إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

مجتمع مدني... «فالصو»!

أحمد طيّ - البناء

نسخة للطباعة 2014-11-10

إقرأ ايضاً


كتب العبقريّ جبران خليل جبران ذات يومٍ وهو يصف حالته بعدما ابتُلي بتسوّسٍ في أحد أضراسه، أنّ هذا الضرس كان يحتال على تعذيبه فيسكن متربّصاً ساعات النهار، ويستيقظ مضطرباً في هدوء الليل عندما يكون أطباء الأسنان نائمين والصيدلية مقفلة.

ويروي جبران من باب التمهيد للمأثورة، كيف أنّ أحد الأطباء شارك في تعذيبه عندما كان يحاول تطبيب الضرس وتجميله، وحشوه وتلميعه وتلبيسه، عوضاً عن استئصاله، إلى أن أذعن الطبيب، فخلع الضرس البالي المسوّس الذي حرم جبران لذّة الرقاد وحوّل سكينة ليالي إلى الأنين والضجيج.

ثمّ يمضي جبران قائلاً: «في فم الجامعة البشرية أضراس مسوّسة وقد نخرتها العلّة حتى بلغت عظم الفكّ. غير أن الجامعة البشرية لا تستأصلها لترتاح من أوجاعها، بل تكتفي بتمريضها وتنظيف خارجها وملء ثقوبها بالذهب اللمّاع.

وما أكثر الأطباء الذين يداوون أضراس الإنسانية بالطلاء الجميل والمواد البرّاقة.

وما أكثر المرضى الذين يستسلمون إلى مشيئة أولئك الأطباء المصلحين فيتوجّعون ويسقمون ثمّ يموتون بعلّتهم مخدوعين…».

ويقول: «والأمة التي تكون أضراسها معتلّة تكون معدتها ضعيفة. وكم أمة ذهبت شهيدة عسر الهضم…».

وهنا يلجأ جبران إلى إسقاط صفة التسوّس في الأضراس على الجامعة البشرية، أو الأمة، ويرشد القارئ إلى أماكن الأضراس المسوّسة ومنها: «المحكمة حيث يتلاعب الذكاء البهلواني بالقضايا الشرعية مثلما تلعب القطة بصيدها… أو منازل المثرين حيث التصنّع والكذب والرياء… أو بيوت الفقراء حيث الخوف والجبانة والجهالة…»!

وهنا بيت القصيد: بيوت الفقراء. الفقراء الجبناء الذين يحترفون الخوف، ويجبنون عن المطالبة بحقوقهم، ويجهلون أصلاً كيفية المطالبة بهذه الحقوق.

أما اليوم، وفي ظلّ الأوضاع السائدة، فإننا نجد الخوف يسيطر على الشعب اللبناني، ونرى الجبانة كيف تردع هذا الشعب لا بل تلجمه، أما الجهل فواضح ولا يحتاج إلى أيّ تعليق.

ثمّة من يقول إن الشعب اللبناني منقسم بين 8 و14 آذار. حسناً، وشعب الولايات المتحدة منقسم بين الفيل الجمهوري والحمار الديمقراطي. وشعب فرنسا منقسم أيضاً بين اليمين واليسار، ولكن شعب الولايات المتحدة المنقسم يتفق من أجل مصالحه، ويتكاتف من أجل نزع الغبن عنه، وشعب فرنسا المنقسم أيضاً ينزل متّحداً إلى الشوارع من أجل رفض الضرائب أو محاسبة حكومة. أما في لبنان، لا ثقافة الوحدة «ماشية»، والانقسام يودي بنا إلى التهلكة.

وثمّة عبارة شائعة لدى معظم الشعب اللبناني، تسمعها كلّما أثيرت مسألة المطالبة بالحقوق والنزول إلى الشارع، وهي عبارة «بدنا نعيش»، التي تنمّ عن ثقافة انهزامية اجتاحت هذا الشعب، خصوصاً بعدما اجتاحته موجة ما اصطُلح على تسميته «المجتمع المدنيّ».

وإذا أردنا تعريف المجتمع المدني اصطلاحاً، فهو يشير إلى كلّ أنواع الأنشطة التطوّعية التي تنظّمها الجماعة حول مصالح وقيم وأهداف مشتركة. وتشمل هذه الأنشطة المتنوعة: تقديم الخدمات، أو دعم التعليم المستقل، أو التأثير على السياسات العامة. ففي إطار هذا النشاط الأخير مثلاً، يجوز أن يجتمع مواطنون خارج دائرة العمل الحكومي لنشر المعلومات حول السياسات، أو ممارسة الضغوط بشأنها، أو تعزيزها.

أمّا إذا أردنا تعريف المجتمع المدني لبنانياً، فنجد أنّ ما سبق ليس سوى شعارات وعناوين، تتلطّى خلفها مئات الجمعيات التي تعتبر نفسها غير ربحية، بينما نجدها ـ في الحديقة الخلفية ـ تعمل من أجل مآرب شخصية لمؤسّسيها وداعميها.

ما علاقة المجتمع المدنيّ بحقوق الشعب؟ سؤال وجيه قد يحضر أمام القارئ، فنقول إن ما سُمّي بالمجتمع المدني في لبنان، أخذ على عاتقه منذ فترة التحدّث بِاسم الشعب اللبناني. وهنا، غالباً ما نرى صقور المجتمع المدني، يتباهون في خطاباتهم بأنّهم لا مع 8 آذار، ولا مع 14 آذار، ومنهم من يجاهر بأنّه لا ينتمي إلى أيّ حزب، ولا يحبّذ أيّ عقيدة، وقد كذب هؤلاء على أنفسهم أوّلاً، وعلى مَن يريدون أن يُسمعوه أصواتهم ثانياً. فالحقيقة تقول، أن لا لبناني «متملّصاً» من الميل إلى عقيدة ما أو حزب ما.

ومن صفات صقور المجتمع المدنيّ في لبنان، الكسل. فتراهم ينشطون في التعبير عن آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتباهون بالسباب وإطلاق الشتائم، و«بهدلة» النائب الفلاني، وتناول الوزير العلّاني، وعندما تحين الساعة، أو تتطلّب القضية النزول إلى الشارع، تراهم منزوين خلف حواسيبهم، «يتعملقون» بالتضامن أو الشجب والاستنكار.

عام 2007، سافرت إلى مدينة مرسيليا الفرنسية لإجراء دورة تدريبية في إدارة المكتبات العامة. وأخبرنا المنظّمون ذات نهار، أنّ سائقي النقل العام في المدينة يُضربون في اليوم التالي، فلا دروس ولا محاضرات. أمضينا يومنا في الفندق والأسواق القريبة منه. وفي اليوم الثالث، أضرب الموظّفون بحجّة أن الباصات والقطارات متوقفة عن العمل إضافة إلى المترو والترامواي بسبب إضراب الساقين. أذكر جيداً أن مطالب السائقين أقرّت مساء ذلك اليوم. وأذكر جيّداً مشهد اعتصام الموظّفين الذين لم يقطعوا الطرقات ولم يحرقوا الإطارات. جلّ ما فعلوه، شبكوا أيديهم على الأرصفة وشكّلوا سلسلة بشرية امتدت طويلةً في شوارع مرسيليا الرئيسية.

في لبنان، وزن ربطة الخبز تقلّص إلى ما دون الكيلوغرام الواحد، والشعب ما زال صامتاً، والمجتمع المدني كسولاً.

في لبنان، ثمن صفيحة البنزين يرتفع بينما ثمن برميل النفط عالمياً ينخفض، والشعب ما زال صامتاً، والمجتمع المدني كسولاً.

في لبنان، يدفع المواطنون ثمن الطاقة الكهربائية غير المؤمَّنة أصلاً، والشعب ما زال صامتاً، والمجتمع المدني كسولاً.

في لبنان، الزراعة تموت والغابات تضمحلّ والجبال تأكلها الكسارات، والشعب ما زال صامتاً، والمجتمع المدني كسولاً.

في لبنان، غالبية المواد الغذائية فاسدة، والتسمّم عنوان المخازن و«المولات»، والشعب ما زال صامتاً، والمجتمع المدني كسولاً.

في لبنان، لا شارع آمناً، ولا حيّ آمناً، ولا سيارة أجرة آمنة، ولا مكان آمناً، والشعب ما زال صامتاً، والمجتمع المدني كسولاً.

في لبنان، الأملاك البحرية مسروقة، والتلوّث يجتاح البحر كما الجبل والسهل، والشعب ما زال صامتاً، والمجتمع المدني كسولاً.

في لبنان، إقطاع سياسيّ يتوارث السلطة منذ عقود تحت اسم الديمقراطية والميثاق الوطني، والشعب ما زال صامتاً، والمجتمع المدني كسولاً.

في لبنان شعب فقير، ومجتمع مدني… «فالصو»!

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024