إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

بين جيش الخلاص والفـرق النظامية القومية و " الحشد " الذي يقود الى كارثة جديدة

طه غدار

نسخة للطباعة 2015-11-12

إقرأ ايضاً


" إن القوة النظامية مهما كانت صغيرة أفعل بكثير من الجماهير التي لا تجمعها إرادة واحدة في الحياة ونفسية واحدة وبناء مناقبي واحد. إذن نحن نسير في تكوين الجيش الموحد الذي يقاتل بوعي ويعرف كل فرد لماذا يقاتل، فإذا زحفنا يوماً الى فلسطين فلن نكون زاحفين لإسترجاع أرض مقدسة، لا عملاً بإنجيل ولاقرآن أو كتاب حكمة، لن نكون زاحفين لنظهر فئة دينية على فئة مضمرين كل واحد لأخيه غير مايظهر له. ونحن سائرون الى الحرب نسير واعين مدركين إننا سائرون نحو النصر لأمة واحدة، لشعب واحد.

هذه هي طريقنا المختصرة الطويلة . نسير الى الحرب ليس فقط جماعة واحدة من الوجهة الروحية، بل من الوجهة الإجتماعية أيضاً . ليس لننصر إقطاعياً على إقطاعي أو رأسمالي بل لنكسب أرضاً لا يمكن أن نقيم فيها مستعبدين من أنفسنا على أمتنا، نسير محققين إنتصاراً لشعب حر يجتمع تحت علم أمته ودولته في نظام واحد ومجد واحد للجميع". ( خطاب الزعيم للطلبة في الجامعة الأميركانية – 1949.5.16)

الحشد الشعبي، وحدات حماية الشعب الكردية، الحماية الشعبية، قوات الدفاع المدني أو الشعبي، وحدات الشعب الكردي، منظمة بدر، و... و... كلها تسميات جديدة برزت بعد الحرب "العالمية" المعلنة على كيانات الهلال السوري الخصيب في السنوات الخمس المنصرمة، وينضوي تحت لوائها قوى شعبية : طائفية ومذهبية وعشائرية وأثنية.

وكنا قد شهدنا حلَّ الجيش العراقي النظامي من قبل "المحتل" الأميركي عام 2003. وجرت محاولة إعادة بناء جيش جديد بعد الخروج الأميركي – في الخمس سنوات الأخيرة – لكنه بقي محدود القوة العسكرية: تدريبياً وتجهيزاً.. وهكذا انحسر دور الجيش النظامي نتيجة قلة عدده وعديده... وبعد اجتياح بلاد ما بين النهرين من قبل القوى التكفيرية المتهودة، تنادت قوى شعبية محلية للدفاع عن أرضها اتجاه هذه القوى، فبرزت هذه التسميات - الآنفة الذكر – بسبب هذا الواقع الأليم. فأضحت الحاجة ملحة على الأرض لتكاتف الجيش مع شعبه لمواجهة إعصار الحرب المعلنة من قبل هذه القوى. وعلى الرغم من أن حزب "البعث" حكم ما يقارب النصف قرن من الزمن وفي أكبر كيانين سوريين: العراق والشام، فقد عجز عن حلّ المسألة الطائفية والأثنية فيهما. فبقيت البلاد كما كانت في "البراد العثماني" لمدة 400 عاماً من الزمن العثماني البغيض: مذاهب وملل وأعراق وأثنيات و...

إنه الفشل الذريع على المستوى الاجتماعي والقومي العام، الذي لم يوقظ عقول الساسة في بلادنا منذ الإستقلالات الوهمية لكيانات الهلال السوري الخصيب بعد إتفاقية سايكس بيكو السيئة الذكرعلى حقيقة وضعنا الشعبي العام من أجل العمل على كيفية حياكة نسيج اجتماعي واحد لشعب يعيش على أرض واحدة.

وهكذا... سقطت الإدارات "الوطنية" الحاكمة في امتحان المواجهة للقوى الظلامية التكفيرية. فقامت قوات محلية للدفاع عن المناطق. فشهدنا – وبكل أسف – تصاعداً لنغمة المذهبية والعشائرية والأثنية... وتحولت بعض المناطق حكراً على طائفة أو عشيرة، أو قبيلة، أو عرق... إلى ما يمكن أن نطلق عليها مناطق "الحكم الذاتي" لهذه العشيرة أو تلك.

/ الأمن المذهبي والعرقي /

إذن، هكذا نشأت وبحكم الضرورة من قبل سلطة كل "نظام حاكم" سواء في العراق أو الشام، وحدات "منظمة" لتسليح المدنيين وتعبئة الناس، وتنظيمهم وتدريبهم وتسليحهم على عجل على اعتبار أن هؤلاء سيكونون قوات "رديفة" للجيش. وهكذا بوشر العمل في العراق والشام بوضع "الاستراتيجيات" لتسليح "المجتمعات المحلية" وتعبئة وتنظيم وتسليح "للقوى الاجتماعية". وبالتالي تجهيز هذه المناطق ذاتياً لمواجهة الأخطار وبالتالي "تحصين" المناطق أمنياً وعسكرياً وسياسياً، كما زعموا!.

وهكذا شهدنا خلال السنوات الأخيرة تحوُّل في بعض المناطق في الكيانين الشامي والعراقي إلى إدارات محلية، بهدف حماية هذه المناطق من التعديات.

وبحكم الواقع الراهن، لبعض المناطق، التي فيها أكثرية من طائفة أو مذهب أو عرق... واحد، أصبحت هذه المناطق، حكراً على الطائفة الأكثر عدداً... مما أدى إلى تخوُّف "الأقليات" الدينية أو الأثنية المتواجدة فيها من أي اعتداء عليها أو خلافه من الأمور... وكذلك، تصاعدت لقاءات العشائر والقبائل في بعض المناطق ذوداً عن "العُرُضْ" والأرض ودعماً للنظام.

وارتفعت نتيجة ذلك وتيرة التوتر المذهبي والعشائري، وتحركت "النخوة" في نفوسهم، فعاد بعضهم إلى التاريخ القريب أو البعيد ليؤكد على وطنيته وصدقه الوطنيين عبر مواجهته للمعتدين دفاعاً عن نساء القبيلة وأرضها و... فحلت هذه القوى المحلية محل الدولة في تنظيم شؤون الناس... فظهرت "وحدات حماية الشعب الكردية" في مناطق الأكراد الذين باتوا مدفوعين بحكم الواقع بعد نجاح تجربة البرزاني في الحكم الذاتي إلى السير على هذا النهج لإنشاء "الدولة الموعودة" منذ حوالي مئة عام بحجة أنهم ليسوا عرباً. في تجاهل كلي لوحدة الشعب والأرض، ولتاريخ بعض قادتها أمثال يوسف العظمة في وقفته البطولية في ميسلون أمام الاحتلال الفرنسي عام 1920.

واستوحت بعض هذه الجماعات، من تاريخها الماضي من مآثرها الغابرة في مواجهتها للعسكر المستعمر الفرنسي والإنكليزي زمن الانتداب. فساهمت في العمل العسكري ضد العصابات الدولية، مما ساهم في إنقاذ الموقف وتجنُّب الالتحاق بالمشروع اليهودي.

وهكذا أمام زحف القوى الظلامية، واجتياحها لبعض المناطق، أخذ النظام الحاكم في كلا البلدين يستنجد بالقوى الشعبية المحلية، فكانت "الحماية الشعبية في سلمية" و"الحشد الشعبي في السويداء" و"قوات بدر" و"الحشد الشعبي" في العراق و.. و.. كما قام النظام بالاستنجاد بالمفتي والشيخ والمطران ورئيس القبيلة أو العشيرة... فتصدر هؤلاء مواقع "قيادية" في مناطقهم. وتتالت اجتماعات القبائل والعشائر في المناطق "توحيداً" للرأي والموقف تجاه الغازي أو النظام. فكانت تصدر البيانات المتتالية تتويجاً لعمل "وحدوي" لحماية المناطق من العدوان. ونتيجة ذلك عمد سكان كل منطقة إلى تعبئة وتنظيم وتسليح للقوى الاجتماعية وبعضها جهز ذاتياً لمواجهة الأخطار...

/ الأمن الذاتي /

ومع استفحال عمليات الغزو للبلاد، ونشوء هذا الوضع "الشاذ"، تحفزت بعض الجماعات والأثنيات للعمل على إنشاء وحدات مسلحة ومدربة تدريباً حديثاً، فاستعانت ببعض ضباط الجيش ممن ينتمي لها أثنياً أو مذهبياً لتشكل قوة ضاربة في المنطقة، وذات وزن في حسم المعارك التي تخوضها، لتغدو القوة القائدة العسكرية المهيمنة على المنطقة تحقيقاً لمصالحها.

وهكذا برزت وحدات الحماية الشعبية في سلمية والسويداء و... و"عصائب أهل الحق" التي قاتلت داعش في منطقة الأنبار، و"كتائب حزب الله" و"كتائب جند الإمام" و"كتائب الإمام علي" و"سرايا عاشوراء"... قامت هذه الجماعات في كل من الشام والعراق بجهود مكثفة لمواجهة العصابات الدولية. فنجحت في بعض المعارك وأخفقت في أخرى...

ونتج عن فوز تلك الجماعات بمعاركها فرض ما يمكن أن يُطلق عليه "الحكم الذاتي"، أو الأمن الذاتي، وجرى تحويل المناطق التي تقطنها إلى مناطق أمنية وعسكرية. وعمدت هذه الجماعات، لتأمين احتياجاتها اللوجستية والعسكرية، إلى فرض "الجزية" على أبناء هذه المناطق. ونالت بعض "الأقليات" الدينية فيها حصة من نهب لمعابدها وبيوت أبنائها... إضافة إلى إساءات أخرى من تعديات على الناس وممتلكاتهم...

واستغلت جماعات أخرى موالية للنظام الحاكم، فعاثت فساداً رغم عملها "النضالي" كما حدث في عدة مناطق في شام الأمة.

وعمدت الدولة اليهودية للاستفادة من حالة الفوضى القائمة في كلا البلدين، إلى اللعب على الوتر المذهبي أو العرقي في بعض المناطق. كما حاول أحد الساسة في لبنان إثارة النعرة الطائفية في منطقة السويداء ليهيمن على كل الطائفة في بلاد الشام. إذ استطاعت هذه المنطقة تجنيد حوالي عشرة آلاف مقاتل. مما حدا ببعض قادتها الوطنيين إلى الوقوف في وجه هذا السياسي الطائفي المرتهن لمشاريع تقسيمية ورد كيده إلى نحره..

كما إستغلت الولايات المتحدة الأميركانية (قائدة التحالف الدولي ضد داعش!) الأوضاع المأساوية لبعض "الأقليات" المسيحية، فعمدت الى تزويدها بالسلاح والعتاد للدفاع عن نفسها ..... مما زاد المسألة الإجتماعية تعقيداً.

/ " دولة " الطوائف /

وتضافرت الجهود في بلاد ما بين النهرين، بحكم الضرورة، كرد فعل على اجتياح تنظيم داعش للبلاد، ونتيجة فتوى "الجهاد الكفائي" (المرجع السيستاني). فنشأت هيئة الحشد الشعبي وفُتحت الجوامع والحسينيات للتطوع. كما عملت العشائر على تدريب عناصرها استعداداً للذود عن أرضها وعِرْضِها... ويتألف الحشد من 42 فصيل مسلح. وكل فصيل لديه مرجعيته. وتقوم الدولة – بحكم الواقع – بتجهيز هذه الفصائل بالسلاح الخفيف والمتوسط والثقيل. كما تقوم بدور المنسق للخطط العسكرية بين كل هذه الفصائل.

وتجري أحاديث على ألسنة الساسة في بلاد ما بين النهرين على أن الحشد يتألف من كل "مكونات الشعب". وكان المالكي (رئيس الوزراء السابق) قد أشار في حديثٍ له: "إن الحشد ضمان للعراق"... وكأنما يعتبره بديلاً عن الجيش الوطني كون أكثرية الحشد من طائفة معينة؟!..

وتجري اليوم محاولات حثيثة لربط الحشد بالقائد العام للقوات المسلحة، واعتباره جزءاً من مؤسسات الدولة. وتحدث العبادي (رئيس الوزراء الحالي) عن "التلاحم البطولي بين الحشد والقوى الأمنية"!.

إضافة إلى أحاديث عن تكاتف مشهود بين قوى الحشد الشعبي وأبناء العشائر "الغيارى" وقد "نجحوا في طرد داعش من تكريت فصدقوا ما عاهدوا الله عليه فأثابهم بالنصر وأكرمهم برفع بيارق النصر بعون الله". وتحول الحشد بعد تحرير تكريت إلى عامل عسكري فاعل ومؤثر على المستوى الإقليمي لأنه استطاع تغيير المعادلة، فكان – حقاً – "الجيش" الرديف للجيش النظامي.

وإظهاراً لوحدة المصير، اتخذت فصائل في الحشد قراراً بالقتال إلى جانب "الحلفاء الشوام" في المناطق المجاورة للشام. مما دلَّ على وعي "وحدة المعركة" بين العراق والشام ضد العدوان التكفيري المتهود . لكن قوى التحالف العالمية أعلنت أن المناطق الحدودية بين العراق والشام هي منطقة عملياتها العسكرية لتمنع أي تعاون بينهما لمحاربة الإرهاب الدولي!.

في ظل هذا الواقع، فشل البرلمان العراقي في 9 أيلول الماضي في إقرار قانون الحرس الوطني (الحشد الشعبي) بناء لاعتراض ممثلي إحدى الطوائف، خوفاً من استعمال هذه الفصائل في كل منطقة من قبل السياسيين لمصالحهم الذاتية... وقال البعض الآخر "إن القانون يُشّرعِن تقسيم العراق".

/"مقاومة" مذهبية /

وفي لبنان، عجز "حزب الله" عن جمع كلمة كل الشعب حوله في مشروعه المقاوم، وأن يكون له حاضنة شعبية غير أبناء الطائفة الشيعية، إضافة إلى القوى الوطنية والقومية التي كان لها باع في العمل المقاوم. لذلك استمر شعار: ثلاثية الشعب، الجيش، المقاومة ذو مفعول في الكيان اللبناني، ولذلك تتالت هذه الثلاثية في البيانات للحكومات المتعاقبة.

وتشارك فصائل من الحزب في المعارك الدائرة في الشام ضد الإرهابيين. ولطالما أعلن أمينه العام حسن نصر الله استعداد الحزب للقتال في فلسطين في حال تعدت "الدولة اليهودية" على الأراضي اللبنانية...

كما أن للحزب تحالفات مع قوى مقاومة في فلسطين المغتصبة. رغم كل ذلك، لم يخرج الحزب من الشرنقة المذهبية. ولا يختلف الأمر عن أوضاع المقاومة في سوريا الجنوبية منذ اغتصابها، فنشأت أحزاب وحركات مقاومة للاحتلال، إسلامية الطابع، ولم تعِ وحدة الوطن ووحدة المعركة ضد المحتل.

لذلك نجد اليوم "حركة الجهاد الإسلامي" و"حركة حماس". أمام هول هذا الواقع، يتحدث الإعلام في العالم، كما في كياناتنا السورية عن قوى وحركات أثنية أو إسلامية الطابع تواجه المد التكفيري.

وقد اكتسبت بعض المجموعات المقاتلة لهذا المد البربري حجماً على الأرض لدرجة أن الرئيس الروسي بوتين تحدث عن الدور الهام التي تؤديه "القوات الكردية" إلى جانب الجيش الشامي (كلمته أمام منظمة الأمم المتحدة بتاريخ 2015.9.28).

/ فشل "قومي" /

هذا هو الواقع الأليم، الذي نعيشه في هلالنا السوري الخصيب. رغم نشوء الأحزاب الوطنية والقومية، وبعضها تسلّم الحكم في أكبر كيانين من الهلال ولفترة تقارب 45 عاماً عجزت خلالها عن حلّ المسألة الاجتماعية، والهوية القومية تحديداً.

معلوم أنه بعد انتهاء فترة الانتداب الفرنسي – الإنكليزي على الوطن السوري، نشأت أحزاب وطنية وقومية. واستطاع حزب البعث العربي الاشتراكي أن يستلم الحكم في العراق والشام. فتسلَّم والحقُّ يقال "ورثة ثقيلة" على الصعيد الاجتماعي والقومي العام. وما حصل، أن هذا الحزب – بما يتضمنه كلماته الثلاث – "حافظ" على الشروخات والتشققات الحاصلة في كل قطر اجتماعياً. وتغاضى عن هشاشة الوضع الاجتماعي وقابليته للتفتيت، وتماهى مع تغييب لغة المواطنة وانغمس في الكيانية المريضة.

إذن لم يعتنِ بحلِّ المسألتين القومية والاجتماعية ولم يساهم في درسهما!؟ فأضاف إلى إنجازاته "الإشتراكية" في بلاد الرافدين "زحطة" قومية عبر إعطاء الأكراد حق الحكم الذاتي (عام 1974) والتي كانت كارثة على الصعيد القومي العام. ونلفت النظر في هذا المجال إلى مساعدة الدولة اليهودية للأكراد زمن حكم صدام حسين لإنشاء دولة خاصة بهم.

وما زالت بلاد الرافدين – وكل سورية الطبيعية – تترنح تحت وطأة "التركة" العثمانية فالفرنسية والإنكليزية... دون أن تجد الحركات الوطنية حلاً لهذه المسألة الاجتماعية على الصعيد القومي العام.

/ خطة سعادة /

كل ذلك، ما كان ليحصل، لو أخذ شعبنا بخطة أنطون سعاده، التي نادى بها منذ عشرينيات القرن الماضي.

فقد اعتنى سعاده بدراسة أوضاع مجتمعه السوري عناية مميزة. ودرس كافة الأخطار المحدقة به، لاسيما مواجهة "الخطة الصهيونية". فعمل على وضع خطة لنهضة مجتمعه السوري: خطة نظامية دقيقة، بدأ التبشير بها منذ العام 1925. ونجح بصياغتها كاملة عبر إنشاء حزبه عام 1932. وهي الخطة الوحيدة الكفيلة لإعادة بناء المجتمع السوري، وبالتالي بناء الدولة السورية المستقلة على كامل ترابها القومي. وتفرد سعاده في هذا المجال عن غيره من المفكرين بصياغة معنى جديد للأمة "وهو حجر الزاوية للبناء القومي" وبذلك جرى تحديد الهوية القومية لوقف النزف في بلادنا من جراء "الهويات القاتلة".

شرح سعاده في كتابه "نشوء الأمم" معنى المتحد والأمة وحدَّد معناهما بشكل جلي... ووضع أسس النهضة للأمة السورية في أول دستور قومي في العصر الحديث، حدد فيه كل الأسس لإعادة بناء سورية. ويتضمن الدستور كل خطة سعاده للنهوض القومي والاجتماعي. وبالتالي وضع حد فاصل بين عصر وآخر لجهة مواجهة كل الأخطار المحدقة ببلادنا لاسيما الجرثومة السرطانية الخبيثة في جنوبنا السوري.

كما تتضمن خطة سعاده كل شؤون سورية القومية: الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الحربية والاستراتيجية و... والحقيقة المرة، أن أعضاء الحزب لم يعتنوا بدرس دستور "الحياة الجديدة" و"الدولة الجديدة". وعجزوا بالتالي عن المسير على الخطة النظامية الدقيقة التي أرساها صاحب الدعوة ومؤسس النهضة: سعاده. لذلك نشهد منذ استشهاده عام 1949 تخبط الإدارات الحزبية خبط عشواء..!! ويتضح ذلك من أول تعديل دستوري صادر عن أول مجلس أعلى الذي أتى مناقضاً لفكر سعاده الدستوري... وهكذا خرج الحزب عن محوره الطبيعي..!

وسنحصر إهتمامنا ها هنا فيما أورده سعاده في دستوره حول الشأن الحربي بالنظر لما تتعرض له الأمة من خطر يهودي ومخلفاته التكفيرية والظلامية، وأيضاً الخطر الاستعماري الذي ينهب مواردنا القومية. ولطالما تحدث سعاده عن موقع بلادنا الاستراتيجي، لذلك دعانا لأن نكون "أمة محاربة" على كل الجبهات:

1- المادة 4 من الدستور الأساسي: "... أن زعيم الحزب هو قائد قواته الأعلى..".

2- المادة 3 من المرسوم الأول: الإعلان عن مصلحة عامة رئيسية هي عمدة الدفاع (ويتفرد حزبنا بذلك لأنه حزب – دولة).

3- المادة الأولى من المرسوم الثاني: انقسام الحزب إلى قسمين:

أ - مناطق إدارية هي المنفذيات.

ب- فرق نظامية.

يعني ذلك، أنه يوجد في كل منطقة ميليشيا أو قوى شعبية مدربة لحماية المناطق من أي عدوان. وتتبع هذه الفرق نظامياً قيادة الجيش بشكل مباشر، ويقوم بإعداد هذه الفرق مسؤولون من قيادة الجيش، لجهة التدريب والتسليح و... وتكون في حالة جهوزية لمواجهة أي عدوان . وهذا ما توضحه الفقرة التالية.

4- المادة 18 من المرسوم الثاني: موافقة الزعيم على استقالة ناظر التدريب، مما يعني أن علاقته مباشرة بقيادة الجيش القومي.

فيكون الزعيم (أو الرئيس اليوم) قائداً للجيش النظامي والجيش الشعبي. هذا جزء، من خطة سعاده الإنقاذية على الصعيد العسكري الشعبي. فيكون لكل منطقة "حامية" شعبية معقدنة مشكلة من أبناء المنطقة . تحفظ أمنها وسلامة كل أهلها داخل الوطن ليتفرغ الجيش لحفظ الحدود . وبالتالي إنقاذ شعبنا من التجزئة والإنقسامات الأثنية والمذهبية والقبلية... والسهر على الوحدة الإجتماعية والروحية للشعب لبناء الدولة المركزية.

ويوضح ذلك، أنه لو جرى اعتماد خطة سعاده منذ زمن بعيد – من الناحية العسكرية – لكان لدينا "جيش" شعبي معقدن يمتلك عقيدة قومية، جهادية في كل منطقة للذود عنها وعن مؤسساتها المدنية. جيش شعبي موحد بقيادة واحدة.

ولما كان احتاج الأمر للمناداة لإنشاء "حشد شعبي" أو "لجان شعبية" و"قوات دفاع مدني" على أساس طائفي أو مذهبي أو أثني على الشكل القائم حالياً في العراق والشام.

/ تحصين المجتمع /

قصد سعاده تحصين مجتمعه ضد كل المعوقات المادية والروحية ليطلق قواه الحيوية من معاقل الإقطاع السياسي والاقتصادي والثقافي التي غفا فيها لفترة طويلة، وبناء مجتمع متماسك، ودولة قوية بجيشها وشعبها. وذلك لإدراكه موقع بلاده الاستراتيجي، وغنى مواردها الطبيعية. لذلك باشر منذ تأسيس حزبه في بداية الثلاثينات، بإنشاء أجهزة أمنية وعسكرية.

وقد تكشَّف ذلك بعد انكشاف أمر الحزب عام 1935. وجرياً على خطى سعاده، انشأ سعيد تقي الدين في بداية الخمسينات "لجنة كل مواطن خفير".

وشارك القوميون بجدارة عالية في كل المعارك حيثما وجدوا، فكانوا مثالاً في التضحية والجهاد وأسخياء بتقديم كل غالٍٍ مقتدين بزعيمهم.

وخير دليل على ما نقول، أن القوى المذهبية والطائفية مارست خلال فترة الحرب الأهلية المؤسفة في لبنان الذبح على الهوية. فراج بين أبناء الشعب في لبنان المثل الدارج: القوميون فقط مارسوا أعمالاً شريفة بخلاف الأحزاب الطائفية التي مارست القتل على الهوية.

ويتابع القوميون الاجتماعيون اليوم، عملهم القتالي في الشام تحت راية الزوبعة الحمراء، فهم عين الوطن الساهرة وعقله وقلبه. يقومون بالواجب مقدمين التضحيات الغالية من أجل حياة وعزة شعبهم.

إذن، عمد سعاده إلى إنشاء فرق نظامية، مدربة، ومجهّزة بما تيسَّر، إضافة إلى الاهتمام بتثقيف هذه الفرق لتقوم بدور فعّال خلال الأزمات القومية، دعماً للجيش النظامي.

هذه الفرق النظامية التي لحظها سعاده في دستوره، هي نقيض "الحشد الشعبي" الطائفي والأثني والعشائري الذي جُمع كيفما اتفق في ظل الظرف الراهن... هذه الجماهيرية... لن تحصد سوى الكوارث، فهذا سهم آخر من السهام التي يوجهها "أبناء الشعب" إلى نحرهم.

أوضح سعاده في مقالاته وشروحاته، أن عضو الحزب هو بمثابة "الجندي" في كل أعماله . فهو الساهر على أمن المواطن إجتماعياً وإقتصادياً وأمنياً و ... وأنه يتحمل مسؤولية أمن كل أبناء مجتمعه.

ووفقاً لمفهوم سعاده، أن الأمن القومي يعني كل ماهو إجتماعي وإقتصادي و ... وعسكري. فقد رفع سعاده مسؤولية الأمن من جهاز لأجهزة الدولة الى أن يكون مسؤولية قومية عامة. وبدون أمن بكافة نواحيه الإجتماعية أو الإقتصادية أو العسكرية لا حماية للوطن وشعبه. فالدولة القومية مسؤولة عن تأمين السلام الإجتماعي والحفاظ عليه.

/ "الأمة – الجيش" /

وفي هذا المجال، إذا درسنا الظروف التي نشأت فيها "الحركة الصهيونية" وكيفية بناء "الكيبوتز" في جنوبنا السوري منذ نهاية القرن الثامن عشر، وعمليات التدريب للعصابات اليهودية، وعملياتها الأولى لحماية المزارع والمستوطنات خاصتها. ندرك تماماً آفاق الخطة الاستراتيجية التي وضعها سعاده.

ونلفت النظر إلى عمليات التدريب لكل اليهود في العالم التي تقوم بها الدولة العبرية، وكيفية استدعاء الاحتياط دعماً للجيش النظامي في عملياته العسكرية.

"المجتمع" اليهودي، هو مجتمع ذو عقيدة أمنية عسكرية، والدولة هي دولة الجيش. وإن الإلتحاق بالجيش بالنسبة للشباب يمثل "عملاً نبيلاً". والخدمة الإجبارية هي 3 سنوات للشباب، ثم الخدمة السنوية الإحتياطية. ويحصل اليهودي على "المواطنة الإسرائيلية" الكاملة عبر الخدمة في الجيش.

وعملية عسكرة "المجتمع" اليهودي، هي شأن طبيعي منذ ولادة العصابات اليهودية التي كان تعتمد ما أطلق عليه " واجب التطوع " وصار إجبارياً بعد قيام الدولة اليهودية.

وتتجلى هذه العسكرة في كل مؤسسات "المجتمع" والدولة. في مؤسسات التعليم والثقافة، والمؤسسات الإجتماعية والإقتصادية. والقرارات العسكرية ذات تأثير على كل قرارات الدولة. لا سيما أن إنتخاب العسكريين لقيادة الدولة هو أمر حاسم. من هنا قول بن غوريون (أول رئيس وزراء للدولة اليهودية) "كل الأمة هي جيش، وكل الأرض هي جبهة".

هذه الدولة الناشئة على الاغتصاب والعدوان حولت "مجتمعها" إلى "مجتمع حرب" مقابل "حرب المجتمع على نفسه" في هلالنا الخصيب!؟

/ الروح – الجندية /

هذا الواقع الأليم، يرده سعاده الى ظروف أمته في القرون الماضية، فهو يأتي في مقالته " أحزاب سياسية" (1948.4.7) عن سبب فقدان "قواعد القومية الصحيحة" من جراء حالة البلبلة في بلادنا وفقدان "النظم الإجتماعية والسياسية والعسكرية مدة طويلة من الزمن .... فقدت البلاد السورية كلها نظامها الإجتماعي ونظامها العسكري ونظامها السياسي القديم. ومزقتها، من الداخل، الحزبيات الدينية المتعددة وتدخلت في مصيرها، من الخارج، الإرادات الأجنبية المتنوعة والمختلفة....".

نتيجة ذلك ، إستهدف سعاده بناء حزب "عسكري" الطابع لإستنهاضه من كبوة لطالما إستغرق فيها. فالمجتمعات، لا سيما مجتمع كمجتمعنا السوري الذي عمل فيه الإنحلال والفساد لقرون عديدة، يستوجب نظاماًصارماً لإعادة إستيقاظه على حياته ومستقبله . فالقضية التي أستودعها سعاده لأعضائه هي قضية حياة أو موت المجتمع السوري. وهو يعلن في خطابه في جل الديب (1984.2.22) : "ونحن من أجل هذه القضية القومية الإجتماعية نحارب بالفكر ونحارب بالعمل ونقاتل بكل وسيلة . ولذلك نحن جنود لهذه القضية القومية المقدسة، جنود بكل ما في لفظة الجندية من معنى سام جوهري حقيقي.

نحن جنود نصون القضية ونحقق الغاية".

ويتابع في هذا المنحى في مقالته " المثالية الأولى " (1948.6.1) :"جنود عقيدة ونظام وإيمان بالنصر – جنود في كل عمل وكل إختصاص - -جنود في الإدارة وجنود في الإذاعة وجنود في الثقافة وجنود في السياسة. إن الحزب القومي الإجتماعي هو حزب بطولة وصراع وإنتصار".

هذه " الروح الجندية" التي كان سعاده حريصاً على بثها في نفوس الأعضاء الأول خلال فترة التأسيس، غابت عن الحزب خلال فترة إغترابه القسري. لذلك لام سعاده القيادة المنحرفة على فعلها الآثم . فهو يأتي على ذكر " إضمحلال النظام العسكري" خلال غيابه ( من خطابه في المدرسين تموز – آب 1948) ، داعياً لأن نكون " جيش الخلاص " للأمة (كلمته في الحفلة الإجتماعية في الحدث 1949.4.3).

/ الخاتمة /

عانى شعبنا لقرون عديدة نتيجة فقدان وعيه القومي، من إنقسامات طائفية وعرقية، ومازال مستغرقاً فيها لتاريخه. ففقدت بلادنا من جراء ذلك سيادتها وإستقلالها، وفقدت بالتالي دولتها المركزية. وأتت إتفاقية سايكس – بيكو لتزيد الطين بلّة عبر إنشاء كيانات هشه هي بمثابة "إدارات محلية" للدول الناهبة لمواردنا القومية.

وبعد مائة عام من هذه الإتفاقية المشؤومة بحق وطننا، تخطط هذه الدول لأنظمة فدرالية على الصعيدين الأقليمي والإجتماعي . والظروف الحالية لبلادنا اليوم تنذر بالسير قدماً في هذا الإتجاه.

نتيجة هذه الإنقسامات الحادة على الصعيد الإجتماعي، إستطاعت العصابات اليهودية عام 1948 من تحقيق إنجاز قيام الدولة اليهودية بعدما إنتصرت على الجيوش الكيانية و"جيش الإنقاذ" .... هذه الجيوش الفاقدة للوحدة الروحية والإجتماعية .... فكانت الكارثة...!

وسنشهد اليوم من جراء واقعنا الإنقسامي على الصعيدين الإجتماعي والسياسي ... كارثة أخرى!

باكراً دعا سعاده شعبه السوري للأخذ بخطته التي هي طريق الإنقاذ الوحيدة للقضاء على خطط "الصهيونية" والقوى الإستعمارية المتكالبة على سرقة مواردنا القومية....

إما أن نبقى قابعين في " قبر التاريخ " ... أو نجد لنا مكاناً تحت الشمس ...!

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024