إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

نزوع الاستراتيجيات الجديدة في القرن 21 إلى نهج الابتزاز عوضاً عن التحاور الموضوعي

ميشيل حنا الحاج - البناء

نسخة للطباعة 2016-06-03

إقرأ ايضاً


في أغلب الأحيان، في الماضي البعيد والقريب، لكن ليس القريب جداً، ظلّ الحوار الموضوعي هو نهج الاستراتيجيات في حلّ الخلافات بين الدول، مع احتمالات اللجوء الى استخدام الخداع أحياناً. فالدبلوماسية غالباً ما تفسّر بأنها مدرسة الخداع والتضليل. غير أنّ تلك الاستراتيجيات، أخذت في الزمن القريب جداً، وخاصة منذ العقد الثاني من هذا القرن، تتجه الى اضافة نهج الابتزاز وما قد يرافقه من استفزاز، الى نهج الحوار وما يتضمّنه الحوار من عمليات خداع دبلوماسية.

ومن أبرز عمليات الخداع في الدبلوماسية القديمة، كان الاتفاق على التحكيم في الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. وقضية أبو موسى الأشعري ما زالت تتردّد في التاريخ كمثل على نهج الخداع في التفاوض والحوار بين طرفين متصارعين.

والخداع لم يستخدم فحسب في القضايا السياسية، اذ استخدم أيضاً، بل غالباً، في التخطيط العسكري. وأبرز مثال عليه، توجيه أنظار مخابرات ألمانيا النازية لكون الإنزال العسكري لقوات التحالف على الأراضي الأوروبية في مرحلة الحرب العالمية الثانية، سوف يتمّ على شواطئ كاليه الفرنسية، واذا به يتمّ على شواطئ نورماندي، مما فاجأ الألمان وساعد على هزيمة هتلر في تلك الحرب، دون إنكار دور الاتحاد السوفياتي الواضح والحاسم فيها.

فالخداع معروف سياسياً وعسكرياً، وكان يمثل أقصى ما قد تذهب اليه الدبلوماسية في حواراتها لفضّ خلافات بين دولتين أو أكثر. أما الآن، فقد أضيف الى مدرسة الدبلوماسية نهج الابتزاز والاستفزاز، وخصوصاً نهج الابتزاز بالذات، كوسيلة للضغط وللوصول الى ما ترغب دولة ما في الحصول عليه وتحقيقه. وربما مورس أسلوب الابتزار في سوابق الدبلوماسية عبر التاريخ، مع أنه لم يرد له ذكر واضح في كتاب «الأمير» الذي أباح استخدام كلّ الوسائل لتحقيق الهدف المبتغى. فالغاية تبرّر الوسيلة.

لكن منذ بداية هذا القرن الجديد، وخصوصاً في العقد الثاني منه، بات الابتزاز ظاهرة واضحة جداً ومعتمدة في نهج الدبلوماسية والاستراتيجيات الحديثة.

ولا أودّ الخوض طويلاً في تفصيلات ذاك التوجه، مكتفياً بتعداد أمثلة على انتهاج الابتزاز كوسيلة لفرض مطالب صاحبها على الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى. ولم تكن المملكة السعودية هي الدولة الوحيدة التي لجأت مؤخرا لنهج الابتزاز السياسي لتحقيق أهداف تسعى اليها. اذ سارت قبلها على خطى الابتزاز السياسي كلّ من «إسرائيل»، تركيا، قطر، اضافة الى بعض عمليات الابتزاز الأميركية التي تدور في فلك ممارسة الضغط السياسي والعسكري لتحقيق أهداف خاصة بالولايات المتحدة:

1 ـ «إسرائيل» لم تكتف بعدم الانصياع فحسب لقرار مجلس الأمن رقم 242 الداعي للانسحاب الاسرائيلي الى الخطوط التي كانت تفصلها عن الدول العربية في السادس من حزيران 1967، بل سعت للمماطلة وعلى مدى من الزمن يقترب من نصف قرن، في المفاوضات الجارية والخاصة بتنفيذ ذاك الانسحاب الذي افترض فيه أن يتمّ استجابة لقرار مجلس الأمن، دون حاجة إلى مفاوضات أو ما يحزنون.

استفزاز «إسرائيلي» دائم

فعلى مدى السنوات العشر الأخيرة، تدخل «إسرائيل» مرة تلو الأخرى، في مفاوضات مع الجانب الفلسطيني وموضوعها الانسحاب «الاسرائيلي»، وتشكيل دولة فلسطينية على الأراضي التي تنسحب منها «اسرائيل»، وذلك استجابة لقرار أممي آخر يقضي بحلّ الدولتين كحلّ للقضية الفلسطينية التي باتت مستعصية على الحلّ، نتيجة الدهاء الاسرائيلي المقترن بنهج الابتزاز. فـ»إسرائيل» أخذت تلجأ للمماطلة والتسويف وإطالة أمد التفاوض. وقد يكون ذلك في حدود ما تأذن به ذمة الدبلوماسية المعتادة، الى أن يواكبه دون تمهيد نوع من الابتزاز، بالإعلان فجأة، وخلال مرحلة التفاوض، عن قرارها بإنشاء مستوطنات جديدة، اما داخل منطقة القدس الشرقية العربية، أو في عمق أراضي الضفة الغربية التي تجري المفاوضات حول الانسحاب منها. وهي تتعمّد توقيت ذاك الإعلان المستفز والمتناقض مع أهداف المفاوضات، وهي الانسحاب من الأراضي المحتلة لا تعزيز التواجد فيها ببناء مزيد من المستوطنات والتجمعات السكنية لايواء الاسرائيليين فيها… إدراكاً منها بأنّ رد الفعل الفلسطيني الفوري، سيكون الرفض للقرار المستفزّ، والانسحاب من تلك المفاوضات. وبذلك تلقي عبء فشل المفاوضات على الجانب الفلسطيني، لا على «إسرائيل» التي ابتزت، بل واستفزت الجانب الفلسطيني بتوقيت الإعلان عن ذاك القرار.

والاستفزاز الاسرائيلي لم تتوقف ممارسته في مواجهة الفلسطينيين فحسب، اذ تجاسر نتنياهو على الإقدام على ابتزاز الرئيس الأميركي باراك أوباما. وقد ساد أيضاً عندما وجه الرئيس الأميركي اللوم مراراً إلى «إسرائيل» نتيجة سعيها لامتداد فترة المفاوضات مع الفلسطينيين والحيلولة دون التوصل الى حلّ على أساس الدولتين. ووصل الخلاف بين الطرفين مرحلة تبادل الاتهامات بشكل علني، والتي زاد في حرارتها التوجه الأميركي للتوافق مع إيران حول ملفها النووي، وهو الاتفاق الذي تخشاه «إسرائيل» كثيراً.

ورغبة من نتنياهو في إسماع الأميركيين صوته المعارض لللاتفاق النووي مع إيران، وإزاء عدم تلقيه دعوة من الرئيس الأميركي لزيارة أميركا حينها، قام نتنياهو بخطوة كان فيها الكثير من التحدّي والاستفزاز والابتزاز للرئيس الأميركي. اذ أنه بالتعاون مع جمعية Aipack، وهي تجمع أميركي اسرائيلي يهودي ناشط جداً وقوي جداً في أميركا، تلقى دعوة منهم لزيارة أميركا ولالقاء خطبة أمام الكونغرس يطرح فيها مساوئ الاتفاق الأميركي الايراني حول ملف إيران النووي. وشكل ذلك استفزازاً آخر للرئيس أوباما، زاد طينه بلة، أنه عندما قام الرئيس الأميركي بتوجيه دعوة لنتنياهو لزيارة أميركا والالتقاء بأوباما، وحدد موعد للزيارة، قام نتياهو بعملية استفزاز أخرى للرئيس الأميركي، بإعلانه المفاجئ عن تأجيل الزيارة في الأيام الأخيرة التي سبقت موعد التنفيذ، ساعياً إلى توجيه إهانة للرئيس الأميركي.

وازاء فتور العلاقة بين إسرائيل وأميركا، في عهد أوباما على الأقلّ، لجأ نتانياهو الى استفزاز آخر بالتوجه الى روسيا بغية الالتقاء بالرئيس بوتين. ولكنه كان يحمل في جعبته السعي للحصول على صفقة ما مع روسيا، تتمثل بالحصول على اعترافها بالجولان كـ»جزء من إسرائيل» لا يمكن الغاؤه. وجاء الاستفزاز الاسرائيلي من خلال طرح أراد تقديمه للروس، ومضمونه: «اعترفوا بضمّي الجولان لإسرائيل، أعترف بضمّكم لشبه جزيرة القرم لروسيا». وبطبيعة الحال خاب أمل رئيس الوزراء الاسرائيلي. فالجولان طالما كانت أرضاً سورية أباً عن جدّ، ولم تكن ولن تكون «إسرائيلية» في أّ يوم. وكذلك شبه جزيرة القرم، فهي أرض روسية أباً عن جدّ، تنازلت روسيا عنها لأوكرانيا، حين كانت أوكرانيا وروسيا منضويتان تحت جناح دولة واحدة هي الاتحاد السوفياتي. أما وقد تفكك الاتحاد السوفياتي، فالمبرّر لبقائها تحت الجناح الأوكراني، خصوصاً وقد استقلّ بسلوكه وبنهجه المعادي لروسيا، لم يعد متوفراً، فاستردّتها روسيا باعتبار أنّ ذلك يشكل عودة الفرع الى الأصل. أما الجولان فلم يكن قط فرعاً من اسرائيل التي لم تكن أصلاً موجودة على الخارطة الجغرافية قبل 67 عاماً من الزمان.

الاستفزاز التركي…!

2 ـ تركيا ليست أقلّ من «إسرائيل» في استخدام الاستفزاز والابتزاز كجزء من نهج في استراتيجيتها. وقد سلكت نهجا في مواجهة حليفتها أميركا، يمكن وصفه بالضغط السياسي ويندر اللجوء اليه بين حليفين. اذ رفضت لمدة طويلة، ورغم توسلات أوباما المتكرّرة، أن تأذن للولايات المتحدة، شريكها في حلف الأطلسي، باستخدام قاعدة انجرليك لتنطلق منها الطائرات الأميركية المغيرة على الدولة الاسلامية التي كانت تحاصر كوباني – المدينة الكردية. بل ولم تسمح للولايات المتحدة بتزويد المحاصرين الأكراد بالذخيرة وبالسلاح والغذاء والاحتياجات الضرورية لمعالجة الجرحى. وفسّر أردوغان رفضه، بأنّ أكراد كوباني متحالفون مع أكراد تركيا الذين يقاتلون الحكومة التركية، كما مارسه في مسعى لابتزاز أميركا بغية موافقتها على إيجاد منطقة عازلة بين تركيا وسورية، على الأراضي السورية وبعرض أربعين كيلومتراً، وهو ما لم يوافق عليه الرئيس الأميركي. ورداً منه على الابتزاز التركي، قام بتزويد أكراد كوباني باحتياجاتهم من السلاح والذخيرة، مستخدماً طائرات النقل التي أقلعت من مطارات في المانيا وفي كردستان، مروراً بالأجواء العراقية، وصولاً الى كوباني، حيث ألقت لهم باثنين وعشرين طرداً مليئاً باحتياجاتهم الضرورية التي ساعدتهم على الصمود في وجه «الدولة الاسلامية ـ داع».

وازاء إصرار تركيا على إنشاء المنطقة العازلة داخل الأراضي السورية، وبعد ثلاث سنوات من الأخذ والردّ مع تركيا التي وعدت مراراً بإغلاق حدودها في وجه مرور الأسلحة والمسلحين سواء المنتمين للمعارضة الاسلامية المعتدلة أو المتشدّدة، كـ»الدولة الاسلامية ـ داعش» و»جبهة النصرة»، ولكن دون إغلاقها فعلاً… لجأت الولايات المتحدة الى إيجاد منطقة عازلة بشكل تدريجي، ولكن ليس تحت إشراف الجيش التركي، بل بإشراف من قوات سورية الديمقراطية، ومعظمهم من الأكراد، الذين بدأوا يسيطرون تدريجياً على المناطق الواقعة في الشمال السوري المحاذي للحدود مع تركيا. ولأنّ مرور هؤلاء عبر الحدود التركية في طريقهم الى شمال سورية، غالباً ما كان يتعرّض لكمائن من «جبهة النصرة» التي يرجّح بأنّ المعلومات عن زمان ومكان مرورهم كانت تصلهم من تركيا، مما كان يؤدّي الى مقتل بعضهم وأسر آخرين ومصادرة الأسلحة التي كانت معهم ، فقد عدلت الولايات المتحدة عن ذاك النهج، وأعدّت قاعدة لها في الشمال التركي قريبة من منطقة كوباني، كما استصلحت مطاراً لها في منطقة رميلات ووسعت مدرجه من 700 الى 1300 متر، لتتمكن الطائرات الأميركية الكبيرة من الهبوط فيه، وتنقل بطائراتها السلاح والقوات التي انتهى تدريبها، إضافة الى نقل الجنود الأميركيين الموصوفون بالخبراء العسكريين لغايات التدريب، مما يعني إنشاء منطقة عازلة تدريجياً، ولكن بإشراف أميركي كردي، وليس بإشراف تركي… وربما بمباركة روسية. فكأنّ ذلك هو ما سمّي بالخطة ب الأميركية. والآن جاء ردّ تركي على تلك الخطوة، بالسعي لإنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، تمتدّ من مدينة اعزاز الى جرابلس، بذريعة تفادي القذائف التي تطلقها «داعش» يومياً ذات العلاقة المشبوهة بتركيا على مدينة كلس التركية.

تركيا تبتزّ أوروبا أيضاً

ولكن الابتزاز التركي لم يتوقف عند ابتزاز أميركا فحسب، اذ امتدّ ليشمل ابتزاز الدول الأوروبية، أيضاً مستخدمة قضية اللاجئين السوريين في هذا الابتزاز. اذ فتحت موانئها للاجئين، للرحيل من خلالها الى الدول الأوروبية وخصوصاً الى اليونان التي تقابل شواطئها الشواطىء التركية. وهذا أدّى الى أزمة كبرى واجهتها الدول الأوروبية نتيجة وصول عدد اللاجئين إلى ما يقارب المليونين، ذهب منهم مليون الى ألمانيا وحدها. وهنا ظهرت اتجاهات لدى بعض الدول لإغلاق حدودها في وجه اللاجئين، بينما طالبت دول أخرى بإلغاء اتفاقية «شنغن» التي يمنح حاملها تأشيرة تسمح له بالتنقل بين كلّ الدول الأوروبية.

وهنا دخلت الدول الأوروبية في محادثات مع تركيا، للحدّ من تدفق اللاجئين. وعندما تعذّر الحدّ من ذلك، طالبت تلك الدول، وخصوصاً اليونان، بأن يؤذن لها بأن يعيدوا الى تركيا اللاجئين الذين لا يحملون الأوراق القانونية أو لا تقبل طلبات لجوئهم. وهنا أيضاً بدأت الشروط التركية تترى لتقبل ذلك الطلب.

فاإعانات المالية الخاصة بالتعامل مع اللاجئين في تركيا، يجب أن ترفع من ثلاثة مليارات الى ستة مليارات يورو. وكان ذلك مقبولاً من الدول الأوروبية. ولكن جاء طلب تركي آخر، يحث دول الاتحاد الأوروبي على الإسراع في تقبّل تركيا عضواً فيه، وهو الطلب الذي تقدّمت به تركيا للاتحاد منذ زمن بعيد، لكن الدول الأوروبية لم تتقبّله بعد نظراً لعدم استيفاء تركيا لشروط الانضمام للاتحاد ومنها الأسس الديمقراطية ومراعاة حقوق الإنسان. وهكذا طرحت هنا تركيا طلباً آخر يمكن وصفه بالابتزازي الواضح، خصوصاً وقد رافقه تهديد أو أكثر، وهو السماح للمواطنين الأتراك بالقدوم الى الدول الأوروبية بدون تأشيرة من دولها. وهذا طلب لم يكن في وسع الدول الأوروبية أن تقبله حتى الآن، لإدراكها مدى المخاطر التي قد تنشأ عنه.

اذ من المتوقع أن يتدفق مليون تركي على الدول الأوروبية في الأشهر الثلاثة الأولى من إلغاء قوانين حاجة التركي لتأشيرة دخول للدول الأوروبية، أيّ إلغاء حاجة التركي لتأشيرة شنغن التي يتوجب أن توافق على منحها للمواطن القادم لزيارة أوروبا، سواء كان تركياً أو من دول أخرى، كلّ الدول الأوروبية المنضوية تحت جناح الاتحاد. فبعض الدول الأوروبية لها اعتراضاتها على ذلك، لما يحمله من احتمال تدفق الأتراك على أوروبا بمخاطر تشبه خطر تدفق اللاجئين السوريين. فقد يندسّ بينهم بعض المنتمين للمنظمات الإرهابية. وتواجدهم سيرفع نسبة البطالة في بعض الدول، كما أنهم قادمون من دولة حكومتها تنتمي إلى حزب إسلامي الاتجاه ويرتبط بأحزاب مشابهة، وقدّم الدعم التسليحي لتنظيمات إسلامية بعضها من التنظيمات المصنّفة إرهابية.

فمراقبتهم أمنياً تضيف عبئاً على تلك الدول، يضاف الى العبء الأمني الذي تعاني منه من مراقبة المقيمين أصلاً فيها من المنتمين للإسلام تخوّفاً من كون بعضهم يحمل أفكاراً متطرفة. وهذا يجعل من الصعب على عدد من الدول الأوروبية الموافقة على إلغاء الحاجة للتأشيرة المسبقة التي يحتاجها التركي للدخول الى أوروبا. ومع ذلك تصرّ الحكومة التركية على مطلبها ذاك، معلنة عزمها العدول عن الاتفاق مع الدول الأوروبية الخاص باللاجئين، سواء من حيث تدفقهم أو تقبل إعادة بعضهم، اذا لم تستجب الدول الأوروبية لمطلبها بإلغاء حاجة الأتراك لتأشيرة الدخول. وهذا فيه ما فيه من ابتزاز واضح للدول الأوروبية.

قطر والسعودية… الدور المشبوه!

3 ـ عندما قدّمت دولة قطر لسورية مشروعاً يأذن لها بمدّ أنابيب عبر الأراضي السورية، ومنها الى تركيا، لتصدير الغاز القطري الى الدول الأوروبية والعالم، ورفضت سورية ذلك المشروع، تفجّرت فجأة وبدون تمهيد، وبدون سعي قطري لإقناع سورية بمشروعها بطرق ودية وتفاوضية… حركة تظاهرات سرعان ما تحوّلت الى حركة مسلحة تزوّدها قطر بالمال والسلاح والمقاتلين، كما اعترف بذلك رئيس وزراء قطر آنذاك حمد بن جاسم. وهذا السلوك تسبّب بزهق أرواح ربع مليون مواطن سوري، كما شرّد أكثر من ثمانية ملايين منهم. وفي ذلك استفزاز وابتزاز غير مبرّر لفرض إرادة طرف بأسلوب فوقي على طرف آخر يتمتع بالاستقلال المعترف به من الدولة المبتزة، والعضو في مجتمع الدول المستقلة.

4 ـ تسعى السعودية لتأكيد دورها كقائدة للعالم الإسلامي وليس لمجتمع الدول ذات الأغلبية السنية فحسب. ولا أحد ينازعها على سعيها لقيادة الدول الإسلامية ذات الأغلبية السنية، رغم وجود دول إسلامية أكبر منها حجماً من حيث المساحة، ومن حيث كمّ السكان، كأندونيسيا وباكستان وتركيا ومصر. ولكن أياً منها لا يملك الكمّ المالي الذي تملكه السعودية من عائداتها النفطية، مما يجعلها غير قادرة على منافستها، والسعي لقيادة مجتمع الدول السنية. فعنصر القدرة المالية موجود فحسب لدى السعودية وليس لدى الدول الإسلامية الأخرى.

على كلّ حال من حق السعودية أن تستثمر عائداتها النفطية في السعي لقيادة العالم الإسلامي سواء كان السني وحده او الإسلامي بكافة أطيافه، ولا يستطيع أحد أنّ يصف مسعاها، مستغلة تفوّقها المالي النفطي، بأنه نوع من الابتزاز. فاستخدام عناصر القوة العسكرية او المالية، عنصر هامّ في لعبة الدبلوماسية، رغم أنه يؤدّي أحياناً الى إنشاء تحالفات هشة قد لا تصمد طويلاً، وقد تفرز كوارث إنسانية كما يحدث في اليمن وفي سورية.

ولكن هناك مسلكاً هاماً لوّحت به السعودية مؤخراً، رغم محاولاتها لاحقاً نفيه أو تجميله، وذلك عندما تواردت تقارير عن توجه الكونغرس الأميركي لإصدار تشريع يأذن لضحايا الحادي عشر من أيلول 2001، بإقامة دعاوى قضائية على بعض المسؤولين السعوديين الذين ربما… وأركز على ربما، ساهموا في تمويل تلك العملية الكبرى في التاريخ الحديث. ففي هذه المرحلة، ظهر الغضب السعودي الشديد الذي عبّر عنه بعض الرسميين مهدّدين بسحب مئات المليارات من الدولارات السعودية المودعة في البنوك الأميركية، وإلغاء العديد من الاستثمارات السعودية فيها، مما كان يهدّد بانهيار اقتصادي في الولايات المتحدة بكاملها.

واذا أردنا أن نكون موضوعيين في محاسبتنا للموقف السعودي الذي هدّد وتوعّد، فلا بدّ أن نصفه، رغم التراجع النسبي الذي ورد لاحقاً، بأنه كان ينطوي على ممارسة استراتيجية الاستفزاز بل والابتزاز بكلّ معنى الكلمة، مع الاعتذار للاخوة المواطنين في السعودية ، لأنه كان الجدير بالمسؤولين فيها، أن يعربوا في موقف كهذا، لا عن استعدادهم فحسب للتعويض على ورثة المتضرّرين اذا ما ثبت مشاركة أو اضطلاع بعض المسؤولين عما جرى في الحادي عشر من أيلول 2001، بل أن يعلنوا أيضاً عن استعدادهم لتسليمهم للقضاء الدولي، لمحاكمتهم على ارتكاب جريمة قد توصف بأنها جريمة ضدّ الإنسانية، حيث قتل في تلك المجزرة أكثر من ثلاثة آلاف أنسان، لكنها لم تفعل ذلك، بل لجأ بعض المسؤولين فيها الى التهديد، رغم العدول لاحقاً عن ذلك التهديد… علماً أنّ التحقيق في حينه، قد أكد أنّ 15 من المهاجمين والضالعين في الهجوم، كانوا سعوديين فعلاً، ولكن حرصاً على سلامة العلاقة السعودية الأميركية، فقد أمر عندئذ الرئيس جورج بوش الابن بعدم نشر مضمون ذاك التحقيق، والاحتفاظ به في سراديب البنتاغون. وعندما وصل الرئيس أوباما الى سدة الرئاسة، كرّر تأكيده وجوب الاحتفاظ بمضمون ذاك التحقيق سراً، فلم يأذن بالاطلاع عليه الا لعضوين في الكونغرس. كلّ ما في الأمر، أنّ معلومات جديدة قد ظهرت الآن، اقتضت طرح الموضوع مجدّداً على الكونغرس.

ومع ذلك، ورغبة في سلوك الموضوعية المطلقة، فلا بدّ من القول أنه اذا ما وصل الأمر الى حدّ إقرار قانون أميركي يجيز لورثة المتضرّرين بالمطالبة بالتعويضات، فإنّ الأمر لا يجوز أن يقتصر على مطالبة السعودية بذلك، بل ينبغي أن يمتدّ الأمر لمطالبة كلّ المسؤولين عن تلك الكارثة، سواء بالمشاركة في التخطيط من المنتسبين للحكومة الاسرائيلية، أو بإهمال اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة من المسؤولين في الحكومة الأميركية، وخصوصاً المنتمين منهم إلى «سي أي آي».

فهناك مؤشرات كثيرة توحي بأنّ «إسرائيل» إنْ لم تكن قد ساهمت بالتخطيط لتلك العملية، فقد سهّلت التنفيذ، ولم تتدخل لإنذار الولايات المتحدة بما يخطط ضدّها، مع أنّ جهات في «الموساد الاسرائيلي» قد أنذرت عدة مئات من اليهود العاملين في مؤسسات ناشطة داخل البرجين المستهدفين بالهجوم، مطالبين إياهم بالتغيّب في ذلك اليوم المحدّد عن العمل في البرجين. وقد تغيّب قرابة الألفي يهودي عن مباشرة عملهم في ذلك اليوم بالذات، فلم يداوم منهم الا ستة فقط لم يصلهم الإنذار بوجوب عدم الذهاب للعمل في البرجين في ذاك اليوم بالذات. بل وكانت هناك كاميرا «إسرائيلية» متواجدة في موقع البرجين قبل وقوع الحادثة بساعة أو ساعتين، وصوّرت كامل عملية التفجير منذ لحظات بدايتها، وقد تواجدت في الموقع قبل وصول كاميرات «سي أن أن» وغيرها من كاميرات قنوات التلفزيون الأميركية الرئيسية والصغرى منها. وكان الشريط الذي شاهده الرئيس جورج بوش الابن عن عملية الهجوم، شريطاً أرسل له بواسطة الأقمار الصناعية من جهاز «الموساد الاسرائيلي»، ولم يكن شريطاً زوّدته به أجهزة «سي أي آي» أو قنوات التلفزيون الأميركية.

هذا على الصعيد «الاسرائيلي»، وهو يوحي بوجود ضلع لهم في التخطيط أو في التنفيذ. أما على الصعيد الأميركي الرسمي الممثل بأجهزة «سي أي آي»، فإنّ العميلة السابقة في جهاز «سي أي آي» واسمها سوزان ليداور، كشفت في حوار أجرته معها قناة «آر تي» الروسية ومسجلة على فيديو لديّ نسخة منه، أسراراً مفادها أنّ «سي أي آي» كانت على علم بأنّ شيئاً ما يدبّر لنيويورك وللبرجين المعروفين فيها، بل وكانت تعلم بالتاريخ التقريبي للعملية، وبأنّ الطائرات سوف تستخدم في التنفيذ. ومع ذلك، لم تسع وكالة المخابرات المركزية لتعزيز إجراءات الأمن في المطارات الأميركية للحيلولة دون اختطاف الطائرات التي استخدمت في مهاجمة البرجين في نيويورك، والبنتاغون في ضواحي واشنطن، بل ولم تسع لوضع منظومة صواريخ على سطحي البرجين، لتتصدّى للطائرات المهاجمة فتسقطها.

وذكرت سوزان أنها قد تعرّضت للتهديد بالسجن وبالمحاكمة، بل وسجنت فعلاً، اذا لم تسحب تصريحاتها التي أفادت بوجود إهمال أو تآمر من قبل «سي أي آي». وعندما لم يفلح السجن والمطاردة معها، وُعِدت بمكافأة قدرها مليون دولار مقابل تراجعها عن تصريحاتها تلك، فرفضت ذلك، وأصرّت على نشر كتاب تعدّه ويتضمّن كلّ تلك المعلومات بالتفاصيل والتواريخ والأسماء. وهنا تعرّضت لحادث سير وصفته بالمدبّر وكاد يودي بحياتها، لكنها نجت منه بأعجوبة، ونشرت كتابها بعنوان Extreme Prejedice، الذي ذكرت فيه أيضاً واقعة تواجد كاميرا لـ»الموساد» في الموقع قبل وقوع الهجوم، وبأنّ المعلومات الأولى للرئيس الأميركي لم ترده من وكالة المخابرات المركزية، وكذلك صور الفيديو عن الهجوم، بل من «الموساد الاسرائيلي».

ومن هنا يتوجب أن يشمل التحقيق في الكونغرس، اذا مضى الكونغرس فيه، لا مجرد المسؤولية السعودية عن ذلك الهجوم، حتى ولو علم بمخططه مسؤولون سعوديون ربما من الدرجات الدنيا، بل ينبغي أن تجري تساؤلات واضحة عن مسؤولية «الموساد» عما حدث، وعن الأسباب الكامنة وراء إهمال «سي أي آي»، وهو إهمال جسيم، في اتخاذ إجراءات الوقاية الضرورية في حالة كهذه. فالمسؤولية عما حدث هي مسؤولية مشتركة بين عدة أطراف، وليست السعودية وحدها تتحمّل تلك المسؤولية، رغم وجود دور واضح ومؤكد لخمسة عشر سعودياً نفذوا على أرض الواقع تلك العملية الكبرى والتي سيذكرها التاريخ دائماً. فالولايات المتحدة عندما تذكر الدور السعودي، وتتناسى الدور «الاسرائيلي» والإهمال الجسيم الأميركي، انما لا توجه عملياً أصابع الاتهام للسعودية فحسب، بل تنتهج كغيرها أسلوب الاستفزاز والابتزاز غير المبرّر إطلاقاً.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024