المجتمع معرفة والمعرفة قوة تعوض ضعف العدد، والجهل هو أساس الضعف والتخلف اللذين يعوضان عن الانتصار بالفشل.
إن الجهل والضعف الذي ساد المجتمات السورية في العراق وفي كل كيان آخر وفي العالم العربي أيضا، كان مصدره الرئيسي التركيز على النظام الديني الدنيوي الغيرعملي ونبذ العلمانية نبذا تاما. وبقي هكذا حتى في الايام الحديثة. ولكن في تركيا تغير ذلك الوضع الديني الدنيوي لما صعد مصطفي كمال (أتاترك) الى سدة الحكم وألغى نظام الخلافة الديني الإسلامي ووجه البلاد نحو التطور في كافة مجالات العلم والصناعة والتجارة.
الجهل والتخلف في المجتمعات العربية عامة والسورية خاصة، أبقتنا أجيالا طويلة عاجزين عن حكم أنفسنا بأنفسنا ودفعتنا إلى التطلع دائما إلى الخارج، ليقرر المستعمرون مصيرنا القومي الاجتماعي السياسي الاقتصادي، حتى اليوم في القرن الواحد والعشرين، ما زلنا نتطلع إلى الخارج باتجاه أوروبا وأمريكا وإلى إجتماعات القمة العربية أيضا، من الرباط إلى الخرطوم وأخيرا إلى الرياض، لتأتينا بالحل أو الحلول لمشاكلنا التي خلقناها نحن بأيدينا من جهلنا وتعنتنا الديني السياسي، في فلسطين ولبنان (وسورية) والشام والعراق.
هذه هي بعض مظاهر الأمور المصيرية المأساوية التي دفعت سعادة لوضع المبادئ السورية القومية الاجتماعية لتخليص شعبنا من ويلات الحروب الطائفية والتحزبات المحلية الضيقة، وأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي في 16 تشرين الثاني سنة 1932, لوضعها في حيّز التنفيذ لنشر التعاليم القومية الاجتماعية بين كافة أبناء الشعب السوري، متخطيا بذلك الحدود الكيانية المصطنعة والحواجز الطائفية العميقة الجذور، وداعيا إلى فصل الدين عن الدولة لتنزيه الدين عن السياسة ليكون رجل الدين هو رجل الله على الأرض، ويكون رجل السياسة هو الخادم الأمين لمصلحة الوطن ورفاهية المواطن.
ومن الواضح تماما أن تكون مثيدولوجية العمل الحزبي على جانب كبير من الأهمية في نشر التعاليم القومية الاجتماعية بين أبناء الشعب على مختلف طوائفه وفئاته وأقلياته، لصهر كل هذه التناقضات الطائفية والسياسية في بوتقة وطنية واحدة ليزول، إلى الأبد، الخوف على مستقبل الطوائف وعلى مستقبل الأقليات الطائفية الأتنية، في كافة ربوع الوطن. ومن الواضح أيضا أن فصل العمل العقائدي عن العمل السياسي هو محاولة للتصفـيـق بكـف واحدة. ولذلك لن يكون النجاح مرطبطا بأي منهما, بل يتوقف النجاح على العمل العقائدي السياسي الموحد الذي لا يتجزأ.
العمل السياسي يبدأ بتغليب فئة على فئة ولا ينتهي بهدر قوة المجتمع الاجتماعية والاقتصادية بين الفئتين المتنازعتين على البقاء، بل يتخطاهما إلى صراع عنيف لن يحقق شيئا من الأهداف المرسومة للصعود من قمة عالية إلى قمم أعلى.
والعمل العقائدي وحده لا يمكن أن يتطور ليعمّ كل فئات الشعب، بل يبقى محصورا بين دفات الكتب أو دفة كتاب.
والعمل الحزبي القومي بدون عقيدة يشبه السفينة في عرض البحر بدون دفة وبدون سارٍ يتحكم بتثبيت الشراع لاستخدام هبوب الريح لتسير بالاتجاه المقصود.
إن معرفة العقيدة الأساسية – سورية للسوريين والسوريون أمة تامة وفصل الدين عن الدولة، لا تكفي لبناء مجتمع جديد واع متطور يرقى إلى سوية الأمم المتقدمة.
وهذا بعض ما قاله سعادة وشدد عليه في مطلع المحاضرة الأولى:
"إن النهضة لها مدلول واضح عندنا وهو ، خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد الى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية, الى نظرة جميلة ، قوية ، الى الحياة والعالم. إذا وصلنا الى الاقتناع بأننا أصبحنا ننظر الى الحياة والى الكون الماثل أمامنا والى الخلق الذي ينبثق منا بالنسبة الى الإمكانيات كلها في العالم ونستعرض مظاهرها ونفهم كل ذلك فهما داخليا ، بنظر أصلي ينبثق منا نحن بالنظر لحقيقتنا ، حينئذ يمكننا القول أن لنا أهدافا ".
ولن ينتج هذا الفهم وهذه المعرفة ثمارا كثيرة، بالإهمال والتمنيات، بل بالأفعال المنظمة المدروسة والمخطط لها مسبقا والمبنية على الخبرات والاختبارات العلمية والتاريخية. إن تجاهل أمر الندوة الثفافية والتمرّس في المتاهات السياسية يبعدنا عن حقيقة نضالنا لتحقيق مجتمع متقدم واع ٍ ويرمينا في مواجهة المواقف الآنية وردات الفعل العاطفية ويلتبس علينا معنى النهضة ونضيع في تضارب عقائد الآخرين. ويقول سعادة في معنى النهضة في مطلع المحاضرة الأولى أيضا:
" النهضة، إذا، هي الخروج من التفسخ والتضارب والشك الى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة. هذا هو معنى النهضة لنا".
" هذا المعنى ظهر طابعه في بداية العمل السوري القومي الاجتماعي ويظهر ضمن وثائق متعددة أهمها وأولها خطاب الزعيم في أول حزيران سنة 1935، الذي عبر فيه عن قواعد أساسية هامة وعن أهداف عملية يتوخى الحزب إصابتها والتمكن منها ".
"وقد فهم الناظرون، من خارج الحزب الى ذلك الخطاب، قيمته العقدية والتوجيهية وتعبيره عن نظرة الحزب ونهضته، وعدّوه الوثيقة الأساسية لدرس حقيقة الحزب السوري القومي الاجتماعي ومراميه وكتبوا في ذلك".
إن الذين لا يقيمون وزنا لخطاب الزعيم في أول حزيران، سنة 1935، الوارد في مطلع المحاضرة الثانية، ولا يعملون على أساس الخطوط العقائدية العريضة فيه، ويندرجون في أعمال يعتبرونها أعمالا عقائدية فذّة ، هم الذين تمرّ المفاهيم العقائدية الثورية المتقدمة فوق رؤوسهم، لا يفهمونها ويعتبرونها فتنة (Dissension) أو معارضة أو مدعاة للشقاق، ويسارعون إلى إقصائها عن مسامعهم وإلى حجبها عن بصرهم وبصائرهم، بدل التمعّن بها ودرس مراميها الكبار ليستنيروا بهديها في معالجة الأزمات المصطنعة المستعصية، ليس علينا فقط، بل على عدد كبير من زعماء العالم أيضا.
|