إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الأمين مصطفى عبد الساتر محامياً، وكاتباً وخطيباً واديباً

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2015-06-29

إقرأ ايضاً


مهداة الى العميد الامين صبحي ياغي(*)

*

عرفته جيداً منذ ستينات القرن الماضي، وعرفته أكثر عبر مسيرته الحزبية النضالية، عضواً في المجلس الأعلى، عميداً للإذاعة، وللقضاء، رئيساً للمحكمة الحزبية، كاتباً في صحف الحزب، وخارجه، وخطيباً مفوهاً في المناسبات.

وقرأت له كتاب "أيام وقضية" الذي يشكل مرجعاً جيداً لمن يريد أن يتعرف على محطات من تاريخ الحزب في منفذية بعلبك، وهو كان من مؤسسي العمل الحزبي فيها، كما تابعت دراساته وكتاباته، وقد كان وفير الإنتاج، غزير الكتابة، وفيها كلها تجد إحاطة ممتازة، وعمقاً في البحث، وصدقاً في الإلتزام بكل ما يقتنع به ويراه حقاً وصواباً.

الى كل هذا كان محامياً لامعاً تلجأ اليه عندما تحتاج الى رأي سديد.


وفاته:

وافت المنية الأمين مصطفى عبد الساتر يوم الجمعة 26 تموز 1991، وفي اليوم التالي نعى الحزب السوري القومي الإجتماعي ونقابة المحامين وآل عبد الساتر "المحامي والأديب والمفكر والمناضل القومي مصطفى عبد الساتر رئيس المحكمة الحزبية العليا، الذي توفي في منزله في بعلبك عن عمر يناهز السبعين عاماً وأقيم له مأتم حزبي وشعبي حضره مسؤولو وأعضاء الحزب وفعاليات دينية وإجتماعية وحزبية وألقيت كلمات تحدثت عن مزايا الفقيد أبرزها كانت لنائب رئيس الحزب ومما جاء فيها: " نفتقدك اليوم ولبنان على مفترق طريق ومرحلة صراعية نحن أحوج ما نكون الى امثالك من أسياد الكلمة والعقيدة والفكر"، وتابع: " لن نكون حزب الحكم إلا يوم يصبح حكماً قومياً إجتماعياً وسنبقى في قلب الحكومة لنطالب بحقوق الشعب".

*

يوم السبت 27 تموز نشر الصحافي الراحل الرفيق جوزف نصر كلمة في جريدة "النهار" جاء فيها:

" الفقيد من كبار المحامين والباحثين والمؤلفين. كتب في مواضيع كثيرة نشرت له "النهار" معظمها، وكان يخصها بأفضل نتاجه. له مؤلفات عدة منها "ايام وقضية" و "السلام والثورة والديمقراطية" و "شؤون قومية" ، الى أبحاث ودراسات فكرية وثقافية وحقوقية.

" ولد في ايعات في قضاء بعلبك عام 1921 وبعدما انهى دروسه في ثانويات لبنانية، درس الحقوق في الجامعة السورية ونال أجازته منها عام 1943.

" في فتوته إنتمى عام 1937 الى الحزب السوري القومي الإجتماعي وناضل في صفوفه ايام الإنتداب وفي مطلع الإستقلال، وكان عام 1949 منفذاً عاماً لمنطقة بعلبك – الهرمل ولاحقته السلطات مراراً. عام 1954 إنتخب عضواً في المجلس الأعلى للحزب ومن ثم تسلم مسؤوليات مركزية كثيرة وآخرها رئاسة المحكمة الحزبية العليا، وإستمر في تحمل مسؤولياتها حتى وفاته.

" رشح نفسه للإنتخابات النيابية عن منطقة بعلبك – الهرمل في دورة 1957 ضد لائحة الرئيس صبري حماده التي فازت في حينه، بدعم لا مثيل له في الدورات الإنتخابية اللبنانية من السلطة الحاكمة والمكتب الثاني. لكن مصطفى عبد الساتر خسر بفارق بسيط عن الذين فازوا.

" مواقفه الحازمة لم تكن إلا لتزيده عناداً، فكان أن تحمل السجن والملاحقات. كانت له مواقف جريئة أمام المحاكم، إن متهماً او محامياً عن متهمين... وكانت دفاعاته دروساً في الحق العام والحق القومي... كان يستمد بعضها او معظمها من العقيدة التي تربى عليها من حداثته، وتعمق فيها محامياً ومثقفاُ على منشئها الزعيم انطون سعاده.

" في الأحداث الأخيرة، وطوال ستة عشر عاماً كان مصطفى عبد الساتر في بعلبك وقضائها رسول سلام مبشراً بالأخوة والتآخي، نابذاً الطائفية والقتال الطائفي، ولم يتردد يوماً في الإنتقال في أرجاء لبنان، داعياً خصوصاً في أوساط زملائه اهل القانون، الى العمل على خلاص لبنان من أخطر آفة تقوّض معالمه، ألا وهي آفة الطائفية التي تمزقه. وفي آخر لقاء لنا، قال لي: " ولك بعدك شب"، فأجبته "وإنت شو ناقصك؟" فقال : " انا لا اؤمن بالشيخوخة ما دمت قادراً على التفكير والكتابة والدرس والبحث... والشيخوخة هي في الجسم لا في الفكر...".

*

مقدمة موكب التشييع في بعلبك (الديار-27/07/1991)

في 2/8/1992، اي بعد سنة على رحيله، نشر الدكتور حسن عباس نصرالله في جريدة "النهار" كلمة قيمة عن الأمين الراحل، نختار منها مقاطع تعرّف عنه لم تكن وردت في كلمة الرفيق جوزف نصر:

" أبصر النور في مدينة الهياكل سنة 1921، تلقى علومه الأولى في كتاب ام سعود رعد، حيث حفظ الكثير من آيات القرآن الكريم. وبعد أشهر انتقل الى المدرسة الرشدية، وأسرعت حركة القدر تحمله الى الجامعة الوطنية في عالية سنة 1932، وبين جدرانها إنتمى الى الحزب السوري القومي الإجتماعي سنة 1937.

" ظل هناك ينهل من معينها التعليمي حتى حزيران 1940، فغادرها حاملاً في حقيبته البكالوريا اللبنانية القسم الأول. وفي السنة التالية إلتحق بمدرسة (اللاييك) في دمشق ونال القسم الثاني من البكالوريا.

" في خريف 1941 دخل معهد الحقوق العربي في جامعة دمشق وأحرز إجازة الحقوق في حزيران 1944.

" كانت بعلبك محطته الأولى في ممارسة مهنة المحاماة، وخرج منها بغير إرادته سنة 1958 خلال الأحداث الدامية، ونقل مكتبه الى بيروت.

" مال الى الكتابة والتأليف، نشر مقالاته في الجرائد والمجلات، كتب في القصة والرواية والادب والسياسة والحقوق.

" اصدر كتابه الأول "ايام وقضية" سنة 1982، وتبعه كتاب "السلام والثورة والديمقراطية" ثم كتاب "شؤون قومية"(1) وله قيد الطبع في لندن كتاب "بيروت في لهب نجمة داود"، ومن آثاره المخطوطة روايتان، الأولى "الزورق والتنين" والثانية "رحيل الفينيق" وله مجموعة قصصية "الاستاذ يعيش" وقصص أخرى(2).

" أطرف مؤلفاته "أيام وقضية" عرض فيه صوراً من سيرة حياته في مراحل النشأة والدراسة والنضال. نراه بعلبكياً حنوناً تفيض عباراته دفئاً كلما دقت باب مخيلته ذكريات الطفولة في بعلبك: " أيام الطفولة في بعلبك، على بعدها والقليل من ذكرياتها، تعود الى مخيلتي من حين الى آخر. رغم إبتعادي، الزمني والسكني عن مسقطي، ورغم تبدل المعالم والسكان، لا آزال أشعر بقشعريرة ناعمة كلما مررت في الحي القديم الذي كنا نسكنه، او كلما خطرت في خاطري ذكريات من تلك الأيام الخوالي... أحببت بعلبك وأهلها، ولا سيما البسطاء منهم...."(3).

" هذا الحب دفعه الى النضال من أجل النهوض ببعلبك وإيقاظها من غفوة الجهل، فترشح للمقعد النيابي الشيعي لدورة 1957 ونال أكتر من إثني عشر ألف صوت، لكن حكومة التجهيل حاربته خانقة الحرية الإنتخابية، لأنها تريد نواباً عن المناطق لا يتقنون إلا رفع الأيدي لدى التصويت.

" وإتسمت كتاباته بالعمق والجرأة ، وصدق العاطفة.

" تحدث عن الديمقراطية(4) والعدالة الإجتماعية والوطنية حديث خبير مدرك لشوارد الموضوعات. عالج هذه العناوين بجرأة، فدخل السجون أكثر من مرة، كما عايش الفارين "الطفار" في جرود بعلبك سنة 1949(5).

" هذا النضال حرمه من منزله ومكتبه ومكتبته في تباين المناطق اللبنانية: بعلبك والجبل وبيروت.

" رحل مثقف عربي عاش معاناة دائمة تحوّلت كما قال: الى "معانيات".

" رحل مثقف بعلبكي زمن شحّت الثقافة البعلبكية، وتلقفها الأدعياء.

" رحل بعدما عاش "غربة في الوطن"(6) إنتهى في وطنه كما تمنى، مات وهو يتمتم في حب وطنه:

" انت لي، تلك، يا أرض شعبي، يا حبي الأول والأبقى. فيك بدأت، وفيك إنتهي. لن أتركك ولو تركتني او تنكرت لي، لن أهجرك أبداً، يا بلد الويلات، يا وطني!"(7).

هوامش (تابعة لكلمة الدكتور حسن عباس نصرالله):

(1) صدر "شؤون قومية" في صيف 1990.

(2) هذه المعلومات مأخوذة من رسالة كتبها إليّ في 29/10/1990.

(3) "ايام وقضية": 28 -29

(4) "شؤون قومية": 97.

(5) "ايام وقضية": 355

(6) نفسه: 355

(7) نفسه: 365

*

ذكرى الأربعين

عن جريدة "النهار"، بتاريخ 09/09/191:

احيا امس الحزب السوري القومي الاجتماعي وآل عبد الساتر في "ايعات" ذكرى اربعين المحامي والكاتب (الامين) مصطفى عبد الساتر في حضور الامين العام لمجلس النواب بالوكالة السيد عاطف جانبيه ممثلاً رئيس مجلس النواب السيد حسين الحسيني، والنائب المعين علي حمد جعفر، ومحافظ النبطية المحامي غازي زعيتر، وقائممقام بعلبك السيد محمد الميس ونقيب المحامين مارسيل سيوفي، ووفد من ضباط الجيش برئاسة العقيد غسام ملحم، ونائب رئيس "حركة امل" العقيد عاكف حيدر، ووفد من القوات السورية برئاسة العميد علي احمد، وفاعليات.

والقى السيد جانبيه كلمة الرئيس الحسيني فاشاد بمزايا صاحب الذكرى، وتلاه رئيس الحزب القومي الاجتماعي السيد (الامين) عصام المحايري. ثم تكلم راعي ابرشية بعلبك ودير الاحمر للموارنة المطران فيليب شبيعة. والقى المحامي انطوان اقليموس كلمة نقابة المحامين. واعتبر نقيب الصحافة السيد (الامين) محمد بعلبكي "ان الفقيد كان رمزاً من رموز الايمان. آمن بالله الواحد والعقل والعقيدة واستقى ذلك على بصيرة وسار في نورها على درب مؤسسها وقائدها كما يسير الاوفياء، ولم يبدل اي تبديل، على رغم ما عاناه من فقر وقهر ومصاعب ومتاعب. كان رمزاً للوفاء والعقيدة المدعّمة بالعلم والاخلاق ".

وشكر السيد جميل عبد الساتر المشاركين باسم العائلة وفي نهاية الاحتفال منح السيد (الامين) المحايري صاحب الذكرى وسام سعاده تقديراً لنضاله.

*

بدورها أحيت الهئية الثقافية في مدينة بعلبك (النهار – 19/8/1991) ذكرى المحامي والكاتب الأمين مصطفى عبد الساتر في إحتفال تأبيني أقيم في قاعة بناية محمد سعيد اللقيس في منتزه رأس العين. تقدم الحضور الأمين العام لمجلس النواب بالتكليف السيد عاطف جانبيه ممثلاً رئيس المجلس السيد حسين الحسيني والمحامي العام الإستئنافي في بعلبك الدكتور احمد سفر ووفد من الحزب السوري القومي الإجتماعي برئاسة عميد الخارجية الأمين الدكتور مروان فارس.

عن هذه المناسبة قالت "النهار" في عددها يوم الاثنين 19/08/1991:

تكلم في المناسبة الدكتور حمد الطفيلي بإسم نقابة الصحافة، المحامي عمر زين بإسم نقابة المحامين، والأمين مروان فارس بإسم الحزب السوري القومي الإجتماعي، والدكتور أسامه شمص والسيد عبده مرتضى الحسيني بإسم اصدقاء الفقيد. وقدم المتكلمين المهندس حيدر عثمان.

مقتطفات من الكلمات

من كلمة الدكتور حمد الطفيلي:" نحتفل ونكرّم فكرك وثقافتك أيها الراحل وسطوع موقفك في محافل كلمة الحق والدفاع عن المغلوب ظلماً. كنت قاسياً في تفسير المعرفة الحقة، وقيادياً جباراً في مواجهة حالات الإلتفاف والقفز عن الموانع ومرمات القناعة التي آمنت والتزمت حقاً وصدقاً ودفاعاً عن النفس الأخير. كنت حريصاً على الصحافة وإستقلاليتها وإنفتاحها الشمولي لتكبر مع كبار النفوس المتشوقين الى بناء الصروح العلمية والمنابر الأدبية".

وتناول المحامي عمر زين دور الراحل في المحافل القضائية وتألقه في المحاماة وشدد على العمل لتأكيد الحريات العامة وإحترامها وصونها في لبنان والعالم العربي وترسيخ سلطة القانون وحقوق الإنسان واستقلال القضاء والمحاماة والعمل بكل قوة للقضاء على الرشوة والفساد.

وتحدث الدكتور مروان فارس (الامين) عن مصطفى عبد الساتر السوري القومي الإجتماعي الذي " فقدناه في عز حاجتنا الى العقل وقد وهب نفسه للقضية لأننا فقدنا رئيساً للمحكمة العليا وممثلاً للحق القومي. اننا نفتقد ذلك الصوت المبشر الصادق لأنه ليس ككل الرجال في يوم تمر قضيتنا القومية في أعظم محنة وأصعب الصعوبات وهي مهددة وتحب السلام. ونحن دعاة سلام وأمان يكون مبنياً على الحق والعدل لا ظلماً وإنتهاكاً لحق الشعوب". ودعا الى تحقيق المبادئ الإجتماعية التي تحقق التساوي لأبناء الشعب.

واعتبر الدكتور أسامه شمص التكريم " وفاء منا لما قدم الراحل في كل الميادين لأننا نؤمن بأن العمل الثقافي جسر للعبور من الجهل الى النور والفكر وحده هو طريق النهوض".

وختاماً كلمة السيد عبده مرتضى الحسيني الذي إسترجع ذكريات مع الفقيد رفيق نضال وثقافة " انا شيوعي وهو قومي"، كنا نختلف فكرياً ونلتقي ثقافياً وإجتماعياً وإنمائياً ".

***

قالوا فيه :

بعد رحيل الأمين مصطفى عبد الساتر نشرت الصحف في لبنان كثيراً من المقالات التي تتحدث عن مزاياه ومواقفه وحضوره اللافت، محامياً وأديباً ومفكراً ومناضلاً قومياً إجتماعياً.

منها كلمات: الأمين عبدالله قبرصي، الأمين شوقي خيرالله، الأمين محمد مقلّد (عرف بمحمد الشيخ)، الكاتب فاضل سعيد عقل، المحامي طانيوس عيد، الدكتور هولو جودت فرج، الصحافي صبحي منذر ياغي، الأستاذ غازي قيس، الأمين العام لندوة "خميس" علي شرف.

وكان الامين العام لندوة "خميس"، علي شرف، خصص الحلقة السادسة عشرة من حلقات يكتبها في جريدة "النداء" للحديث عن الأمين مصطفى عبد الساتر.

ولانه يستحيل ايراد كل تلك الكلمات، نكتفي بهذا المقطع من كلمة الاستاذ علي شرف، تحت عنوان "ستون عاماً مع مصطفى عبد الساتر"، قال: " فقد لبنان منذ حوالي شهر، وجهاً من المع الوجوه في تاريخنا المعاصر، فبغياب المفكر والكاتب ورجل العقيدة الصلب، مصطفى عبد الساتر، تنطوي صفحات مشرقات لرجل ظل صامداً على الساحتين الثقافية والنضالية، طوال مدة من الزمن ناهز الخميسن عاماً.

ناهيك عن الدور الذي احتله في المجالات الحقوقية، محامياً بارزاً، ومشترعاً فقهياً، ومدافعاً امام المحاكم على مختلف درجاتها، في المئات من القضايا، سهلة وصعبة حتى الاعجاز، جريئاً في قول كلمة الحق، لا تأخذه في ذلك لومة لائم" .

*

لقاءات الأمين مصطفى عبد الساتر بزعيم الحزب

بعد أن يعرض الأمين مصطفى عبد الساتر في الصفحة 82 من كتابه "للإستقبال الحاشد الذي تجمع في بئر حسن لإستقبال سعاده العائد من مغتربه القسري"، يورد في الصفحات التالية للقاءات التي جمعته بسعاده.

ننقلها بالنص الحرفي:

" اجتمعت بعد ذلك بسعاده في عيتات ضمن وفد مسؤولي البقاع الذين كانوا استُدعوا الى مقابلته خلال ملاحقته، وليلة اللقاء تلك لا أنساها. سهرنا ساعات طوال بعد أن انتقلنا الى أكثر من مكان، بانتظار وصول سعاده. ولما تجاوز الانتظار منصف الليل أخذت بعضنا كبوة على المقاعد، واذا بالزعيم يدخل علينا فجأة فنهبّ للقائه ونحن نشعر كأننا ارتكبنا ذنباً في

الإغفاء بينما هو يقطع الطرقات البعيدة إلينا. رغم ذلك طال اجتماعنا به حتى ساعات الفجر الأولى، وكنا نحب أن يطول أكثر من ذلك، لو لم يصرفنا هو الى النوم لنتابع لقاءنا به بعد ذلك.

في اليوم التالي أخذ منا معلومات مفصّلة عن أوضاع مناطقنا، وفي معرض الحديث معي سألني عن اوحوال العشائر، وبخاصة الدنادشة، وعن ملحم قاسم المصري وأولاده. وإذ أدركت بعض المغزى من سؤاله، في تلك الفترة التي كان فيها صراع مع السلطة، فقد قلت له انه رغم صداقتنا بهم تبقى الدولة أقدر منا على كسبهم الى جانبها.

خلال هذا اللقاء أخبرنا سعاده عن لقاء له قبل يومين مع احد كبار علماء الشيعة، وعن بحث دار خلال اللقاء عم موقف المسلمين المحمديين من أية قيادة زمنية مسيحية رداً على اللذين يثيرون المعارضة استناداً الى القول الكريم في سورة الممتحنة " لا ينهاكم الله عن اللذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون ". (القرآن الكريم – سورة الممتحنة -الآيتان الثامنة والتاسعة).

لأن القول الكريم هنا عنى اليهود ومشركي قريش فقط لأنهم هم وحدهم الذين قاتلوا المسلمين وظاهروا عليهم وأخرجوهم من ديارهم بينما لم يكن ذلك موقف النصارى لا في بلاد العرب ولا في الحبشة التي كانت قد آوت الكثير من المهاجرين.

وهكذا يبدو أن سعاده، وهو العارف بمدى تأثير المعتقد الديني ورسوخه في نفوس أبناء مجتمعنا أحب أن يقيم بين النظرة القومية الاجتماعية والدين مواقف ايجابية متبادلة غير متضاربة، على قاعدة شبيهة بقاعدة " أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر ". وعن طريق اعطاء الأدلة على عدم التضارب من صلب النصوص الدينية ذاتها، وعلى مثالها كانت بعض محاولاته الكبرى في مجموعة المقالات والأبحاث التي جمعت فيما بعد في كتاب "الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية" لإلغاء بلية التعصّب المذهبي المفرّق بين المحمديين والمسيحيين استناداً الى آراء ونصوص من صلب المعتقد الديني تثبت أن المحمدية والنصرانية هما مذهبان في دين واحد هو الاسلام. واذا كان قد أخرج اليهود من نطاق هذا الدين فلسبب أساسي هو إقامتهم نظرتهم القومية الصهيونية على أساس ديني يجعل منهم "شعب الله المختار" المترفّع عن جميع الشعوب الأخرى، ويحدد لهم وطنهم في نص المعتقد الديني على أساس قول ملفق يجعل أرض إسرائيل من الفرات الى النيل، مما جعل منهم اعداءنا الوحيدين في ديننا وفي وطننا، ولولا ذلك لكان موقف الحركة القومية الاجتماعية من اليهودية كدين – لو كانت مجرّد دين – هو الموقف نفسه من سائر الأديان والمذاهب .

في ختام ذلك الاجتماع أملى سعاده علينا رسالة حمّلنا إياها الى جميع الرفقاء في البقاع. لقد كان وراء نصّ تلك الرسالة ما يوحي أن سعاده كان ربّما يتطلع الى احتمال إطلاق ثورة ابتداءً من تلك المنطقة. (لم أتمكن من العثور على النص الحرفي لتلك الرسالة مما حال دون نشرها).

والحقيقة أننا بسبب عدم تمرسنا بالعمل الثوري، لم نأخذ مضمون تلك الرسالة بالاهتمام الذي كان يجب أن نأخذها به. ولم نشعر أن سعاده كان يقصد جاداً ما يقول إلا بعد حوادث 1949 يوم أطلق من تلك المنطقة بالذات ثورة مسلّحة فشلت لأسباب عديدة أهمها أنها فُرضَت عليه في غير الزمان والمكان، اللذين كان يحبّ أن يختارهما هو نفسه، وفي غير الظروف الملائمة، وقد خذله من اعتمد عليهم.

اجتمعت به مرّة ثالثة في شملان، في منزل الرفيق نجيب المقدم وإخوانه. كان الاجتماع بناءً على طلب من السيد صبحي سليمان حيدر (نائب ووزير ومدير سابق في الدولة) والدكتور مصطفى الرفاعي اللذين كانا من اصدقائي وكانا شديدي الإعجاب بمواقف الزعيم وبأقواله التي كان يشبهها احدهما صبحي حيدر، بالآيات. وبعد ساعات طويلة من الاجتماع خرج الرجلان اكثر اقتناعاً وإعجاباً بسعاده مما قبل، حتى أن صبحي حيدر طلب منه أن يقبل وحيده حنظل، الذي كان معنا، عضواً في الحزب، لأنه هو أصبح مسناً غير صالح للعمل الحزبي. ضحك سعاده وقال له أن الامر يعني حنظل، فإذا وجد رغبة في ذلك فعليه التقدم بطلب انتساب الى المديرية التي يقيم في نطاقها حيث يدرس طلبه على أساس رغبته وعلى أساس فهمه للعقيدة واستعداده للعمل في سبيلها. وفعل حنظل ولكنه لم يستطع أن يسير في المشوار طويلاً لأنه كان شديد التعلق بعائلتيه.

أول مرة نزل فيها سعاده الى بيروت بعد استرداد مذكرة الإحضار، علم أن صبحي حيدر يُعالج من مرض عضال في مستشفى الجامعة الأميركية . تأثر لذلك كثيراً وقام على الفور بزيارته، وما أن علم الناس بوجود سعاده في المستشفى حتى قامت قيامة المستشفى فتوافد الاطباء والممرضون وقسم كبير من المرضى وطلاب الجامعة الى الجناح الذي فيه صبحي حيدر لمشاهدة سعاده والتعرف إليه، وبقي اثر تلك الزيارة في نفس صبحي حيدر حتى مماته بعد ذلك بفترة من الزمن وقبل استشهاد سعاده.

*

بعد ذلك اجتمعت بسعاده عدة مرّات في ضهور الشوير، إن بصحبة بعض المواطنين الراغبين في الاجتماع اليه، أو بناءً على دعوات منه. كان أهم تلك الاجتماعات ذاك الذي دُعيت إليه كواحد من المسؤولين، والذي جرت فيه مناقشة مواقف نعمة ثابت ومأمون أياس خلال غياب الزعيم وبعد عودته، تلك المناقشة التي جرت في جو ديموقراطي رائع، وكانت توطئة لإخراجهما فيما بعد من الحزب دون حصول أية خضة، ودون ذيول، رغم محبتنا لهما وتعلّقنا بهما وبخاصة نعمة ثابت.

وفي سبيل الحقيقة أسجل أننا ما لمسنا يوماً اية جدية في صرف الحزب عن اهدافه ومبادئه من خلال تغيير الاسم وبعض الشعارات إذ كنا متمسّكين بالقضية واعتبرنا الامر مجرد شكليات تمويهية اقتضتها الظروف للتمكن من العمل العلني في ظل ترخيص رسمي .

رغم ذلك لامني سعاده لنشري مقالاً في جريدة الحزب بعنوان "وانت أيضاً يا بروتوس" رداً على بيان مأمون أياس الذي أصدره بعد طرده من الحزب. كان مقالي قاسي اللهجة، كُتب بتأثير عاطفي هائج، وهو العمل الصحافي الوحيد الذي قادني يوماً أمام القضاء.

*

لما اثيرت قضية فايز الصايغ ورفاقه أحدث الأمر دوياً أكبر من قضية نعمة ثابت ورفاقه، أرسلت رسالة الى الزعيم اناشده فيها تدارك الأمر نظراً لما لفايز في نفوسنا من تقدير، ونظراً لطاقاته الفكرية والعملية ولإمكاناته، ولأن الخلاف الفلسفي لا يستحق أن يصل الى هذا الحد، لقد كانت تربطني بفايز علاقة وثيقة، وكنت أحبه كثيراً وأرى فيه طاقة جبّارة عزّ عليّ جداً أن تصبح خارج الحزب، وكنت أرى في حصول ذلك خسارة كبيرة. الى جانب ذلك كنت أرى الشأن الفلسفي شأنا ثانوياً في الحركة، فرغم أنّي لم أكن يوماً من المتعمقين في الشؤون الفلسفية أو الغارقين في لججها، ولا من المتفلسفين، فقد كنت أنظر اليها كنوع من انواع الترف الفكري. وكنت أرى ان نجاح الحزب ووصوله الى السلطة لتنفيذ برامجه وتطبيق نظرياته هما الشأن الأهم، لأنهما الأساس لإقامة المجتمع القوي السعيد الذي نعمل لتحقيقه، أما الشؤون الفلسفية فأمر ملحوق عليه.

على أثر ذلك استُدعيت مع كامل أعضاء هيئة المنفذية الى مقابلة الزعيم في مكتبه في خان انطون بك. جرى ذلك في وقت كانت فيه القضية الفلسطينية تجتاز أخطر مراحلها، والقتال يدور على ارضها. كنت أحمل مجلة شامية تحمل على صفحاتها الأولى صورة أكرم الحوراني مدججاً بالسلاح للتوجه الى فلسطين للإنضمام الى جيش الإنقاذ. ناولتها الزعيم الذي تأملها بمرارة وخاطبني قائلاً: متى تريد تشكيل فرقة والذهاب الى فلسطين مثل أكرم؟ أجبته: متى شاءت القيادة الحزبية فنحن على استعداد. أجاب بمرارة وهو يهز رأسه: كلها تمثيليات ويا للأسف، ومن فبيل الدعاوة والمتاجرة بأقدس القضايا القومية، السلطة ليست بيدنا لنفعل ما يجب فعله، ومن بيدهم السلاح يمنعونه عنّا بذريعة خوفهم من أن يرتد فيما بعد على الأنظمة العفنة.

انتقل بعدئذ الى موضوع فايز صايغ ورفاقه، وكان متشدداً جداً في موقفه معلناً لنا أن الشأن الفلسفي شأن أساسي وهام في الحركة لا يمكن التساهل بأمره لأنه الأساس الذي تبنى عليه جميع الحلول بخاصة وأن الخلاف دائر بين النظرية القومية الإجتماعية ودعاة النظرية الفردية، وأسهب في شرح وجهة نظره وفي بيان الفرص الكثيرة التي أعطاها لفايز ورفقائه للرجوع عن مواقفهم الخاطئة أو على الأقل للتريث والدراسة.

كانت المقابلة صدمة عنيفة لنا، إذ أننا ولأول مرة نرى هذا الإهتمام بالشأن الفلسفي، وندرك مدى الأهمية التي له في الحركة التي يريدها سعاده ذات نظرة شاملة للوجود والكون، وكشفت لنا عمقاً من أعماق فكر سعاده لم نكن نوليه سابقاً الاهتمام. بعضنا أثرّ فيه الاجتماع فترك على اثره الحزب (أو أنه تذرّع بذلك لأنه كان يريد مخرجاً للخروج من الحزب). أما أنا، فبالرغم من الصدمة والتردد العميقين اللذين تركهما ذلك اللقاء في نفسي، فقد استمريت مع من استمر آسفين جداً على خسارتنا فايز الصايغ ورفقائه.

*

التقيت سعاده مرة اخرى خلال زيارة للبقاع الأوسط. استقبلناه في رياق ورافقناه في حشد من الرفقاء الى دير الغزال حيث أقيم مهرجان خطابي كنت أحد خطبائه، وفي نهاية المهرجان ارتجل الزعيم خطبة رائعة علق في بعض فقراتها على بعض ما ورد في خطابي. كانت المناسبة عيد مار جرجس – الخضر. بينما كنت أخطب تطرّقت الى الوضع الذي كان عليه شعبنا قبل انبثاق النهضة القومية الاجتماعية، وذكرت من حالات الذل والخنوع والاستسلام حالة الشعب خلال حكم جمال باشا التركي، وأن المواطنين الذين كانوا يموتون جوعاً على قارعة الطريق لم يقم في صفوفهم من يقضي على الطاغية خلال مروره وسط هذه الصفوف، وعند ذلك التقت عيناي بعيني سعاده فرأيته ينتفض ورأيت فيهما لمعاناً غريباً.

*

التقيته مرة اخرى على ضفاف البردوني، كان يتناول طعاماً بسيطاً خالياً من المشروبات الروحية برفقة الرفيق أنطون خوري من زحلة، ومرافق للزعيم لعله كان توفيق نورالدين. أعلمني الزعيم أنه في زحلة للمراجعة بقضية خاصة لزوجته. عند مغادرة المقهى فوجئت انه لم تكن هنالك اية سيارة في انتظاره. بناءً على طلبه انتقلنا سيراً على الاقدام الى ساحة زحلة حيث استقلّ سعاده مع مرافقه المقعدين الأماميين الى جانب السائق في سيارة اجرة عمومية، وبقي منتظراً، ونحن الى جانبه رغم الحاحه علينا بالإنصراف، الى أن اكتمل عدد الركاب، فأكبرت جدا هذا التواضع في الزعيم. أليس هو القائل في خطاب دير الغزال، قبل ذلك بأشهر قلائل " نحن لا نركب السيارات الفخمة الى المقاصف لشرب الويسكي وسماع الاغاني الجميلة. نحن لا نذهب الى اجتماعات خفية ونقفل الأبواب مع عمال مأجورين للمساومة على مصالح الأمة. نحن نسير على أقدامنا ونعمل في أرضنا ونقف تحت الشمس شرفاء أعزاء، نأبى كل ما يعترض إرادتنا الحقة في الحياة ". (الحلقة الثالثة من "النظام الجديد" أيار 1948) .

بعد ذلك لم اجتمع بسعاده إلا نادراً من خلال اجتماعات عادية .

*

اقترن الامين مصطفى عبد الساتر من الفاضلة فاطمة عبد الساتر، ورزق منها الرفقاء: المحامي عبد الله، المحامي غيث، المهندس ظافر والاعلامي انس.

*

(*) عرفت منفذية بعلبك الآلاف من القوميين الاجتماعيين، وبرز منهم العشرات في مسؤوليات مركزية ومحليين واني اذ

اهدي النبذة عن مؤسس العمل الحزبي في بعلبك، الأمين مصطفى عبد الساتر الى رفيق تولى المسؤوليات المحلية

فالمركزية وسجّل له حضوراً متفانياً في كل من عمدتي التربية والداخلية، وشهد له الجميع بحيويته وتضحياته،

وانصرافه الكلي للعمل القومي الاجتماعي، العميد الأمين صبحي ياغي الا اني لا اغفل التنويه بمن عرفت من امناء

ورفقاء من ابناء منفذية بعلبك، ومنهم الامناء الراحلين: عباس ياغي(1)، محسن امهز(2)، ابراهيم زين(3)، علي شرف

الدين، ومصطفى يزبك. فهؤلاء، كما جميع الشهداء والمناضلين، باقون في ذاكرة الحزب واحياء في تاريخه.

هوامش:

(1) للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى ارشيف تاريخ الحزب على الموقع التالي: www.ssnp.info

(2) للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى ارشيف تاريخ الحزب على الموقع المذكور آنفاً.

(3) خسرناه مؤخراً. كتبت عنه كلمة وفاء. للاطلاع الدخول الى الموقع المذكور اعلاه.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024