إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

العمل الاذاعي في ستينات القرن الماضي

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2014-10-03

إقرأ ايضاً


في السنوات الصعبة التي اعقبت الثورة الانقلابية، لم تكن الكتب الحزبية متوفرة إلا بشكل نادر جدا، وبحيطة امنية متناهية، كذلك لم يكن عدد الرفقاء المقتدرين عقائديا واذاعيا متوفرا فيغطي الحاجة المتزايدة لمئات الطلبة الجامعيين والثانويين.

من الكتب الحزبية اذكر ان نسخة واحدة من "نشوء الامم" كانت متوفرة للعمل الحزبي في البقاع الشمالي، الذي تولاه في اواسط ستينات القرن الماضي الرفيق السابق حكمت سمعان، وبفضل نشاطه انتمى العشرات من الرفقاء في رأس بعلبك، القاع وفي غيرهما من القرى.

الرفيق انطون الخوري(1) المتحرك في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، كان بحوزته نسخة اخرى من "نشوء الامم"، استعارها منه زميله الطالب وديع الحلو، ليقرأه بدقة في فصل الصيف، حتى اذا اطلع عليه، ادى القسم وراح ينشط متوليا مسؤوليات حزبية (عميد خارجية، ناموس الرئاسة..) ومحققا حضورا متقدما في العمل الصحافي.

من الرفقاء المذيعين في تلك السنوات الصعبة اذكر الامناء هنري حاماتي، جمال فاخوري، الياس مسوح، والرفقاء يوسف المسمار، جورج قيصر، جوزف بابلو(2)

ازاء هذا الوضع، وتلبية للحاجة المتزايدة، اعتمدنا الوسيلتين التاليتين:

الاولى: تنظيم زيارات للرفقاء المنتمين حديثا او للمواطنين الراغبين في التعرف على الحزب، الى معتقل القلعة، فتلتقي كل مجموعة مع احد قياديي الحزب الاسرى: عبد الله سعاده، محمد بعلبكي، انعام رعد، بشير عبيد، شوقي خير الله وغيرهم، يطرحون عليهم الاسئلة في العقيدة والنظام والتاريخ ويتلقون الاجوبة المفيدة.

كانت تلك الزيارات تدوم ما يزيد على الساعة، وكانت ادارة المعتقل تعرف، فتغض النظر.

اما الوسيلة الثانية: فهي طبع ثلاثة كتيبات بشكل سري، وتوزيعها على كامل فروع العمل الحزبي في الجامعات والثانويات والمعاهد، فتشكل بديلا عن الكتب الحزبية غير المتوفرة، وهي التالية:

1-رسالة من الامين الدكتور عبد الله سعادة الى الطلبة القوميين الاجتماعيين.

2-اعادة طبع المحاضرة التي كان القاها الامين محمد بعلبكي (وكان رئيسا للمجلس الاعلى) في الجامعة اليسوعية في شهر كانون الثاني 1961، بدعوة من الطلاب الجامعيين، في سلسلة التعريف بأحزاب لبنان.

3-دراسة اعدها الامين انعام رعد، باسم قيس الجردي، وهو الاسم المستعار الذي كان يعتمده عند نشر المقالات والدراسات في ملحق جريدة "النهار"، بعنوان: "في ذكرى النكبتين بين 15 ايار و5 حزيران، الوعي سلاح الثوار الامضى في معارك تقرير المصير".

هوامش:

(1)تولى في الحزب مسؤوليات محلية ومركزية، منها ناموس رئاسة الحزب. حائز على شهادة الماجستير في العلوم الاجتماعية. تولى ادارة مكتب وكالة الصحافة الفرنسية في قبرص.

(2)نشط في اوائل ستينات القرن الماضي، كان يتقن اللغة الفرنسية ويملك ثقافة عقائدية وفكرية عامة. غادر الى فرنسا واستقر فيها، متأثرا بالفكر الاشتراكي مبتعداً عن الحزب، كتب في مجلة "فكر" باسم احمد صالح.

***

من الكتيبات الثلاثة، اخترنا ان نعمم محاضرة الامين محمد بعلبكي، لقيمتها المتقدمة في شرح العقيدة، ولأن معظم الرفقاء الجدد لم يطلع على كتابات له.

عرض موجز للحزب القومي الاجتماعي

أيها السيدات والسادة

حين قيل لي ان الوقت المحدد لهذا الحديث هو خمس وعشرون دقيقة، كدت اتجاوز شكر مجموعة الطلاب الجامعيين التي اتاحت لنا الاجتماع في هذه الندوة، الممتازة بمستواها العلمي الرفيع، سعيا وراء اجتلاء حقيقة الاحزاب العاملة في لبنان.

فموضوع هذا الحديث، الذي يفترض فيه ان يكون عرضا شاملا دقيقا لحركة عميقة متشعبة الجوانب فعلت وما زالت تفعل في المجتمع الفعل المتصل المشهود كالحركة القومية الاجتماعية، يجعل الثواني هنا، لا الدقائق، في الوقت المحدد، ثمينة للغاية.. غير ان بادرة مجموعة الطلاب الجامعيين هذه، وقد جاءت مظهرا من مظاهر القلق الفكري المستحكم الذي بات يهز اعماق الشباب، قد جاءت ايضا دليلا على انفتاح العقل، عقل الشباب، انفتاحا كليا صافيا في طلبة اليقين وسعيه وراء الحقيقة، ودليلا بالتالي على اتجاه الشباب اتجاها صميميا نهائيا نحو تقديس حرية الصراع الفكري والعقائدي في شؤون المجتمع، وتقدير قيمة حرية هذا الصراع وأهميتها البالغة في بلوغ الافضل وتكييف المستقبل، ثم ممارسة هذه الحرية، في ظل العقل وبهديه، الممارسة الشريفة المقترنة بالقدر الاعظم من روح المسؤولية.

وقد كان لانغلاق العقل دون شؤون حياتنا الاساسية، وما رافق هذا الانغلاق او استتبعه من غياب لحرية الصراع العقائدي او نحرها، عمدا او جهالة، كان لهذا كله من الفعل في تعطيل نهوض بلادنا وكبح وثبتها المرجوة ما لا نزال نعاني من اثاره حتى الان.

الصراع العقائدي الحر

والحركة القومية الاجتماعية التي كلفتني بالقاء هذا الحديث، وهي التي أقامها مؤسسها على العقل، ودعت ولاتزال تدعو الى اعتماد العقل في شؤونها القومية، والتنكب في هذه الشؤون التي تتناول مصير الامة، أي مصير الانسان في هذه البلاد، عن دروب العاطفة والظن والتخمين والتقليد.

ان الحركة القومية الاجتماعية التي هي مدار هذا الحديث، وقد باتت حرية الصراع العقائدي جانبا أساسيا من جوانب إيمانها، كما باتت ممارسة هذه الحرية خطة لها مقترنة بجوهرها، لتسمح لنفسها بأن تجد في بادرة مجموعة الطلاب الجامعيين هذه تحقيقا عمليا لبعض هذا الجوهر، فهي، أي هذه البادرة، من هذه الجهة في رأينا بادرة قومية اجتماعية بالفعل، وهي لذلك تستحق فعلا من الحركة القومية الاجتماعية كل شكر وكل تقدير وكل ثناء لا تخرج جميعها في الحقيقة عن معنى التجاوب مع النفس، ولا تخرج في الحقيقة عن نطاق الحديث عن الحركة ذاتها.

فإلى الطلاب الجامعيين اذن كل الشكر وكل التقدير وكل الثناء.

الاساس القومي لا الاساس السياسي

ليس بالامر السهل، أيها السيدات والسادة، اختصار ما يزيد عن خمس وعشرين سنة من النشاط الفكري والنضال السياسي والجهد القومي العام، في خمس وعشرين دقيقة. فلن يكون لهذا الحديث إذن ان يدعي الكمال في عرضه للحزب القومي الاجتماعي. حسبه ههنا ان يجعل الخطوط العريضة لهذا الحزب، بالقدر المستطاع من الشمول، وبالقدر المستطاع من التفصيل ايضا حيث لا غنى عن التفصيل، في موضوعية قصوى هي ميزة البحث العلمي المجرد.

ان خير ما يفتتح به هذا العرض للحزب القومي الاجتماعي هو استقراء مؤسس هذا الحزب نفسه، سعاده، في ما دفعه الى انشاء الحزب، فلنستمع اليه يشرح ذلك في هذا الكتاب التاريخي الذي كان قد بعث به من سجن الرمل، في كانون الاول من عام 1935، بعد ان اعتقل اول مرة أثر انكشاف الحزب، الى الاستاذ حميد فرنجية – اسبغ الله عليه العافية – الذي كان أحد المحامين المتطوعين للدفاع عنه في الدعوى الاولى بالمحكمة المختلطة.

قال سعاده:

" كنت حدثا عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914، ولكني كنت قد بدأت اشعر وأدرك. وكان اول ما تبادر الى ذهني وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت بما شعرت وذقت ما ذقت مما مني به شعبي هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ "

" ومنذ وضعت الحرب أوزارها أخذت أبحث عن جواب لهذا السؤال وحل للمعضلة السياسية المزمنة التي تدفع شعبي من ضيق الى ضيق فلا تنقذه من دب إلا لتوقعه في جب ".

" وكان ان سافرت أوائل سنة 1920 وقد بعثت الاحقاد المذهبية من مراقدها والامة لما تدفن اشلاءها. ولم تكن الحال في المهجر احسن إلا قليلا فقد فعلت الدعايات فعلها في المهاجرين فانقسموا شيعا ".

ويضيف سعادة:

" وبديهي اني لم اكن اطلب الاجابة على السؤال المتقدم من اجل المعرفة العلمية فحسب. فالعلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر. وانما كنت اريد الجواب من اجل اكتشاف الوسيلة الفعالة لازالة اسباب الويل وبعد درس اولي منظم قررت ان فقدان السيادة القومية هو السبب الاول في ما حل بأمتي وفي ما يحل بها. وهذا كان فاتحة عهد درسي المسألة القومية ومسألة الجماعات عموما والحقوق الاجتماعية وكيفية نشوئها. وفي اثناء درسي اخذت اهمية معنى الامة وتعقدها في العوامل المتعددة تنمو نموها في ذهني. وفي هذه المسألة ابتدأ انفرادي عن كل الذين اشتغلوا في سياسة بلادي ومشاكلها القومية. هم اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين، فخرج هذا الاشتغال عن العمل القومي بالمعنى الصحيح. أما انا فأردت " حرية امتي واستقلال شعبي في بلادي ". والفرق بين هذا المعنى التعييني والمعنى السابق المطلق المبهم، واضح. وكنت احاول في جميع الاحزاب والجمعيات التي اتفق لي الانخراط فيها او تأسيسها او الاتصال بها ان اوجه الافكار الى ما وصلت اليه فلم أوفق كثيرا ".

ويتابع سعاده قوله: " ويمكنني أن اعين موقفي بالنسبة الى موقف المتزعمين السياسيين من قومي بأن موقفي أخذ يتجه رويدا حتى ثبت على الاساس القومي بينما موقفهم كان ولم يزل على الاساس السياسي. والسياسة من أجل السياسة لا يمكن ان تكون عملا قوميا.

بناء عليه، ولما كان العمل القومي الشامل المتناول مسألة السيادة القومية ومعنى الامة لا يمكن ان يكون عملا خاليا من السياسة، رأيت ان أسير الى السياسة باختطاط طريق نهضة قومية اجتماعية جديدة تكفل تصفية العقائد القومية وتوحيدها وتوليد العصبية الضرورية للتعاون القومي في الحقوق والمصلحة القومية.

" ولما كانت دروسي السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد أوصلتني الى تعيين أمتي تعيينا مضبوطا بالعلوم المتقدمة وغيرها وهو حجر الزاوية للبناء القومي، والى تعيين مصلحة امتي الاجتماعية والسياسية من حيث حالاتها الداخلية ومشاكلها الخارجية وجدت أن لابد لي من ايجاد وسائل تؤمن حماية النهضة القومية الاجتماعية في مسيرها. ومن هنا نشأت في فكرة انشاء حزب يجمع في الدرجة الاولى عنصر الشباب النزيه البعيد عن مفاسد السياسة المنحطة فأسست هذا الحزب ووحدت فيه العقائد القومية في عقيدة واحدة ووضعت مبادئ الجهة الاصلاحية كفصل الدين عن الدولة وجعل الانتاج أساس توزيع الثروة والعمل. وجعلت نظامه مركزيا تسلسليا منعا للفوضى في داخله واتقاء لنشوء المنافسات والخصومات والتحزبات وغير ذلك من الامراض الاجتماعية والسياسية وتسهيلا لتنمية فضائل النظام والواجب ".

هكذا ايها السيدات والسادة يشرح سعاده ما دفعه الى انشاء الحزب. ومن هذا الشرح يبدو بوضوح ان الحزب القومي الاجتماعي هو، من ناحية، عقيدة اساسية وضعها صاحب الدعوة بنتيجة دروسه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو من ناحية ثانية حركة في الشعب ذات نظام يتجسد فيها الايمان بالعقيدة، وتكون الاداة الفعالة لانتصار العقيدة وتحقيق مبادئها. وكل عرض للحزب القومي الاجتماعي لا بد ان يتناول عرض العقيدة من جهة وعرض نظام الحركة من جهة اخرى.

سر نجاح الحزب حيث اخفقت باقي الاحزاب

أيها السيدات والسادة

في شرح سعاده، على ايجازه، لما دفعه الى انشاء الحزب يمكن للمتأمل ان يلحظ السر الكامن وراء التوفيق الذي أصابه سعاده وحزبه حيث لم تصب الاحزاب الاخرى إلا القليل القليل من التوفيق. فإن من العجيب لغير الفاحص المدقق ان تلتقي نصوص مبادئ الاحزاب مع نصوص مبادئ الحزب القومي الاجتماعي في امور كثيرة، ولا سيما في مناهج الاصلاح ولكنها تعجز عن التحقيق حيث نجح هو. ويكفي ان نشير الى اجماع الاحزاب على مقاومة الطائفية في ظاهر النصوص دون ان ينجز منها مهمة القضاء على الطائفية فعلا في النفوس سوى الحزب الذي هو موضوع هذا الحديث. وقد يكون ايضا من العجيب لغير الفاحص المدقق هذا الايمان الراسخ الذي عرف به ابناء هذا الحزب واقبالهم العظيم على تحمل التضحيات وصبرهم البالغ على ملاقاة ألوان المكاره وضروب الاذى والظلم والاضطهاد، السنين الطوال مما لو نزل بعضه بغيرهم لحطمه شر تحطيم.

ذلك ان مبادئ الحزب وتعاليمه لم تكن شيئاً مبتسرا ارتجله سعاده ارتجالا، ولا فرضه على تلامذته فرضا او تقبله هؤلاء بدون محض اقتناعهم واختيارهم الواعي المسؤول، او بفعل مغريات او جواذب خارجة عن محض الاقتناع، وانما كان حاصل نظرة عميقة شاملة الى الانسان والمجتمع، وعلاقة احدهما بالاخر، ومعنى الحرية ومقامها ومعنى الحق ومقامه في هذه العلاقة، ثم كيفية نشوء المجتمعات وتطورها عبر التاريخ والعوامل الفعالة في هذا النشوء وهذا التطور، وفي ظهور الثقافات والحضارات وظروفها الطبيعية والتاريخية.

ومن هذه النظرة العميقة الشاملة الى كل هذا، من هذه العقيدة الجوهرية انبثقت في مجال التطبيق على بلادنا، مبادئ الحزب وتعاليمه في شقيها الاساسي والاصلاحي اللذين يتناولان حقيقة الامة التي هي أمتنا ومناهج النهوض بهذه الامة في مراقي العزة والقوة والفلاح.

وهذه النظرة هي التي جعلت لمعتنقيها هذه العقلية التقدمية الاصيلة بما حررت نفوسهم وأفكارهم وأخلاقهم من كل أمراض الرجعة، وبما كانت لهم اكسير الشفاء الكامل من شوائب العلل التي ما تزال تفتك بمجتمعنا حتى الان وتمزقه شر تمزيق: علل الفردية الانانية و والطائفية والعنصرية والاقطاعية حتى اصبح تغلبهم عليها محل الدهشة!

العقل الرائد

لقد كان العقل كما قلنا سابقا أيها السيدات والسادة سبيل سعاده في الاهتداء الى هذه النظرة. العقل الذي هو "فعل مجابهة"، وموقف العقل الذي هو "خلاصة التجربة التاريخية الخلاقة التي تحمل في طياتها صعود الانسان من حالة اللاوعي الى درجة الوعي والحضارة الانسانية".

" العقل الانساني لم يوجد – كما يقول سعاده – ليتقيد وينشل بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميز، ليعين الاهداف وليفعل في الوجود. العقل الذي هو موهبة الانسان العليا، هو التمييز في الحياة، فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والادراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الانسان الاساسية وبطل ان يكون الانسان انسانا وانحط الى درجة العجماوات المسيرة بلا عقل ولا وعي ".

بقوة هذه الاداة المميزة الخلاقة التي يتمتع بها الانسان تقود الحركة القومية الاجتماعية المواطن أول ما تقوده في مراحل الوعي لنظرتها العميقة الشاملة الى الانسان والمجتمع، تقوده الى التساؤل: الى أي حد انا انسان؟ وتكون النتيجة المنطقية لهذا السؤال المنطلق، اسئلة اخرى: ما هو الانسان؟ متى يكون هذا الذي يدعى انسانا "انسانا" بالفعل ومتى لا يكون؟ ما هو محله من الوجود الانساني، ما هو حظه من العدم أو الوجود، من الفناء او الخلود؟

وفي لحظة، يجد المواطن نفسه تابعا خطى الفلاسفة في مواجهة هذا التحدي الفكري الخطير. فإذا كانت له القدرة على تجريد النفس من كل الافكار السابقة المتراكمة في ذهنه وعلى قلبه بمختلف العوامل، وكان لعقله وحده سلطان النظر الى الاشياء وتمحيصها واخضاعها لما يقتضيه التدليل الصحيح والبرهان القويم، وجد نفسه منقادا الى الخطوة الاولى من خطوات المعرفة: الخطوة التي خطاها ديكارت، وكان قد خطاها قبله بمئات السنين الامام الغزالي الذي لم يرضَ حتى في الله إلا بالمعرفة اليقينية التي جعلته من بعد اماما من أكبر الأئمة. ومن لا يذكر "المنقذ من الضلال" ؟ " ان الظن – كما تقول الآية القرآنية الكريمة – لا يغني من الحق شيئا ".

اجتماعية الانسان

ازاء هذه الاسئلة الكيانية الخطيرة، تنطلق نظرة الحزب من الايمان باجتماعية الانسان، بخضوعه دون ان يكون له في هذا الخضوع ادنى اختيار، لأثر هو أعظم الاثار الاساسية في كيانه: أثر الاجتماع الذي هو خاصة الطبيعة الانسانية أو احتكارها في مراقي تطورها. فالشخصية الانسانية لا يمكن ان تتحقق إلا ضمن نطاق شيء اسمه الاجتماع. وانت كفرد منفصل كل الانفصال عن الاجتماع لا يمكن ان يكون لك من الوجود الانساني حظ الا حظ الإمكانية من الوجود.

ولا تصبح الامكانية حقيقة، ولا يصبح الفرد الذي هو انسان بالقوة إنسانا بالفعل إلا بالفعل إلا متى اصبح مجتمعا.

" المجتمع – يقول سعاده – هو الوجود الانساني الكامل والحقيقة الانسانية الكلية ". ومن لا يحتاج الى الاجتماع ولا يصلح له – يقول أرسطو – إما آلة او وحش ولكنه ليس إنسانا.

هذا التشديد على المفهوم الاجتماعي للفرد يخرج بالانسان فورا من الفردية القتالة التي سادت مجتمعنا، ويثبت الخصائص والصفات والخطوط النفسية والروحية للمجتمع التي يستمد منها الفرد نفسيته الاجتماعية وخصائصه القومية التي تميزه عن أبناء الأمم والمجتمعات الاخرى. وبهذا المفهوم تنجو نفس المرء من ذلك الشعور الذي لابد ان يستحوذ على نفوس الفرديين في بعض ساعات التأمل، إذ يتحقق احدهم بأنه يرى ولا يرى، يسمع ولا يسمع، يحس ولا يحس، وكأن الله قد ختم على قلبه وسمعه وبصره غشاوة، وينعدم لديه كل احساس صميمي بدفء الحنين وحرارة اللهفة وجمال الحب ثم لا يجد في ذهوله المسيطر إلا طريق العيش الحيواني الرخيص مستسلما لما هو فيه من فناء محيق. بذاك المفهوم الاجتماعي للفرد تتضح له طريق الشفاء من هذا الشقاء المميت الذي لا بد ان تنتابه الرغبة الملحة للخلاص منه، فينشط للحياة ويحسن منه السلوك ويتقن العمل الذي يصبح لا مجرد وسيلة للارتزاق او اسلوب من اساليب الاحتيال بل جهدا اجتماعيا يتحتم أداؤه ليزدهر المجتمع فيشمل الخير الذي يعمه الفرد هو منه.

اجتماعية القيم

واذا كان الانساني هو الاجتماعي بالضرورة، فإن القيم الانسانية هي قيم اجتماعية ايضا بالضرورة، بمعنى انها لا توجد ولا يمكن ان توجد إلا في المجتمع، ولا تكون إلا به وله.

وهذا النظر ينتهي بنا الى ان كل اختزان للقيم او احتكار لها خروج على الانسانية الصحيحة. واذا ذكرت القيم في الحياة الانسانية كان الحق في طليعتها. " اعرفوا الحق والحق يحرركم ".

هل انتابك مرة داء القعود عن الثورة لما تعتقد انه حق، وعدم الاندفاع لانتصار افكارك في المجتمع؟ إذن هو فساد نظرتك الى الانسان والقيم الانسانية، فساد لا تعرف معه بعدئذ معنى من معاني الصراع ولا معنى من معاني الحرية. والحق – يقول سعاده – " لا يفنى بفناء الفرد ولا يموت مع الفرد. الافراد يأتون ويذهبون ويكملون اجالهم ويتساقطون تساقط أوراق الخريف. أما الحق فلا يذهب معهم. ولكن شرطه في الانسانية ليكون حقا ان ان لا يعلن نفسه ويختفي، بل يمتد امتداداً لا يعرف الحدود على تعاقب الاجيال ". لذلك نؤمن نحن بحق الانسان في البحث عن الحق والدعوة اليه والصراع من أجله في أتم حرية فتلك كلها من أهم عوامل اكتمال الذات الانسانية في الانسان، واذ تصبح مواهبه كلها للمجتمع ينفسح لنموها المجال فتزدهر وتثمر وتفيد، ويصبح مقام الحرية عنده حرية الافكار وصراع المثل مقام الحياة نفسها، ولا معنى دونها للحياة. في سبيلها ترخص كل تضحية ويهون كل عزيز ومن أجلها يحلو كل أذى ويلذ النضال ويطيب الاستشهاد.

المفهوم القومي ومضامينه

واذا كان الانساني هو كما قلنا الاجتماعي بالضرورة، فإن نظرة الحزب الى الواقع الانساني هي، أيها السيدات والسادة، انه واقع مجتمعات متعددة متنوعة، عملت على تعددها وتنوعها عوامل كبرى مستمرة عبر الاجيال المتطاولة حتى اصبح التعدد والتنوع أمرا قد يستحيل الخروج عليه. الى أي مجتمع من هذه المجتمعات المتباينة النفسيات، المختلفة المصالح المادية والمطالب الروحية والثقافات والحضارات، انتمي؟

ما هي حدود المتحد الاجتماعي الذي يضمني وفيه قد حصل عبر أجيال التاريخ المتطاولة الاشتراك الاتم في الحياة بين الناس الذين اعايشهم؟

ما هي حدود هذه الوحدة الانسانية الخاصة المميزة عن سواها من الوحدات الانسانية التي لم يكن لي في الانبثاق منها اختيار ولا في الانتماء اليها ارادة؟ ما هي حدود هذا الكائن الازلي المستمر الوجود المستمر الفعالية الذي له فيَّ من الاثار ما قد أعلم وما لا أعلم ولكنني لا أستطيع مهما حاولت ان انكره او انفلت منه؟ من نحن؟ ما هي – باختصار – أمتي، الامة التي انا ابنها كما انا ابن والدي؟

بهذه الاسئلة تواجه عقيدتنا الاجتماعية المواطن، وههنا تبرز ما ندعوه قومية هذه العقيدة التي لا انفصال لها عن اجتماعيتها لأنهما مترابطتان ترابط المقدمة والنتيجة. وههنا يبرز ما قصد اليه سعاده في كتابه الى الاستاذ حميد فرنجية حين أشار الى انصرافه لتعيين معنى الامة، وانتهائه بدروسه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الى تعيين امته تعيينا مضبوطا بالعلوم المتقدمة، وانفراده بذلك عن الذين اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين واشتغاله هو " لحرية امته واستقلال شعبه في بلاده".

لا يتسع المجال في هذه الدقائق للخوض التفصيلي في مبحث الامة، معناها وكيفية نشوئها وتطورها على اطلاقه. حسبنا ان نقول ان صاحب الدعوة القومية الاجتماعية قد قام في هذا الموضوع بالمحاولة العلمية الجليلة الاولى في اللغة العربية إذ أخرج كتابه العظيم "نشوء الامم"، وحسبنا ان نقول ان نظرة الحزب في هذا الموضوع تقوم على ان البيئة الطبيعية المميزة عن سواها من البيئات الطبيعية على هذه الارض، هي ذات الاثر الاكبر في تحديد المجتمع بحدوده الجغرافية بما قد ضمنته عبر اجيال التاريخ المتطاولة للذين يعيشون في داخلها من الاشتراك الواسع العميق في حياة الجسد والعقل، في الحياة المادية والروحية وبما انها حالت دون اشتراك المجتمعات الاخرى التي تعيش خارجها، في حياة الذين يعيشون ضمنها. وهذه البيئة الطبيعية المميزة، هذا الوطن، يطبع المجتمع بآثار مادية وآثار معنوية خاصة لا يمكن ان تمحى إلا حين يتم التواصل البشري الكامل وينتفي تنوع المجتمعات مما لا سبيل الى تحقيقه إلا في أمد بعيد للغاية. ومهما بلغ من الصحة القول بالتيارات الفكرية العامة الجامعة للبشرية وانهيار الحواجز الجغرافية الطبيعية وتضاؤل أثرها بازدهار المواصلات فإن أحدا لا يستطيع الادعاء ان من شأن ذلك ملاشاة كيان اجتماعي في كيان اجتماعي اخر،ملاشاة امة في امة. ان الاثار المادية والروحية التي عمل تعدد البيئات الجغرافية في الارض على ترسيخها في المجتمعات المختلفة باختلاف البيئات لا تزال رواسبها في نفسيات الامم بالغة العمق، فضلا عن استمرار التنوع والتصادم في مصالح هذه الامم.

قوميتنا حاصل الدرس والتنقيب

هذا المفهوم للامة، على انها حاصل وحدة حياة الجماعة المادية والروحية في بيئة طبيعية مميزة عبر اجيال متطاولة، يؤدي الى رفض العرقية في تعيين الامة لأنه يأخذ بنظرية، بل بواقع المزيج السلالي والحياتي ضمن البيئة. وهو ايضا يؤدي الى رفض "اللغوية" اذا صح التعبير في تعيين الامة لانه ياخذ بأن الاصل هو فكر الانسان – المجتمع، فكر الامة، المعبر عنه بواسطة اللغة، لا اللغة بحد ذاتها.

مهما بلغ تفاعل الفكر مع اللغة وارتباطهما، تبقى الاهمية لفاعلية فكر الامة في اللغة، من حيث قواعده ونهجه، مضمونه ونتاجه، ومن حيث تعبيره عن خطوط الامة النفسية والحضارية.

ثم ان هذا المفهوم للامة، يؤدي الى رفض الطبقية والاقطاعية ما دامت وحدة المجتمع هي الاصل، والى تبني مبدأ تنظيم الاقتصاد القومي على اساس الانتاج وانصاف العمل، على انه المبدأ الكفيل بايجاد التوازن السليم بين توزيع العمل وتوزيع الثروة. " كل عضو في المجتمع او في الدولة يجب ان يكون منتجاً بطريقة من الطرق. وفي حالة من هذا النوع يتوجب تصنيف الانتاج والمنتجين بحيث يمكن ضبط التعاون والاشتراك في العمل على اوسع قياس ممكن وضبط نوال النصيب العادل من النتاج وتأمين الحق في العمل والحق في نصيبه. وبذلك يوضع حد للتصرف الفردي المطلق في العمل والانتاج الذي يجلب اضرارا اجتماعية كبيرة، دون ان يكون فيه حد من جهد الفرد المبذول لرفع مستوى الانتاج القومي. لأنه ما من عمل او انتاج في المجتمع إلا وهو عمل او انتاج مشترك او تعاوني. فاذا ترك للفرد الرأسمالي حرية مطلقة في التصرف بالعمل والانتاج كان لابد من وقوع اجحاف بحق العمل وكثير من العمال. ان ثروة الامة العامة يجب ان تخضع لمصلحة الامة العامة وضبط الدولة القومية. والرأسمال الذي هو ضمان استمرار الانتاج وزيادته هو بالتالي او بما انه حاصل الانتاج، ملك قومي عام مبدئيا وان كان الافراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وتسخيره للانتاج. وبهذا تؤمن الامة نهضتها الاقتصادية وتحسين حياة ملايين العمال والفلاحين وزيادة الثروة العامة وقوة الدولة ".

من هنا ان الحزب القومي الاجتماعي يرفض في الاقتصاد النظرة الماركسية القائمة على تعليل التاريخ تعليلا ماديا محضا ينكر ما للجانب العقلي والنفسي والثقافي، اي ما للجانب الروحي من نصيب في وحدة الحياة التي تشترك فيها امة من الامم ضمن بيئتها الطبيعية كما ترفض النظر بالتالي، الى واقع الانسانية على انه واقع طبقات مادية تلتقي التقاء الصعاليك والتقاء الاسياد في مختلف انحاء المعمورة، فتنقض المبدأ القومي وتمزق الامة وتهدم طبقة لتقيم محلها طبقة اخرى. واذا كانت الماركسية يسارية من حيث نقضها للاوضاع الاقتصادية العتيقة فانما يساريتنا في الاقتصاد هي يسارية القومية الاجتماعية المنتقضة على الوضع الاقتصادي البالي الضامنة للانسان ضمن المجتمع الواحد المنسجم المتفاعل، كرامتُه وحقه في الثروة بمقدار نصيبه من الانتاج. ففي الامة الواحدة في المجتمع القومي لا استبعاد ولا استثمار ولا استغلال، بل كرامة وحق، وفرح بالمشاركة في انماء الثروة العامة والاشتراك بالتمتع بفوائد هذه الثروة في مجالي النهوض والازدهار والقوة تسهيلا لأداء رسالة الامة المنيرة الى العالم واغناء سهمها التاريخي في الحضارة الانسانية المتألقة.

وكما يؤدي مفهوم العقيدة للامة الى رفض العرقية واللغوية والطبقية والاقطاعية، يؤدي ايضا الى رفض الطائفية الدينية السياسية الممزقة للامة كوحدة حياة، اضف الى ذلك ان عقيدة الحزب من حيث هي نظرة اجتماعية انما تتناول الانسان من حيث هو كائن اجتماعي فقط، وتلزم نفسها بالوقوف عند هذا الحد دون تخطّيه الى ما هو وراء الاجتماع. انها تبتدئ في المجتمع وتنتهي فيه، وكل ما هو خارج نطاق حياة المجتمع وشؤونه ليس من اختصاصها ولذلك كانت حرية الايمان في شؤون ما وراء الطبيعة مصونة في الحزب القومي الاجتماعي، ما دامت القضايا الميتافيزيكية والتيولوجية خارج محور العقيدة كليا الا حيث يجعل انغلاق العقل بفعل العوامل المختلفة هذه القضايا تتدخل مباشرة في حياة المجتمع من الوجهة الاجتماعية السياسية.فليس لعقيدة الحزب ما تقوله حول ماهية الخلق والعالم الاخر ومصير الروح وما شاكلها من القضايا التي هي في صميمها جزء من حياة الانسان الداخلية التي يجابهها برهبة وخشوع في جامعه او كنيسته او في غرفته امام ربه.

وبذلك امكن ان يتراص في الحركة مواطنون من مختلف المذاهب والاديان، مع حرص كل منهم على حريته في ممارسة ايمانه الديني الخاص، من غير ان يحول ذلك دون اجتماعهم على مبدأ فصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون المجتمع السياسية والقضائية القومية التي هي من اختصاص الدولة المدنية وحدها. ذلك انهم اختاروا ان يرتفعوا برسالة الدين الحقيقية من الحضيض الطائفي الذي اوصلتها اليه قرون من الانحطاط والتدخل الاجنبي وان يعيدوها الى مكانها اللائق.

بذلك ايها السيدات والسادة أمكن ضمن صفوف الحزب القضاء على داء الطائفية الوبيل الناهش وحدة المجتمع المبعثر حقوقه واهدافه وقضيته الحقيقية الكابح جماح نهضته لبناء الدولة الراقية المثلى. بذلك ايها السيدات والسادة امكن ان تتحقق المعجزة!

.... المعجزة التي تحققت بامتلاء نفوس القوميين الاجتماعيين، عن طريق الايمان بهذه النظرة العلمية للامة ككائن اجتماعي حي، لا عن طريق الشعارات والنصوص الجوفاء، امتلاء نفوس القوميين الاجتماعيين بالولاء الاشمل والاسمى هو الولاء للامة بشخصيتها القومية الواضحة وبترابط المجتمع القومي بأرض الوطن وبريته وبالتراث القومي الزاخر بالامجاد والمتطلع الى مزيد من الظفر في مشارف المستقبل.

ايها السيدات والسادة:

ان النظرة القومية الاجتماعية الى الواقع الانساني ومعالجة مشاكل هذا الواقع على ضوئها، لا يمكن ان تقارن او تشبه بالنزعات القومية التي شهدها القرن التاسع عشر ويقال اليوم ان مشاكل العصر قد تجاوزتها. فاذا كانت لحمة هذه القوميات وسداها العنصر والدم، او الكبرياء والغرور، وغايتها الفتح وبسط السلطان واستعباد الشعوب الاخرى بالقوة واستثمارها لمصلحتها، واذا كان الانسان الحديث الذي ذاق ويلات الحقد والضغينة الكامنة وراء هذه القوميات المنهارة قد انتهى الى نبذها والبحث عن ايديولوجية جديدة منقذة، فان القومية الاجتماعية التي شهدت هذه البلاد انبثاقها من اروع ذرى لبنان لهي العقيدة التي لا تنفصل فيها النزعة القومية عن جوهرها الانساني، فهي لذلك القومية الايجابية المحبة البناءة المنفتحة على كل الثقافات انفتاحها على معنى حرية الامم وتعاون الشعوب في ميدان الحضارة، شرط الاحترام المتبادل للحق القومي والسيادة القومية والثقافية القومية التي لا يعني تحطيمها على يد الاستعمار أيا كان لونه الا تحطيم معنى الانسان. وهي اذن – اي القومية الاجتماعية – عقيدة على مستوى العصر بما تقدم من ايديولوجية جديدة تحمل كل الحلول الجذرية لمظاهر تخلف الشعوب عامة ولمشاكل علاقات الامم بعضها ببعض في دفع صادق للانسانية نحو تشييد صرح الحضارة الشامخ.

ايها السيدات والسادة:

لئن كان سعاده قد انتهى الى ان البيئة الطبيعية التي نشأت فيها امتنا هي هذه البقعة من الارض التي يعبر عنها بلفظ عام الهلال الخصيب وهي ذات حدود تميزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي الى قناة السويس والبحر الاحمر في الجنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة ومن البحر الابيض في الغرب شاملة جزيرة قبرص الى قوس الصحراء العربية وخليج العجم في الشرق...

لئن كان سعاده قد انتهى في البحث عن هوية الامة الى تعيين البيئة الطبيعية التي فيها انصهرت وامتزجت وتكونت في وحدة حياة شاملة مستمرة على تعاقب الاجيال وان عرفت بعض الانقطاع بفعل عوامل طارئة غير أصيلة، ولئن ظهر ان هذه البيئة هي ما يدعى بالهلال الخصيب او ما سماه مؤسس الحزب الوطن السوري انطلاقا من التسمية التاريخية المعروفة لهذه البيئة، سوريا، ثم عرفت النظرة القومية الاجتماعية التي دعا اليها سعاده ويقول بها الحزب بالقومية السورية، فانما قال بذلك نتيجة دراسات مستفيضة دقيقة، اجتماعية وتوبوغرافية وتاريخية واتنية توفر عليها السنين الطوال بصبر العالم المنقب وصدق الباحث الناقد في محاولة اكتشاف الحقيقة المجردة واستنباطها من بين ركام الجزيئات المبعثرة والمحاولات المبتسرة والتواريخ المكتوبة تواريخ هذه البلاد، ومعظمها لا يخلو من الغرض والتشويه العفويين او المقصودين. وظاهر من تحديد هذه البيئة ان سعاده لم يستوح فيها خططا سياسية معينة داخلية او خارجية، ولا اكترث بالاوضاع السياسية القائمة التي قد لا تتفق مع هذا التحديد، لانه لم يشأ ان يقيم موقفه على الاساس السياسي المحض، بل على الاساس القومي المنبثق عن العقل والمنطق ووقائع الطبيعة والتاريخ والبحث العلمي المجرد، الممتلئ محبة، في سعيه وراء الحقيقة.

ليت المجال متسع الان ايها السيدات والسادة لعرض الادلة والبينات العلمية على صحة مبدأ الحزب لجهة تعيينه حدود البيئة الطبيعية التي نشأ فيها مجتمعنا وتكون وتطور وتعيينه بالتالي لحقيقة هوية الامة التي اليها ننتمي. ان هذه البينات مفصلة في شروح الزعيم للتعاليم، ولا سيما في كتاب "المحاضرات العشر" ولكن ما لابد من التحذير منه هو الخلط بين حقيقة المضمون الذي بات يعبر عنه اسم هذه البيئة التاريخي، سوريا، من زاوية النظر القومية الاجتماعية، وبين الالتباسات الكثيرة التي يمكن ان تنشأ عن اقتران هذه الاسم بجزء من البيئة دون سواه هو الجمهورية السورية، او بتصرفات قد تصدر عن هذا او ذاك من كيانات الامة السياسية ازاء بعضها، او عن هؤلاء او اولئك من ابناء البيئة الطبيعية الواحدة في مختلف ارجائها.

ولا بد من الاعتراف بأن هذه الالتباسات قد عقدت مهمة الدعوة العقائدية القومية الاجتماعية في الشعب ولا سيما لدى الذين يكتفون من دراسة الحزب بألفاظ المبادئ دون التبصر في النظرة الاساسية الكلية التي منها انبثقت المبادئ انبثاق النتيجة من المقدمة.

عروبتنا تعاون بناء

يبقى ايها السيدات والسادة ان القول بوحدة الامة في البيئة الطبيعية المحددة لا يلغي التقاء هذه الامة مع امم العالم العربي في رابطة العروبة الحقيقية التي هي رابطة مجتمعات متعددة مختلفة الشخصيات والحضارات متشعبة المصالح لا رابطة مجتمع واحد في بيئة طبيعية واحدة. وعلى هذا الاساس يقول الحزب القومي الاجتماعي بعروبة الامة السورية، ويدعو في غايته التي نص عليها في تعاليمه الى وجوب السعي الى انشاء الجبهة العربية القادرة على ان تكون سدا منيعا ضد المطامع الاجنبية الاستعمارية وقوة يكون لها وزن كبير في اقرار المسائل السياسية الكبرى، مما يتضمن القول بالتعاون الى ابعد الحدود البناءة، بل لا يتنازل عن اعتبار هذه الامة هي المؤهلة لقيادة العالم العربي، دون ان يكون في ذلك اي جنوح نحو النظرة الدينية او النظرة اللغوية او النظرة العنصرية التي لا يصح القول بامة عربية واحدة في العالم العربي كله من غير اعتمادها مجتمعة او منفردة.

لكي يصان لبنان قلعة لا تمس

ويبقى بعد ذلك ايها السيدات والسادة امر لبنان، والكيان اللبناني وموقف الحزب منهما. ان الذين لم يعرفوا عقيدة الحزب كما اجتهدت ان اعرضها هنا اليوم، على حقيقتها، والذين يظنون الحزب حركة سياسية محضة ويقفون على عناوين المبادئ في حرفية ألفاظها، قد يعذرون ولا ريب ان التبست عليهم حقيقة موقف الحزب من لبنان، فلم يتورعوا عن الشك في لبنانيته الصحيحة بل لم يتورعوا عن الذهاب الى حد اتهامه بخيانة لبنان.

ولكن الذين اتيح لهم ان يعلموا ويتحققوا من ان الحزب القومي الاجتماعي هو مدرسة عقلية عظمى يندر ان يكون لها مثيل في الشرق الادنى – كم يقول السيد كمال جنبلاط – وان مجرد الاطاحة بالكيانات الساسية او مجرد ضم كيان سياسي الى كيان سياسي اخر، سياسيا، لا يعني – في نظر الحزب – تحقق شيء من النهضة القومية الاجتماعية التي تسعى نظرة الحزب الى تحقيقها في المجتمع الواحد- الذين اتيح لهم ان يعلموا هذا ويتحققوا منه مؤهلون لان يدركوا حقيقة موقف الحزب من لبنان.

فهذا البلد العظيم الذي شهد انبلاج فجر الفكرة القومية الاجتماعية على يد رجل من ذرى لبنان الشم، وبفعل عقل خلاق من عقول لبنان، لا يمكن ان يجد في ابناء هذه الفكرة ومعتنقيها إلا مؤمنين به اشد الايمان، حماة له اشداء يوم تهب عليه الاعاصير من اي مكان. واذا كنا نؤمن بأن القومية الاجتماعية هي الرسالة المنطلقة من لبنان الى نفسه والى بيئته الطبيعية التي لا يستطيع عنها انفكاكا في شؤون الحياة والمصير، كما اثبتت الاحداث، واذا كان لبنان، بحكم ظروف تاريخية معينة، هو اكثر اجزاء هذه البيئة اهلية لضمان حرية الفكر وصراع العقائد، فكيف لا يكون في عرف الحزب القومي الاجتماعي القلعة التي يجب ان تصمد وتصان وتقوى لتتمكن من نشر انوارها على كل ما يحيط بها؟ انها القلعة التي شهدنا ضمنها نجاح التجربة التاريخية العظمى في هذه البلاد، تجربة الانقلاب العقلي الجديد الذي امكن بواسطته تحقيق المعجزة، وعلى شمول هذا النجاح لكل ابناء لبنان يتوقف الى حد بعيد، الامل بارتقاب قيام عهد حضاري جديد لا في لبنان فحسب، بل في بيئته الطبيعية وفي العالم العربي كله.

هذه القلعة العزيزة الغالية لا تصان ايها السيدات والسادة بالخوف او الشعور بالنقص، ولا تصان بالانكماش الديني الذي لن يؤدي الا الى اضمحلال اصحابه الحتمي في غمار الانفلاش الديني المعاكس، ولا يمكن ان تصان هذه القلعة بالاعتماد الذليل على الاجنبي للدفاع عن كيان كريشة في مهب الرياح. وانما تصان هذه القلعة بانتشار الفكر القومي الاجتماعي الفلسفي الموحد بين ابنائها، المحرر نفوسهم، المطلق عزائمهم في كل انسجام ومحبة نحو بناء الدولة الراقية الحديثة النموذجية المنشودة، فلا ميثاق يدعى وطنيا ويكرس الانشقاق ولا مناصفة دينية ولا احصاء مذهبيا ولا رئاسات تتبادلها الطوائف مداورة ولا هجرة ولا اقطاع ولا طبقية ولا انانيات، بل مواطنة صادقة يتساوى فيها الجميع في وحدة الحياة وفي حقوق المواطنة وواجباتها.

لأن الحزب القومي الاجتماعي يدرك جوهر عقيدته ايها السيدات والسادة، يحرص كل الحرص على لبنان، ويفتديه كما قامت الشواهد اكثر من مرة بالزكي من دماء شهدائه الابرار.

لأنه يدرك جوهر عقيدته لن يرتضي في لبنان باقل من قيام القلعة الامنع المشعة بانوارها على محيطها كله، قيام الدولة القومية الاجتماعية الاولى التي بها تستطيع هذه الامة أن تباهي العالم.

اعتماد نظام المؤسسات

ايها السيدات والسادة:

في الحزب القومي الاجتماعي لا يمكن ان ينفصل نظام الحركة التي تجسد العقيدة وتعمل لانتصارها عن جوهر هذه العقيدة ذاته. فالنظام الداخلي الذي تسير على قواعده الحركة وتنشط، منبثق من معاني هذه العقيدة المؤمنة بالشعب وكرامة الانسان. ولذلك كانت من اندر الحركات، ولعلها الحركة الوحيدة في هذا الجزء من العالم التي لا تعتمد على الاساس الشخصي في القيادة وممارسة العمل الحزبي، بل تعتمد المؤسسات ذات الصلاحيات الواضحة، وذات العمل المستمر المتكامل مهما تبدل الاشخاص. ومن هنا ان الحزب القومي الاجتماعي لم يتلاش بموت زعيمه، بل كان استشهاد سعاده، عاملا من عوامل رسوخ العقيدة واستعار لهب الايمان ثم العمل المنظم، ضمن مؤسسات الحزب، لنصرة هذا الايمان.

ولقد نشأ الحزب القومي الاجتماعي على أساس تعاقد حقوقي بين صاحب الدعوة الى القومية الاجتماعية مؤسس الحزب وبين المقبلين على الدعوة. وهذا التعاقد الحقوقي هو الذي يحصل كل يوم باداء المنتسب الى الحزب قسم العضوية وهو الذي أسبقه الدستور القومي الاجتماعي بقسم مؤسس الحزب نفسه والتزامه مسؤولية الزعامة ضمن صلاحيات حددها الدستور، فجاءت زعامة سعاده حقوقية ودستورية مقيدة باحكام القوانين الدستورية التي حددت انتقال صلاحيات الزعيم الى المؤسسات الحزبية وفق صلاحياتها التشريعية والتنفيذية.

في نظام الحركة هيكلان من المؤسسات المترابطة ضمن هذا النظام المركزي التسلسلي. مؤسسات منتخبة لها سلطة التشريع ومؤسسات معينة لها سلطة التنفيذ. أما المؤسسات المنتخبة، ففي نظام الحزب أن يمارس العضو في المديرية وهي أصغر وحدة حزبية، لجنة تدعى لجنة المديرية. وفي المنفذيات الجامعة لعدد من المديريات يقضي النظام بان تنتخب لجان المديريات مجلس المنفذية الذي له صلاحيات التشريع في الشؤون المالية المحلية ودراسة اوضاع المنطقة وتقديم المقترحات والمشورة بشأنها. ثم نبلغ المجلس التشريعي الارفع الذي يدعى المجلس الاعلى ينتخبه من نالوا لقب امناء الحركة القومية الاجتماعية، وهو المسؤول عن دراسة مصالح الامة العليا ووضع الخطوط العريضة لسياسة الحزب ومراقبة السلطة التنفيذية في حسن تنفيذ هذه السياسة وسن التشريع وتعديل الدستور الذي يمكن ان يتناول اي مادة منه اذا وافقت على ذلك اكثرية ثلثي المجلس الاعلى.

والمجلس الاعلى بدوره ينتخب كل عامين رئيس الحزب الذي يمارس السلطة التنفيذية، وههنا، في مجال التنفيذ، يبدأ اسلوب التعيين، فيعين رئيس الحزب مساعديه عمدا للداخلية والخارجية والثقافة والاذاعة والمال والاقتصاد والقضاء والدفاع، كما يعين المنفذين العامين على رأس كل منفذية عامة، وكل منفذ عام يختار مساعديه الذين يدعون نظارا، كما يقترح على عمدة الداخلية تعيين المديرين على رأس كل مديرية وكل مدير يختار مساعديه في حقول الاذاعة والمال والتدريب الذين يعينهم المنفذ العام او المرجع المختص وفق الدستور.

هذا النظام التسلسلي المركزي البديع الذي ضمن قيام الحزب على قاعدة المؤسسات، وضعه سعاده في حياته وطبقه في الحزب فنشَّأ القوميين الاجتماعيين على فضائل ممارسة حرية الاختيار داخل الحركة تنشئة ما تزال فاعلة فيهم حتى الان. وهو كما يبدو ابعد الانظمة عن الدكتاتورية التي يظن بعض المواطنين انها من طبيعة الحزب انطلاقا من الالتباس الناشئ عن جمع الزعيم في ابان حياته بين الصلاحيات التشريعية والتنفيذية باعتباره هو صاحب الدعوة ومؤسسها ومعلم الجيل الاقدر على تعيين سياستها وخططها ولا سيما في عهد الحركة الاول، ولم يمنع ذلك سعاده من ان يشرع في حياته في تدريب القوميين على ممارسة العمل ضمن المؤسسات فانشأ معظمها، وبين انظمتها وصحح بنفسه اخطاء الممارسة حتى كتبت له الاقدار ان يتم رسالته ويختتمها بدمه فاستطاع ان يواجه الموت وهو يعلن قرير العين: "انا اموت لاخلد، اما حزبي فباق".

وضمن مؤسسات الحزب يمارس القوميون فضائل الواجب والنظام، ويتمتعون كأعضاء بحق التعبير عن الرأي بأتم حرية في الاجتماعات النظامية وابداء الرأي في شؤون الحزب وخططه السياسية والاقتصادية، مباشرة للمراجع الحزبية العليا او بالتسلسل كما نصت المادة الثامنة من دستور الحزب. كما تمارس المؤسسات، بنوع اخص، فضيلة نقد الذات التي تجعلها في تقييم مستمر لمواقف الحزب، وفي تنقية صادقة له من الضعف والتخاذل ومن الانحراف عن نظرة النهضة الاصلية مما يرافق عادة كل الحركات التاريخية الكبرى. وعن طريق ذلك، وضمن نطاق الدستور تبقى الحركة دائما سليمة في مفاهيمها ومناهجها وتصرفاتها مهما كان الشطط الذي قد يقع فيه بعض الاعضاء.

هذا هو حزبنا، يساري، ثوري، رسولي

ايها السيدات والسادة:

هذا هو الحزب القومي الاجتماعي:

حزب اجتماعي من حيث ارتكازه على الايمان باجتماعية الانسان، رسولي من حيث ايمانه باجتماعية القيم.

مجتمعي من حيث حدود اهتمامه بالمجتمع لا بما وراء الطبيعة.

قومي من حيث ايمانه بتعدد المجتمعات الانسانية ووحدة المجتمع، لا شيوعي ولا عنصري عرقي، ولا طائفي مذهبي، ولا طبقي ولا اقطاعي ولا عشائري ولا عائلي.

ديمقراطي النزعة، مناقبي التعليم.

حزب طليعي في تقدميته القصوى.

مسؤول عن قضية الحرية في العالم، ملزم بحكم عقيدته بنصرة حريات الشعوب كلها التزامه ازاء حرية بلاده ذاتها وشعبه ذاته.

حزب يساري من حيث رفضه الاوضاع الراهنة البالية ومن حيث ثوريته الشاملة المرتكزة على تحكيم العقل في الاخير.

فانما الحزب القومي الاجتماعي هذا كله لأنه قبل كل شيء حزب عقلاني مهتد بقول فيلسوف المعرة :

كذب الظن لا امام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء

وحزب كهذا لابد ان يكون حزب لبنان وحزب الامة، لأن بلادنا كانت وما تزال وستبقى هي بلاد العقل، ورائدها في هذا الاتجاه هو لبنان العاقل المدرك الحصين.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024