إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

حدّثتني الأجيال التي عرفَتْهُ

أحمد طيّ - البناء

نسخة للطباعة 2011-07-09

إقرأ ايضاً


غريبٌ أمر أنطون سعاده، كيف تجتمع فيه صفاتٌ تندر في آخرين. أن يتميز إنسان بصفة أو اثنتين أو ربما ثلاث، أمر شبه عاديّ في زماننا هذا، وأن يتسم رجل بالعبقرية، أمرٌ في منتهى الشيوع أنّى وطأت أقدامنا يابسة هذه الكرة الأرضية، لكن أن يجتمع رهط من العبقريات في رجل واحد، هنا يكون التفرّد عند أنطون سعاده. بين تأسيسه الحزب وولادتي ثلاثة وأربعون عاماً بالتمام والكمال، وبين استشهاده وولادتي سبعة وعشرون عاماً، وما بين ولادته واستشهاده من جهة، وولادتي من جهة ثانية، أجيال أحياء وشهداء، وأخبار وحكايات، وكتب ومجلات، ودساتير ومنظومات، وبيانات ومنشورات، وأشبال وزهرات، ومسؤولون وأدباء وشعراء وحقوقيون وسياسيون ومثقفون، كلهم كانوا بعضاً من سعاده، ومن هذا البعض ولدت من رحم أمي،لأغدو قيمةً فاعلةً في قضية أمتي. لم تشملني دساتير الحياة بعطفها وتجعلني أولد في بدايات القرن الماضي كي يتسنى لي شرف التعرّف إلى سعاده شخصياً، بل منّت عليّ أن أعرفه من خلال الأجيال التي عرفته، وليس في الضرورة الأجيال التي رأته، أو صافحت يده، أو استمعت إلى محاضراته وخطبه، أو احتست معه كوباً من الشاي، أو مارست معه رياضة المشي. حدّثتني عن أنطون سعاده الأجيال التي رافقته في النضال، قبل استشهاده وبعده، حدّثني عنه وقار المهندس الزراعي علي نزها أول من أدخل فكر الحزب إلى بلدتي في النصف الثاني من الثلاثينات، وتضحية محسن نزها عندما تحمّل عواقب حكم الاعدام عن رفيقه، حدثتني عنه همشرية ديب كردية وبطولته السمحة واندفاعه لتنكب النضال أنى وجد، التقيت أنطون سعاده بين وجوه الفلاحين في بلدتي يؤسسون زراعة خرجت من قيود الإقطاعية، بعضهم يترك متراً من مساحة أرضه، والبعض الآخر مترين، وتُشقّ الطرق الزراعية وتنشأ السواقي. التقيت أنطون سعاده بين وجوه الفلاحين أنفسهم وهم ينقلون الأحجار حجراً حجراً لبناء المدرسة، ومن ثم يقدمونها إلى الدولة ذاتها التي كان بعض حاقديها يمطرونهم بالرصاص أثناء تشييدها، فقط كي يتعلم أبناؤهم، التقيت أنطون سعاده في كدّ المرأة ونضالها في بلدتي، وفي زغاريد والدة الاستشهادي مالك وهبي بعد استشهاده، التقيت أنطون سعاده في بسمة الأشبال، وعنفوان الطلاب، ورجولة المقاومين، رأيت وجهه في عبسة الدهر، وجذل النهر، في رهبة القبر، وطمأنينة العرزال، رأيت «صوته» في جدية الكلمة وجمالها وجدواها، وفي أنغام الناصيف وتمرد تقي الدين وثورة الماغوط، وضحك اللحام، هكذا تعرفت إلى سعاده، وما زلت أتعرف إليه يومياً، هو ليس ذكرى، وليس تاريخاً، وإن خصّته الحياة بتواريخ المهد واللحد وما بينهما، أنطون سعاده هو فعلٌ يومي، تفكير يومي، تأمل يومي، يتخطى عمق الذات، وبعد الرؤية، فأصبح ونهضته أقنومين لا يفترقان، وأصبح ونهضته التي أطلقها حياةً تنضوي في تفاصيلها التواريخ كلها، وينفتح على مصراعيه المستقبل كله.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024