إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

سعيد تقي الدين بأقلام آخرين

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2017-05-02

إقرأ ايضاً


جميعنا، والا معظمنا، قرأنا سعيد تقي الدين، ذلك العملاق الذي، ان قرأته مرة، أدمنتَ ورحت تقرأه كل مرة:

المنبوذ. غابة الكافور. نخب العدو. غبار البحيرة. سيداتي سادتي. رياح في شراعي. انا والتنين.

وتكثر الاسماء ولا تنتهي، بعضها بقلم الرفيق الأديب سعيد وبعضها، الاكثر،كتبها الرفيق جان داية "الاختصاصي" بكتابات وانتاج وسيرة عملاق الأدب.

الى الذين قرأوا سعيد تقي الدين نقترح أن يقرأوه مرة جديدة وأكثر، ومن لم يتسنّ لهم ذلك أن يسرعوا الى قراءته.

*

في العام 2001 اصدر الرفيق جان داية عن "فجر النهضة"، مؤلفه بعنوان "كتبوا عن سعيد تقي الدين" وفيه، كما يتوضح من العنوان، مجموعة من المقالات الشيّقة، لادباء من لبنان.

لمزيد من الاضاءة على عملاق الادب ننشر معظم ما كتبه الامين انعام رعد والرفيق انيس ابو رافع.

*

الامين انعام رعد:

" في أواخر السنة المدرسية عام 1948، على ما أذكر، وبينما كانت المدارس، والأندية تتزاحم على سعيد تقي الدين، الأديب الكبير العائد من المهجر يرفل بالصيت الأدبي الضخم وبحلة من الوجاهة الاجتماعية قشيبه، وكنت في بيت أقرب الى الكوخ في رأس بيروت، هو بيت عميد الداخلية في الحزب القومي الاجتماعي يومها، الأمين الياس جرجي، وكنت على عادتي بوصفي مسؤولاً في عمدة الاذاعة، أمرّ على عميد الداخلية نتداول في العمل الحزبي وفي شتى المواضيع. ويومها أذكر أن الأمين الياس كان متهلل الوجه، منبسط الأسارير، واذا به يُطلعني على سر حبوره فأمامه مجلة أو جريدة، لا أذكر، وفيها خطاب سعيد تقي الدين في "المقاصد". وقرأ الأمين الياس على مسمعي مقاطع من خطاب سعيد تقي الدين، فاذا نحن أمام فكر قومي اجتماعي: حملة على الطائفية عنيفة، وتحديد للوطن الطبيعي من الشمال الى السويس. وتطلّعنا نتبادل نظرات الاعجاب: هوذا أديب يطل على كل مسرح ولكن حقيقته في الصميم تنبض بالقومية الاجتماعية الصافية ولعلّه هو لا يعرف نفسه انه قومي اجتماعي بالعفوية. وكرّت الايام، تلّفنا زوبعة الأحداث، وسمعنا أن سعيد تقي الدين قد أصبح رئيساً لجمعية الخريجين، وأنه آت الى رئاسة المؤسسة بمشاريع جديدة ".

في رئاسة الخريجين

" كانت مؤسسة جمعية الخريجين عبارة عن اسم لغير مسمى، بسيطة متواضعة، لا وجود مكاني لها، لا نادي ولا من يحزنون. كل ما في الأمر نشرات صغيرة تصدر بين الفينة والفينة تحمل أخبار الخريجين ودعوات توزع على حفلاتهم التقليدية. هذا كل ما كانت عليه مؤسسة جمعية خريجي الجامعة الأميركية، حتى أفقنا ذات يوم فإذا نحن أمام مبنى جبار وأمام مجلة كبرى تصدر عن الجمعية، وامام نشاط يكاد يطبق الأفاق. وتساءلنا ماذا في الأمر، أي عصا سحرية حرّكت الصخر فأصبح مدراراً وأي سرّ كامن وراء هذه الحركة التي كلها بركة، بل أي إله ــــ انسان نفخ في الطين فصار كياناً حياً؟ وقيل لنا أنه سعيد تقي الدين، خطيب المقاصد الذي تحدث عن الغاء الطائفية، وصاحب "الثلج الأسود" و"حفنة ريح". الرجل الذي لم يعد الى الوطن، بثروة تتحول الى مشاريع اثراء، بل عاد ليوزع ثروته على المعوزين وفي مشاريع العمران الاجتماعية. انه سعيد تقي الدين الذي حرّك جمعية المتخرجين فبعثها من الصفر الى المئة. وحمل عليه، يومها، الاراخنة من أصحاب "الرادنكوت" الجامعي، الذين اعتادوا الروتينية والبلادة في العمل، وقالوا أنه سيخرب جمعية الخريجين، فيما كان يبني المؤسسة مدماكاً ولبنة لبنة وحجراً حجراً. ويوم تمت الأعجوبة والتأم الشمل الجامعي في ظل الرئيس-الدينامو، خرست الألسنة الناهشة، ولكنها وجدت في انتمائه للحزب بعد ذلك سلاحاً جديداً تحارب به سعيد تقي الدين، لأقصائه عن رئاسة الجمعية. ولكن سعيد كان أكبر من ذلك فبعد التجديد له واكمال مدته الجديدة لم يترشح للمرة الثالثة وغادر ساحة المعركة بعد أن ضفر اكاليل الغار على جبين الجمعية وعمّر ناديها، أما الموتورون فقد شعروا أن سعيداً كالشمس لا تحجبها الغيوم.

" وأذكر أن في أحد ايام رئاسته الأخيرة للجمعية وبعد انتمائه للحزب، لم أطق مهاترات أحدهم مع رئيس الجمعية، فوقفتُ متحدياً ذلك المهاتر بأن يشرّف للخارج لنصفي الحسابات، فكان أن جلس المهاتر بعد أن سمع مني "تلك اللغة" وانتهرني سعيد وهو رئيس الجمعية بأن أجلس وأكفّ عن الكلام: انتهرني بصوت عال فيه امتزج الغضب الرسمي بالاعجاب الضمني، ولم أزل أذكر زمة شفتيه أسفاً لتصرفي وضحكة عينيه تقديراً مكتوماً لما حدث. وشعرت يومها أنني أمام شخصين في انسان واحد: شوفيّ عتيق يحب الشجاعة والجرأة والمجابهة، ورئيس جمعية يحافظ على الأصول في النقاش وأعرف أنني أحببت الشخصين في سعيد يومها وأكبرتهما معاً! "

في أزمة 1949

" كنا في السجن: فؤاد ابو عجرم، وأديب قدورة، ومحمد البعلبكي وغسان تويني وأنا، وأذكر أننا علمنا ونحن خلف القضبان أن رئيس جمعية الخريجين سعيد تقي الدين ذاهب لمقابلة رئيس الجمهورية وطلب العفو عنا. كان لتلك الخطوة أثر كبير في نفوسنا، ذلك أنه تمالكنا شعور بأن سعيد يعني بالفعل تحويل جمعية الخريجين الى رابطة حقيقية، لا وهمية وأنه من جهة ثانية، يعتبر نفسه مسؤولاً عن حرية أعضائها مهما كان اتجاههم العقائدي والسياسي. هذه الرحابة في الصدر، هذا الشعور بكرامة المواطنة وكرامة العضوية في المؤسسة، كان غريباً عن أجواء البلاد الرسمية وحتى الشعبية في أغلبها وكان له أعمق تقدير في نفوسنا. وشعرنا يومها، أن سعيد، في جمعية الخريجين، يفتش عن قضية كبرى يخدمها، وانه كالنسر الذي يتحرك على ربوة وقد خلق للقمة العالية!

ومرة أخرى استعدنا خطاب المقاصد، وشعرنا أن هذا "القومي الاجتماعي" الذي لا يعرف نفسه، يجب أن يتعرف الى حقيقة نفسه ويصبح قومياً اجتماعياً بالفعل!

انتماؤه للحزب

" ويوم انتمى سعيد تقي الدين للحزب، كانت فرحتنا الكبرى، لأن انتماءه كانت له مغاز كثيرة ومعان عميقة. ذلك أن كل الظروف كانت معاكسة لأنتمائه ولكن نفسه وإيمانه كانتا أكبر من الظروف. فالحزب كان منحلاً، والجو الاجتماعي السياسي المحيط بسعيد كان معادياً للحزب أو على الأقل غير صديق، وكم من صديق له جافاه واستنكر انتماءه، وأخيراً فان سعيد تقي الدين كانت قد تكوّنت شخصيته الأدبية والاجتماعية وحتى المعتقدية، تكوناً شبه كامل، فلم يكن في سن فتوة حتى يأتي الأمر بسهولة. وكان السؤال الذي ارتسم على شفاه الكثيرين منا: هل حقاً سيتمكن "الشيخ" سعيد من أن يمارس النظام القومي الاجتماعي ولو هو آمن بالعقيدة؟ واستمر السؤال يلح علينا حتى اتتنا الخبرة تنقل الينا المشاهد التي اثارت الذهول لأول وهلة، ولكنها كانت من صميم معنى حركتنا وعقيدتها.

فعلى ضريح الزعيم في السنة التي تلت انتماء سعيد للحزب، أو بعدها بسنة على ما أذكر، وقف مسؤولو الحزب يستعرضون صفوف القوميين الاجتماعيين، وتطلعت فوقع نظري على صف طويل يسير باتجاه المسؤولين بخطى نظامية رتيبة وفي مؤخرة الصف كان الشيخ سعيد... ولم ألحظ الا ومضة اعجاب برقت في أعين المسؤولين، فهذا مظهر اطمأنت نفوس كثيرة الى انه جاء من جملة الأدلة الساطعة على انصهار نفس سعيد كلياً في الحزب وقضيته.

" وبدأ نضال سعيد في الحزب، واشتد وعنف، وفي يوم من 1954 على ما أذكر أصبح سعيد منفذاً عاماً لبيروت.

المنفذ الذي لن تنساه بيروت.

" وكان مع سعيد في هيئة المنفذية الأمين جبران جريج، مرشداً ادارياً بما له من خبرة طويلة في العمل الحزبي. ولكن الرفيق سعيد أطلق، دون ريب في المنفذية، روحاً ديناميكية لن تنساها منفذية بيروت ولن تزول من سجلاتها. وانطلقت عجلة الحزب في بيروت يومها في دورة حية متكاملة قوية، حتى يمكن أن يقال أن هذا الفرع عرف عهداً ذهبياً من الازدهار الحزبي في ذلك الوقت. وكان سعيد مسروراً بعبء المسؤولية، منصرفاً اليها بصدق ونشاط. ولم يلبث الزمن أن دار دورته وانفجرت أحداث الشام، وانتقلت القيادة الحزبية الى بيروت، واذا بسعيد على رأس عمدة الإذاعة، واذا بي معاوناً له في العمدة. "

يوم عملت بأمرته في عمدة الإذاعة

" كنت معجباً بأدب "الشيخ سعيد" وكنت معجباً كذلك بأدب "الرفيق سعيد" الذي كتبه فور انتمائه للحركة، من البيان ـــ الاعلان الذي توّج به حياته الحزبية الى "رفات الجناح" ولكن أدب "العميد سعيد" كان شيئاً مدهشاً ومثيراً. فذلك القصف الذري الذي لا يهدأ يفجّره العميد سعيد في وجه خصوم الحركة القومية الاجتماعية، وتلك الأساليب في الاخراج المسرحي للأحداث، حتى يكاد مُطالع "صدى لبنان" بين ايار 1955- آب 1955 يجد نفسه أمام دراما من الأحداث تتماسك في عقدة روائية ضخمة. وفي عرفي أن أكبر مسرحية كتبها سعيد انما هي فصول تلك الحملة الجبارة في أحداث الشام صيف 1955. فمن الكتب المفتوحة الى شوكت شقير، الى قصة جميل العريان الى مشاهد السياط وقصص تعذيب القوميين الاجتماعيين يروونها بإشرافه في مؤتمرات صحفية، فصول وحلقات من دراما حيّة أخرجها سعيد تقي الدين، وكان الانسان بثورته على القيود والطغيان وصراعه من أجل الحرية، وآلامه وجراحه النازفة هو بطله الجديد.

" وعملت بأمرة العميد سعيد ثلاثة أشهر، من أجمل أيام حياتي الحزبية. واختبرته عن كثب: خلاقاً عملاقاً مولداً، دينامو لا يهدأ، عاصفة لا تدرك شاطئ ونسراً دائم التحليق. ففي بيته الذي كان يسكنه في شارع عبدالعزيز، كنا نتلاقى حول مكتبه الذي لم يعرف الترتيب (وقد ورثتُ عنه المزيه من بعد)، وأمام مغلاة القهوة التي لا تفرغ، وفي حضرة العميد الذي لا تنطفئ سيكارته، بل اذا انتهت قفزت من اصبعه الى احدى الزوايا لتحلّ محلها سيكارة أخرى، كنت أجلس لأستمع الى تعليماته وأوامره: " اكتب بياناً للأرمن، أكتب بياناً عن الأمينة الأولى لتوقعه كل نساء لبنان، افعل كذا ... ما رأيك "يا استاز" في أن نفعل كذا...اسمع هذه مقالة جديدة كتبتها.. كيف لقيتها.. هيك ايه.." ولم أكن أعرف أن للعميد سعيد هذه الطاقة على العمل .. ولم أكن أعرف أن سعيد كان أكثر من عميد للإذاعة، كان درع الحزب في ذلك الحين.. حتى مكثت معه قليلاً.. فاذا هو يخرج من بيته في آخر الليل ويعود في الصبح.. كان عند عميد الدفاع.. ولا ينام.. يشرب القهوة ويستقبل رفقاء من الشام.. ويعود الى الكتابة والخلق والابداع.. لم أزل أذكر وهو أمير الظرف والفكاهة ــــــ كيف ضحك وقهقه يوم سخر بقلمه العبقري من اتهامات المكتب الثاني الشامي: واذا به ينادي طالباً الاتيان بصورة "بيريا"..وعجبت وشاركني عجبي كل من في الغرفة، وأتينا بصورة "بيريا" فاذا به يكتب ذلك التعليق الساخر: بأن القوميين الاجتماعيين – وسط زحمة اتهامات الشام ضدهم – هم الذين قتلوا "بيريا"!

وهدّت حملته اعصاب "الجماعة" في الشام وترصدوه فما جبن بل ازداد اضطراماً. وكان الانهاك والارهاق قد بلغا حداً منه ولكنه لم يكن يعرف الراحة وشعرت يومها بتقدير عميق له، بل اذهلتني فتوته المتحدية الكهولة، حتى جاءت في يوم،كنت انتظره في المكتب، ديانا كريمته وحدثتني ذلك الحديث الذي أبكاني: حدثتني عن أن والدها صحيّـاً في حالة ارهاق، وان استمراره على هذا النحو معناه الانتحار.. والتمع في خاطري منذ تلك الساعة الخاطر الرهيب: هل تهدّ المتاعب سعيداً.. لا سمح الله! ودخل العميد سعيد، فوقفتُ وحييت. وقلت له ـــــ وكانت ديانا قد عادت الى غرفتها ـــــــ "حضرة العميد أود أن أبحث معك أمراً خاصاً" وانتهرني بلطف: لا مجال لبحث الأمور الخاصة، لدينا شغل أمين انعام". قلت بوضوح: "صحتك..انها في انهاك.. يجب أن تأخذ فرصة، ان تستريح" ! وحدجني بنظرة عميقة وكأنه يقول لي "وانت ايضاً يا بروتوس؟"، وقال:"نستريح والمعركة في أوجها" ؟ وسكتُ فقد غلب المنطق الحزبي كل حجة، وعلّمني الرفيق "الجديد" سعيد تقي الدين درساً كان عليّ أن اتعلمه وأنا الأقدم منه في الحزب من زمان: " أنستريح والمعركة في اوجّها !!"

الوداع الاخير في المكسيك

" ولم أكن أظن اننا سنلتقي بعد ذلك بأشهر.. أثناء جولتي الحزبية الى المغتربات. ولكن عدنا فالتقينا على مطار مكسيكو، كان في مقدمة من امتدت يدي تصافحهم وعانقته بشوق وسرنا معاً الى المدينة العظيمة.. وكنت لا أصدق عيني:أهذا هو سعيد؟ بدا شاحباً وبدت ظلال الموت في عينيه. وكانت قدمه ــــــ كما لاحظت فيما بعد ـــــــ تعثر. ولم انتظر طويلاً، ناديت المنفذ العام – قديسنا في المكسيك ذلك الرجل المتفاني المحب عساف ابو مراد(1) ــــــ وتحدثت إليه في أمر صحة سعيد وذهبنا الى الطبيب الاخصائي بعد أن وجدنا صعوبة في اقناع سعيد أن يذهب معنا اليه، وهناك وبعد فحص دقيق انذره الطبيب، وطلب منه: وقف التدخين. ومرة أخرى قيّـض لي أن أشهد محكاً جديداً لارادة سعيد.. لقد توقف عن التدخين، ولم تعد سيكاراته تتعانق في وهج مستمر، ولا عادت تستقر في زوايا الغرفة.. ولكن هل جاء ذلك متأخراً؟

" وفي حفلة أول آذار جلس سعيد الى جانبي في صدر المائدة، وكنت ضيف المنفذية، ووقفتُ اخطب عن معنى مولد الزعيم وكانت جموع من الجالية والقوميين الاجتماعيين تحضر الاحتفال فاذا بي أتحدث عن سعاده وعن جنوده وتلامذته الذين أخذوا منه العبرة في التضحية والفداء، وتحدثت عن سعيد، وكنت أشعر أنني ربما أخطب لآخر مرة وهو معنا.. ولمعت في خاطري مقدمة "سيداتي سادتي" وذكريات من الوطن.. وشعرت أن عينيّ سعيد اغرورقـتـا وأنا أتكلم عن جهاده في الوطن، كان مرهف الاحساس كالوتر المشدود أبداً الى نغم الهي!

" وفي مكوثي هناك عشرين يوماً قضيت قسماً كبيراً منها معه، وجدت أي حب عميق يشد رفقاءنا في المكسيك الى سعيد، لقد احاطوه كالسوار بالمعصم، وأذكر منهم أربعة احتضنوه بأجفانهم: عساف ابو مراد، توفيق الاشقر(2)، جليل رحباني(3)، وفؤاد سمعان. أية هزة حلّت بهؤلاء المداميك الحزبية حين انهار سعيد تقي الدين في حفرة من جزيرة نائية؟ قيل لي بأن توفيق الأشقر، كاد يلحق بسعيد من شدة الحزن عليه، وأنا أصدق ذلك لأنه كان أقرب إليهم من أنفسهم.

" وعلى المطار، وانا أهمّ بمغادرة المكسيك اقتربت اليه، أقبلّـه فردّني بعصبية: وهتف بصوت مختنق، شعرت أن دموعه فيه: "سلّم على البلاد... سلّم على والدك!" وامتلأت عيناي بالدمع.. ولم التفت اليه، وهدرت الطائرة.. وأنا أفكر.. هل يعود سعيد إلينا.. ولكنه لم يعد فقد أقلع شراعه الى غير رجعة! "

*

الرفيق انيس ابو رافع

" منذ تسع وثلاثين سنة رحل سعيد تقي الدين رحلته الأخيرة، قالوا مات. كلا، سعيد لم يمت، لقد انتقل من العين الى الذاكرة.

" انتقل من أبصار الألوف وأسماعهم الى قلوب الملايين وعقولهم.

تسعة وثلاثون عاماً، كأنها الأمس، كأنها اليوم، أراه وأسمعه وأحادثه. تهزّني مواقفه الحاسمة، وتنشيني الطفولية وتطربني ضحكته المجلجلة.

" قرأته قبل أن التقي به، قرأته كتاباً. وبعد أن عرفته شخصياً، قرأته كتاباً وانساناً فلم أجد فرقاً بين الاثنين.

" وقرأته قبل أن يلتزم عقيدة وينتظم في حزب... وعرفته ورافقته بعد أن التزم وانتظم، فلم أجد فرقاً كبيراً بين الحالين.

لم يكن لسعيد عقيدة واضحة متكاملة في مطلع شبابه، وحتى عودته من الاغتراب. ولكن كان عنده مفاهيم واضحة، ومواقف واضحة وآراء واضحة في كثير من شؤوننا الاجتماعية والوطنية والسياسية. وربما نستطيع أن نضيف هذه الفترة من حياته الى تلك المجموعة التي شكّلت فجر الوعي وصباح المتحرر ومطلع النهضة: بطرس البستاني، الكواكبي، جبران، الريحاني، مي، الشدياق...

" كان تكملة لهذه المجموعة الطيبة من رجال الفكر والأدب والتربية والاجتماع.

" في مسرحيته الأولى، "لولا المحامي" ادانة صريحة للاقطاع والفساد. وفي "نخب العدو" ادانة للاقطاع والطائفية والعائلية والتخلف والجهل والفساد. ألم يكن زواجه نفسه ادانة صارخة للطائفية ؟!

" وفي مقالاته المبكرة وطنية صافية، التزام بالمسألة الفلسطينية، ونضال في سبيلها، توّجه عام 1948 باقناع مندوب "الفلبين" في الأمم المتحدة، من خلال حكومته، بإلقاء خطاب ضد التقسيم. وذلك عندما كان قنصلاً فخرياً للبنان في "الفلبين".

" لا أقصد الاستطراد للتحدث عن سعيد في الحزب، بل أردت أن أشير الى الموقف. سعيد تقي الدين كان صاحب موقف. كان رجل قرار. إذا اقتنع بأمر نفذّه دون اقامة أي اعتبار للنتائج. عندما اقتنع بالمبادئ القومية الاجتماعية لم يتردد في اعتناقها، وعندما آمن بها لم يتردد في دخول الحزب، وعندما وجد أن بقاءه عضواً سرياً لا ينسجم مع أخلاقه ومبادئه لم يتردد في اعلان انتمائه على الملأ.

" كان يعرف سلفاً نتائج قراره، كان يدرك أن ماضيه الاجتماعي والسياسي وحتى العائلي قد ينهار كله أو أكثره. علاقاته التي بناها كل حياته، صداقاته، مركزه الأدبي، حتى أعماله التجارية والمالية...كان يعرف انها كلها مهددة، ومع ذلك أقدم.

"وصلت الى نقطة اللارجوع".. كانت كلمته الأولى... "ولنصرك يا سورية هذا القليل"... كانت كلمته الأخيرة.

بعد اعلان انتمائه الى الحزب، تخلى عنه من كان يمدحه كل يوم، ويمجّده كل يوم. اقفلت في وجهه الأبواب التي كان أصحابها يتمنّون لو يدخلها، شنّت عليه الحملات القاسية، الظالمة، حتى بعض انجازاته الكبرى (لجنة كل مواطن خفير، نادي المتخرجين...) حاولوا أن يسلبوه اياها.

لماذا فعلوا كل ذلك؟

" لأنه تجاوزهم جميعاً، كان الوحيد المنسجم مع نفسه، الصادق أمام نفسه وأمام الآخرين.

" حاربوه وانتقدوه وهزئوا به، لأنه كشف زيفهم، عرّاهم. كشفهم عندما كشف عن جبينه الناصع الشامخ، وكشف عن جبينهم الذي فقد ياءه.. فتجسد جبناً وحقداً واستسلاماً.

" حاولوا تحجيمه وتغييبه، كما حاولوا وعملوا على تحجيم الزعيم المعلم... والحركة القومية الاجتماعية بكاملها.

" نحن هنا، منذ سبعة وستين عاماً، نعمل على إقامة نظام جديد لهذه الأمة ليس فيه اقطاع من أي نوع، ليس فيه طائفية ولا طبقية ولا عشائرية، ولا تسويات آنية وترقيعات على حساب مصلحة الأمة والوطن، نظام ليس فيه فساد ولا تخريب..

" ونحن منذ سبع وستين سنة نرفض ان يقرر الاجنبي مصيرنا، او ان يتدخل في شؤوننا، نحارب حتى الموت عدونا الأكبر والدائم اليهودية والصهيونية، نقف ضد كل مشروع لا يراعي مصلحة أمتنا وسلامة أراضي وطننا من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال، ومن أول الشرق الى آخر الغرب.

" ونحن نعرف أن بلادنا كلها محكومة بالفساد والاستسلام والاقطاع والطائفية والطبقية.. وو.. الى آخر ما ذكرناه، فكيف نستغرب اذا حاولوا تحجيمنا، بل ابادتنا؟!

" وسعيد تقي الدين واحد من المع وأنبل رموزنا وأبرزها بعد المعلم الزعيم، فمن الطبيعي أن يكون هدفاً لهذه الحرب الشرسة عليه. ولكن.. ولكن، كل فؤوس الأرض لا تمنع شجرة أن تنبت!! "

*

" أود هنا أن أقف لأروي قصة قصيرة: "عام 1967 داود عبد الرزاق، فلسطيني، مدرّس عندنا في ثانوية الأرز النموذجية(4)، ناصري حتى العظام، يكره الحزب القومي ويتهمه بالعمالة والشعوبية.. الى آخر المعزوفة. ذهب الى قريته في فلسطين في عطلة الفصح، ومرض فبقي الى ما بعد الهزيمة (حزيران، يونيه 1967). رجع الى المدرسة أوائل تموز، دخل عليّ في المكتب، ودون سلام ودون مقدمات قال: كانت قريتي مقسومة قسمين يمرّ في وسطها شريط شائك يفصل فلسطين المحررة عن فلسطين "اسرائيل". دخل الجيش الاسرائيلي القرية، لم يؤذ احداُ، لم يعتد على احد.. ولكن هناك ستة أو سبعة منازل لقوميين، دمرها. ومن وجده من اصحابها صغيراً أو كبيراً قضى عليه... ثم احرق المنازل وسوّاها بالارض. استاذ، انا هنا الآن لأعتذر عن عدائي لكم طيلة هذه السنين. نحن ضحية غسل دماغ رهيبة.. سأكون من اليوم داعية لكم، لأكفر عن اخطاء الماضي".

" اتمنى أن يكون الصديق الاستاذ نجيب البعيني بيننا، علّه يقتنع بأمرين: الاول أن سعيد هو مؤسس ومحرّك "لجنة كل مواطن خفير" وان سعيد تقي الدين يستحق أن يُسمى شارع باسمه، هو الذي ملأ اسمه شوارع الدنيا.

" وسعيد تقي الدين رجل الفعل، بالاضافة الى الرجل القرار ورجل الاستشراف.

لقد مارس في حياته العملية كل ما دعا اليه في كتاباته الأدبية والساسية والاجتماعية وسواها.

لا يكتب بعقله فقط ولا بعواطفه فقط ولا بعلمه ومعلوماته فقط.. سعيد يكتب بكلّيته: بمجموعة... حتى يخيل اليك احيانا انه لا يمسك القلم بين اصابعه بل يمسكه بين اضلاعه.

" انك تراه، ترى شخصية سعيد وسلوكه وأخلاقه وأفكاره وممارساته في كل ما يكتب. هو هو، في قصصه، في مسرحياته، في رفات جناحه، وخفق اجنحته (اجنحتنا) في مذكراته وذكرياته ورسائله. في جده وهزله، في خطبه وخطاباته ومحاضراته.

" إقرأ مسرحية، اسمع خطاباً ، ثم اقرأ قصة، ثم اسمعه يتكلم، حادثه، حاوره، ناقشه، راقبه كيف يتصرف تراه هو...هو، منسجماً مع نفسه حتى الصفاء المطلق، لا يتردد في الاعتراف بخطأ، لا يخشى في الحق احداً او شيئاً، قلبه على لسانه، وعقله على قلمه.

*

" قصتان من حياته اسمح لنفسي أن اكررهما في كل محضر ومجلس، احداهما تعبر عن اخلاقه والتزامه:

بعد دخوله الحزب، حورب في لقمة عيشه، فمنعت عنه الالتزامات من الدولة وتوقف شغله كلياً. جاءه ذات يوم شريكه ميشال سماحة مبشراً:

- سعيد. فرجت!

- خير

- وجدنا مصدراً للرزق يغنينا في وقت قصير

- ما هو؟

- بضاعة نشتريها من قبرص بسعر بخس جداً، ونبيعها هنا بسعر جيد.

- ولماذا سعرها بخس؟

- بيني وبينك، البضاعة اسرائيلية، ولكن معها شهادة منشأ قبرصية.

- جنّيت يا ميشال، أنا اقبل، وبعد بدك ياني روّج بضاعة يهودية، أدعم الاقتصاد الاسرائيلي؟

- سعيد، ما فيها شي، المسألة قانونية ماية بالماية، ضمن القانون!!

- ميشال، بنات الهوى في السوق العمومي ضمن القانون، ابعث اختك الى هناك!!

" والقصة الثانية تعبر عن روحه المرحة الرائعة حتى انه يفشّ خلقه بالنكتة:

" كان يحب الدكتور شارل مالك، ويحترمه كثيراً، وعندما ترشح للانتخابات في الكورة تصرّف كأي "شمدص جهجاء" كما يقول سعيد: لقد انحدر الى أسفل الدركات، في تصرفاته... كأي مرشح أميّ، كأي متزعم لا يقيم وزناً للديمقراطية ولا للأخلاق السياسية. فثارت ثورة سعيد ضده وراح ينتقده بقسوة. وأخيراً عبّر عن موقفه منه بهذه النكتة:

دخلت امرأة الى مكتب شارل مالك الانتخابي في الكورة ومعها ولد صغير، وطلبت أن ترى الدكتور. فسألها احدهم:

- ماذا تريدين منه؟

- هالصبي مريض من يومين، بلكي بيفحصو ؟

- يا ستي، الدكتور شلرل مالك مش دكتور صحة. الدكتور شارل دكتور فلسفة

- خلّي يفحصو للصبي، بلكي معو فلسفة !

" واخيراً لا اجد تعريفاً بسعيد اروع من قوله:

"عندما كنتُ صغيراً أويت فراش ابي، فقال لي لا ترقد بجانبي إلا وأنت نظيف اليدين، وأمس زرت قبره فسمعته يردد، لا ترقد بجانبي إلا وأنت نظيف اليدين".

سعيد تقي الدين ، يا رفيقنا العظيم، أنت آخر العمالقة في هذا القرن! "

هوامش:

(1) عساف ابو مراد: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى "قسم من تاريخنا" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.

(2) توفيق الاشقر: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى "قسم من تاريخنا" على الموقع المذكور آنفاً.

(3) جليل رحباني: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى "قسم من تاريخنا" على الموقع المذكور آنفاً.

(4) ثانوية الارز النموذجية: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى "قسم من تاريخنا" على الموقع المذكور آنفاً.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024