجنة التي كانت تشكلت ان تكون الهدية التي ستقدم الى البرازيل تمثالاً لائقاً يصنعه فنان عالمي كبير.
قصة هذا التمثال، والتحرك الذي قام به سعاده، وكان شاباً في الثامنة عشرة من عمره، شرحها الامين نواف حردان في الصفحات 113 -122 من كتابه "سعاده في المهجر، الجزء الاول"، سنأتي على ذكرها في وقت لاحق.
(3)انتمى عام 1941 على يد الرفيق الياس فاخوري من راشيا الفخار الذي كان عرف سعاده في الارجنتين ثم انتقل الى البرازيل. كان يملك ذاكرة مذهلة ويحفظ غيباً ما يزيد ال 6000 بيتاً من الشعر.
|