إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

ما قبل الثامن من تموز مرويات الأمين نواف حردان

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2019-09-02

إقرأ ايضاً


من المعروف أن الأمين نواف حردان شاركَ في الثورة القومية الاجتماعية، وتمكّن بعد فشل الثورة من الوصول عبر سلسلة جبال الحرمون إلى دمشق حيثُ أمضى فيها ما يُناهز الثلاث سنوات، متولّياً مسؤوليات حزبية، قبل أن يغادر بجواز سفر مُزيّف إلى الأرجنتين، فمُستقراً في البرازيل، حيثُ أمضى ما يقارب الأربعين سنة من عمره، مُناضلاً، مُصدِراً مجلة "الرابطة" وجريدة "الأنباء" ومؤلفات عديدة، حتى اذا عادَ نهائياً إلى الوطن عام 1990 انكبَ على إنجاز مؤلفات عديدة تحتلُّ موقعاً جيداً في المكتبةِ القومية الاجتماعية.

في الجزء الأول من مؤلفه على دروب النهضة يروي الأمين نواف تفاصيل هامة عن الفترتين التاليتين:

الأولى: التي سبقت الثورةالقومية الاجتماعية،

والثانية: عن انتقاله إلى دمشق في ظروفٍ صعبةً جداً، بعد أن وصلهم، وهم في جبال حرمون، خبر استشهاد سعاده وبالتالي فشل الثورة.

ولأهميّة تلك المعلومات، وما فيها من تميُّز ومآثر ومواقف عز وتفان، والتزام صادق بالحزب، ننشر أهم ما وردَ في الصفحات 243- 257.

ل.ن

*

أنا الآن في بيتِ خالِ الرفيق جورج بلدي(1) في حي باب توما- دمشق، الذي أتى بي إليه الرفيق بلدي نفسه، من بيت الرفيق سامي الخوري(2)، بعدَ أن وصلتهُ من القُنيطرة.

كان بيت الرفيق بلدي خالياً، لأنَّ أصحابَهُ كانوا قد ذهبوا للاصطيافِ في بلودان، فبقيتُ فيهِ وحدي أُشاغل نفسي بالكتابة وأُتابع تسجيلُ ما حصلَ معي أثناء الثورة القومية الاجتماعية.

ذكرت سابقاً أنّي كنتُ قد وصلت من بيروت، إلى كرم الرفيق جورج معلوف(3) في خراج بلدتي راشيا، مع هبوط الظلام، ولبثتُ فيهِ أنتظر وصول الرفقاء، الذينَ كنتُ قد أرسلتُ استدعيهم لكي يوافوني ليلاً إلى ذلك المكان.

لم يكن قد أُلقيَ القبض على أحد من رفقاء راشيا، لأنّهم كانوا مُتيقظين حذرين، لا ينامون في بيوتهم ليلاً، بعدَ أن تلفنت لهم من بيروت، طالباً منهم أن "يناموا في الكروم كي لا يسرقها اللصوص ليلاً فأدركوا ما أعني وصاروا مُتنبهين.

"قلتُ لهم بأن الحزب سَيُردُّ على اعتداءِ الحكومةِ الُّلبنانية ومؤَمراتها عليه، وسوف يُشعل نار الثورة، ولذلك، كما أخبرني الأمين معروف صعب، قرّر الحزب مصادرة أموال جميع القوميين، وشراء أسلحة واعلان الثورة عندما تدقُ الساعة، ذلك لأن الحكومة تعدت حدودها وخرقت كل القوانين والشرائع، باعتدائِها على الحزب ومُلاحقةِ أعضائهِ وزجّهم في السجون بالمئاتِ، دون أن يكون هناك أدنى مُبرر لذلك، ودون أي ذنب أو جريمة اقترفوها، علماً أن الحزب مُرخّص به والقوميون يُمارسون حقوقهم المدنية، كأعضاءٍ في الدولة، يجب أن تُصان حُقوقِهم وحُريّاتهم كباقي المواطنين..

إنَّ الحكومة خرقت حِرمة العدالة، واعتدتْ وظلمتْ وطغتْ، بما قامت وتقوم بهِ، ولم تُراع أبسطُ حقوق المواطنة، فأظهرت أنها حكومةٌ طاغيةٌغادرة عاصية إرادة الشعب، مستهترة بالقوانين.. لذلك فإن الحزب سَيُردُّ عليها ويُقابلُ القوّة بالقوّة، فيُنقِذُ بذلكَ كرامتهِ المطعونة وشرفهِ وحقوقهِ... بناءً عليهِ.. مطلوبٌ من كل واحد منكم أن يشتري سلاحاً، ويستعد لتنفيذِ الأوامر التي ستوجّهُ إليه".

أظهرَ بعضَ الرفقاء استعداداً للتلبية، واعتذر البعض الآخر، لأنّهُ لم يكن بوسعهِ شراء سلاح.

نمنا تلك الليلة في الكرم، وعند الفجر عادَ الرفقاء إلى راشيا، لمزاولة أعمالهم، بعدَ أن تقرر تكليف أحدهم، مُراقبة مدخل البلدة، واعلام الجميع، في حال وصول رجال أمن أو درك، لكي يختفي الرفقاء في الأحراج والكروم، فلا يُلقى القبض على أحد منهم.

ورافقتهم مع الفجر إلى البلدة، حيثُ لجأتُ إلى بيت أخي الرفيق حليم حردان(4) فقضيت النهار فيه، وأنا مُصمّم على أن اكون أول من يشتري بندقية لكي يقتدي بي الآخرون.

قال لي أخي حليم أنّهُ يُمكن العثور على سلاحٍ للبيع في قريةِ الماري، فقررتُ أن أقصدها ليلاً.

غادرتُ راشيا عندما سقطَ الظلام قاصِداً بلدة الماري وعندما وصلتها نحو الساعة العاشرة ليلاً، لقيتُ في أولها صُدفةً، الرفيق سعيد قيس من حاصبيا، فسلمت عليهِ وأخبرتهُ بقصدي، فقال لي أنّهُ يوجد سلاح للبيع في مزرعة "الدحيرجات" القريبة، فطلبتُ منه أن يُرافقني إليها فلبى الطلب(5).

وفي الدحيرجات وجدنا لدى بدوي يقطن فيها، بُندقية انكليزية ومعها 70 خرطوشة، فاشتريتها منه بعد أن جرّبتها، ثم ودّعت الرفيق سعيد وعدتُ إلى راشيا، فوصلتها نحو الساعة الخامسة مع الفجر.

قضيتُ ذلك النهار في بيت مهجور، يخصُّ الرفيق نعمةالله حردان، والجدير بالذكر، أن كل عائلات القوميين وكل أصدقائهم في راشيا، وكل امرأة وكل فتاة منهم، كانت عيناً ساهرة ورقيباً مُتنبهاً، يُسارع لتحذير الرفقاء عندَ قدومِ رجال درك أو أمن.

واني اذكر بأنّني بينما كنتُ مُتخفياً في ذلك البيت المهجور الذي سبق ذكره، وصلت فجأة السيدة زكية حنّا(6)، زوجة الرفيق عبدالله متري، وأخبرتني أن خمسة من رجال الدرك وصلوا بيت المختار، وراحوا يسألونَ عني، فبقيتُ جالساً هادئاً مُطمئناً، لأنّي كنتُ على يقينٍ بأنَّ لا أحدٍ من خصومِ الحزبِ في راشيا، يَعلمُ أني موجودٌ فيها، أو يخطرُ على بالهِ اني مُختبئ في ذلك البيت.

وفي مساء ذلك اليوم، عادَ الدرك إلى مقرّهم في "مرجعيون"، دون أن يتمكنوا من إلقاءِ القبض سوى على رفيقٍ مُهمل، كنا لا نعتبرهُ منا، أما الباقون فكانوا قد غادروا البلدة عند وصول الدرك، وتغلغلوا في الأحراج الكثيفة التي تقع شرقها وشمالها.

عندما هبطَ الليل غادرتُ راشيا إلى بلدة ابل السقي، حيثُ عقدتُ اجتماعاً لبعض رفقائها في بيت الرفيق حليم السويدي، ووضعتهم أمام الصورة، فقالوا أنّهم على استعدادٍ لِتلبيةِ أوامرِ الحزبِ، إذا تأمَّنَ لهم السلاحُ اللازم.

عُدتُ إلى راشيا في الليلةِ نفسها، يُرافقني الرفيق يوسف الصّباغ، الذي أبى أن يُفارقني بعد ذلك.

قضيتُ النهار التالي في مكانٍ أمين بين الأحراج، يُدعى "عين ما بين" قُربَ ينبوعٍ صافٍ رقراق.

وعندما حل الظلام، جاء بعض الرفقاء فناموا معي في ذلك المكان، وأخبروني أن ثلاثة منهم قرروا شراء أسلحة، عندما رأوا البندقية التي اشتريتُها.

وفي الليلة التالية ذهبَ اولئك الرفقاء الثلاثة، الذين كانوا جميل متري، وأبو علي(7) ونجيب رشيد، إلى "الدحيرجات" فاشترى الأولان منهما بندقتين فرنسيتين، واشترى الثالث بندقية ايطالية، وكانَ قد لجأ إلى سرقةِ تنكةِ زيت من أبيه وباعها لكي يشتري بثمنها بُندقية.

لم يكن الرصاص الذي رافق تلك البنادق كافياً، إذ كان يُرافق كل بندقية 40 خرطوشة فقط، ولكن المشكلة انحلت، عندما جاءنا أخي الرفيق حليم حردان بمئة خرطوشة انكليزية ومئتين فرنسية.. كان مُحتفظاً بها من أيام حرب الفرنسيين الفيشيين والبريطانيين عام 1941.

وفي اليوم التالي قصدتُ بلدة الفرديس، حيثُ لنا مديرية صغيرة فيها، فوجدتُ الرفيق المدير الشاعر سليمان سليقه(8) على وشك السفر إلى الأرجنتين، فلم ألمس منهُ استعداداً للمشاركة في الثورة، فعذرته.

الخلاصة.. بقيتُ أتجول ليلاً بين المُديريات نحو عشرة أيام، فزرتُ ابل السقي والماري والفرديس وعين جرفا وحاصبيا وميمس.. فتبين لي أنّهُ ليس لدى الرفقاء سلاح، وانهم على استعداد للمشاركة في الثورة إذا تأمن لهم السلاح.

كانَ قد مرَّ أكثر من عشرة أيام على مُغادرتي بيروت دون أن تصلني تعليمات من الحزب، فبدأ القلق يستحوذ علي، ورحتُ أُفكر فيما يجب عليَّ القيام به، إلى أن قرّرت ارسال أحد الرفقاء إلى مشغرة، ليستوضح من أحد المسؤولين القوميين عما يجب القيام به، ويعرف أين أصبح مقر قيادة الحزب.

كلفت الرفيق مفيد العدس(9) أن يقوم بهذه المهمة، فسارع للذهاب إلى مشغرة، وعاد منها بعد يومين ليخبرني أن مقر قيادة الحزب أصبح في دمشق، وعليَّ الاتصال بها.

قررت عندئذٍ أن أذهب إلى دمشق، بطريق جبل الشيخ سيراً على الأقدام.

وفي صباح اليوم التالي توجهت إلى شبعا قاصداً الجبل يرافقني الرفيق يوسف العدس، وبعد مسيرة اربع ساعات وصلناها.

وتابعت السير مع الرفيق يوسف العدس، فبلغنا ظهر الجبل بعد سبع ساعات، ثم رحنا ننحدر شرقاً قاصدين بلدة عرنة(10) في الأراضي الشامية، في سفح جبل الشيخ الشرقي، التي كنت أعلم أنّهُ يوجد لنا فيها رفقاء.

وبلغناها مساءً بعد سير طويل انحداراً، ورحنا نسأل فيها عن مدير الحزب، وسرعان ما اكتشفنا أن الرجل الذي سألناه هو رفيق لنا بادرنا قائلاً:

- أهلاً وسهلاً.. هلمّوا بنا إلى بيت حضرة المدير الرفيق رشيد مجاعص.

رحبَّ بنا المدير ودعا بعض الرفقاء ليسهروا معنا.

في اليوم التالي قصدنا دمشق في سيارة رُكاب كبيرة، فوصلناها نحو الساعة العاشرة قبل الظهر، واتجهنا إلى مكتبة الرفيق يوسف اليازجي في شارع النصر.

وفيما أنا اسأل الرفيق الذي وجدته في المكتبة، عن الرفيق اليازجي، فوجئت بوصول الأمين عجاج المهتار، الذي انتحى بي ناحية وسألني:

الامينان عجاج المهتار ونواف حردان

أنتَ هُنا. ألم تصلك رسالة من الزعيم؟

وعندما أجبتهُ نفياً.. قال:

لقد أرسلها لك الرفيق عساف كرم بواسطة مديرية عرنة، ويبدو أنها ذهبت بطريق وأتيت بطريق آخر.

بعد قليل كان يجتذبني من يدي.. فسرت إلى جنبه واثقاً طائعاً، خاصة وانه كانت تربطني بالأمين عجاج رابطة تعاطف وتفاهم وصداقة كبيرة جداً.

واستقلينا أحد السيارات.. فسارت بنا إلى حيث لا أدري.

وظننت ونحنُ في السيارة أننا نقصد مقابلة أحد المسؤولين.. كالأمين معروف صعب أو سواه فسررت لذلك.. إذ كنت بلهفة كبيرة لتلقي معلومات حول ما يجب عليَّ القيام به.. في منطقتي تلك الأيام العصيبة.

وقفت السيارة بنا.. إلى جانب حديقة أمام بناية كبيرة.. (لم أكن أعرف دمشق وشوارعها) ودعاني الأمين عجاج للترجل ففعلت وأنا كالمعصوب العينين.

واتجهنا إلى بيت مسور بسور حديدي مقابل الحديقة فدخلنا البوابة الأولى..

وسرنا بضع خطوات، إلى أن بلغنا باب البيت فضغط عجاج على زر فيه ثم ضغط على زر في باب البيت، وما أن انتظرنا برهة حتى فُتحَ الباب من الداخل.. وأطل منهُ شاب عملاق أحمر الوجه أشقر الشعر مجدول العضل.. عرفتُ مباشرة بأنه الرفيق عساف كرم، وإلى جانبه شاب آخر أقصر منه.. لا يقل عنهُ قوّة وهيبة.

وكان العزم والتصميم والحماس والايمان والقوّة.. بأجلى مظاهرها.. تتجسد في ذينك الرجلين وعيونهما لامعة برّاقة.

عرفت عساف لأنه كان لي به معرفة سابقة.. ولم أعرف الآخر.. إلّا أن الأمين عجاج سارع بتقديمه لي قائلاً:

- الرفيق زيد الأطرش.

ما أن طرقَ سمعي ذلك الاسم.. حتى أدركت أن الأمر خطير جداً.. وشممت رائحة الثورة.

ذلك أن الرفيق زيد الأطرش كان معروفاً في منطقتنا.. بأنه من المحاربين الأشداء والمقاتلين الصعبي المراس.

رحب بي الاثنان وأدخلاني إلى الداخل.. حيث جلسنا إلى طاولة.. وراح الرفيق عساف يسألني عما قمتُ به من استعدادات في مرجعيون وما سيتوفر لدي من سلاح، وفجأة.. قبل أن ابدأ حديثي رُفعت ستارة كانت تفصل الغرفة التي نحن فيها عن غرفة داخلية ثانية.. أطلَّ منها الزعيم نفسهُ رافعاً يده بالتحية.. وعلى ثغره ابتسامة مشرقة كالأمل الحلو الفسيح.. وهو يقول محدقاً فيّ بعينيه الطليقتين البارقتين:

- لتحيَ سوريا.. رفيق نواف.

وانتصبت واقفاً بسرعة.. أرد التحية وأمسكتُ باليد المباركة المُمتدة إلي تصافحني وتضغط على يدي بحرارة.

أدركت على الفور من نظرات الزعيم الفخورة الراضية.. وابتساماته المُشجعة أنّهُ يعرف ما قمت به في بيروت.. ثُمَّ في دمشق للمرة الأولى ثُمَّ في مرجعيون.

وليسمح لي القارئ أن اسجل هنا بأنني كنت من الرفقاء القلائل جداً في الحزب.. في تلك الأيام العصيبة، الذين طرحوا أنفسهم في آتون الثورة من تلقاء أنفسهم.. وذهبوا يبحثون عنها برغبة وشوق ولهفة وإقدام وتصميم وحرارة دون أن تبحث عنهم.. ودون أن يطلب مني أحد ذلك.

وكان الزعيم يعرف ذلك تمام المعرفة.. فانتشلني من نشوتي الكبيرة وسروري العارم لرؤيته بلهجته اللطيفة وصوته الحنون الآسر.

- ألم تصلك رسالتي يا رفيق نواف؟

- كلا حضرة الزعيم، من المرجح أنها ذهبت بطريق وأنا أتيت بطريق آخر.

- لا بأس، لا بأس، فعلت حسناً إذ أتيت.. اجلس واخبرني تفصيلاً بما عندك، بلغني أنك تجمع القوات القومية الاجتماعية في مرجعيون. حسن جداً، عال، عال.

وجلس إلى راس الطاولة.. وجلست إلى جانبه مقابل الرفيقين عساف كرم وزيد الأطرش، وانتشلت من جيبي ورقة كنت مسجلاً فيها عدد الجنود في ثكنة مرجعيون وعدد الضباط وأسمائهم، وكمية الأسلحة ونوعها، معلومات كنتُ قد حصلت عليها من رفقاء لنا في الجيش متواجدين في الثكنة، ورحت أشرح للزعيم بعض الأمور عنهم وهو يصغي ويبتسم.. إلى أن سألني:

- علمت بأنك كُنتَ جُندياً في الجيش يا رفيق نواف، فهل خدمت في تلك الثكنة؟

- نعم حضرة الزعيم.

- صف لي ثكنة مرجعيون، أو ارسم على هذه الورقة خريطة لها.

رحت أصف الثكنة بدقة، ثُمَّ أمسكت القلم الذي قدمهُ لي ورسمتُ خريط على قدر الأمكان، وكان الرفيق عساف يُراقب ما أرسم فأبدى موافقته، قائلاً انهُ خدم كضابط لبناني سابق في تلك الثكنة وهو يعرفها.

وراح الزعيم يتابع ابتسامته ويهز رأسه.. فشجعني ذلك وبدأت أقدم اقتراحي للخطة التي كنت قد وضعتها لاحتلال

الثكنة والاستيلاء على أسلحتها، فقلت:

- يوجد بين الرفقاء في منفذية مرجعيون من كانوا جنوداً في الجيش اللبناني ويعرفون جيداً ثكنة مرجعيون من الداخل، كما يوجد رفيق لنا هو رقيب مسؤول عن مستودع الأسلحة والثياب.. هو ابن عمتي، على استعداد أن يسلمنا خمسة أزياء عسكرية لكي يرتديها خمسة من رفقائنا في اليوم الذي نقرره نحن، وفي مساء ذلك اليوم عندما ينفخ بوق اطفاء الأنوار يدخل هؤلاء الخمسة وأنا بينهم إلى الثكنة فلا يفطن لهم الحارس الرئيسي على البوابة لأنهُ لا يعرف كل الجنود، ونبقى نحن المُتسللين الخمسة مُختبئين في زوايا نعرفها قرابة النصف ساعة أو ساعة بعد اطفاء الأنوار ولجوء الجنود إلى مهاجعهم وأسرّتهم، وعدم بقاء سوى واحد على كل من البوابتين الجنوبية والشمالية، وثالث على السطح من جهة الشمال، عندئذ نقصد الرقيب رفيقنا المسؤول عن مخزن الأسلحة، فيُسلمنا المفتاح متظاهراً بأنّهُ هوجم وضُرب ونستولي على الأسلحة كلها، ثُمَّ نهاحم مركز الحراسة ونجرد الحراس القلائل.. وبينهم رفقاء، من أسلحتهم، وهكذا نستولي على الثكنة بما فيها، لأن باقي الجنود لا يستطيعون القيام بشيء وهم عُزّل من السلاح نيام في مهاجعهم. أثناء ذلك يكون رفقاء آخرون لنا ينتظرون في سيارة شحن على الطريق العام بالقرب من الثكنة، وعند اعطاء الاشارة المُتفق عليها معهم، يأتون إلينا بالسيارة فنحمّلُها أسلحة ونخرج بها إلى مكانٍ بعيدٍ مُعيّن، حيثُ تصبح كلها ملكاً لنا، أو نبقى في الثكنة ونستقدم إليها رفقاء آخرين ونُعلن احتلالها، ان اختيار أحد الأمرين يعود للقيادة.

وتابعت وأنا أرى الزعيم يصغي باهتمام:

- أُقدم هذا الاقتراح.. نظراً لعدم وجود سلاح لدى الرفقاء للقيام بالثورة، هكذا سمعتُ من رفقاء راشيا الفخار وميمس وحاصبيا وغيرها.

كان الزعيم يصغي بانتباه وعيناه تبرُقان وبوادر الاهتمام تبدو على وجههِ، وبدا انهُ أخذَ يُفكّرُ جدياً بما عرضت، ولكن الرفيق عساف كرم تدخل وراح يمتدح للزعيم أفضلية الخطة الأولى التي كانت مُقررة قبل وصولي والتي أخذ يشرحها قائلاً لي:

- سينطلقُ الرفيق زيد الأطرش من الحدود الشامية مع رجالهِ لاحتلال قلعة راشيا الوادي، وبالوقت نفسه سأنطلق مع رجالي إلى مشغرة فأحتل مخفرها ومنها إلى نيحا الشوف ثُمَّ إلى قلبِ الشوف حيثُ التقي الأمين عبد المسيح ونشعُلها معاركٍ حامية في قلبِ لُبنان، أثناء ذلك يخرج الرفيق عبدالله محسن مع الدنادشة إلى البقاع كما يُهاجمُ رُفقاء لنا من جهات طرطوس وصافيتا شمالي لبنان ويتقدمون فيه. بعدَ احتلال راشيا يُتابع الرفيق زيد جنوباً فيلتقي بك في مكان تنتظره فيه، وتُتابعان إلى حاصبيا ومرجعيون، ثُمَّ إلى صيدا.

قاطعتُ الرفيق عساف بلطف، ورحتُ اشرح لهُ محاسن خُطتي، ودار نقاش بيننا حول الخطتين.. وأخيراً سألت:

- والسلاح: هل السلاح متوفر بكثرة؟

- توجد منه كمية كافية - أجابَ عساف. عندئذ تدخل الزعيم سائلاً:

- ما اسم قائد الفوج في مرجعيون؟

- المُقدم حيدر- أجبت، والمُلازم غازي قائد موقع الخيام.

وتابعتُ مُسمياً الضباط الآخرين.

- هذا "الحيدر"- قال الزعيم- انتمى للحزب وأقسمَ اليمين عام 1937، لا بأس من أن تكتب لهُ تذكرهُ بذلك لعلَّ وجدانهُ يستفيق، أمّا المُلازم غازي فلا خطر منه.

- أرى الآن أنّهُ ليسَ من المُناسبِ تغيير الخُطة الأولى لأننا قد سُرنا بها شوطاً بعيداً، لو كُنتَ وصلتَ قبلَ هذا الوقتِ لكان بالإمكان درس خُطتكَ بإمعان وعُمق وإدخال بعض التعديلات على الخطة الأولى، وتنفيذ الاثنتين معاً بتناسق. لم يبقَ لدينا وقت الآن للتعديل وتبليغ المُكلفين القيام ببعض المهمات في أماكن بعيدة. بعدَ ثلاثة أيام سيسير الرفيقان عساف وزيد كل على رأس رجالهما إلى لُبنان.

وصمتَ قليلاً ثُمَّ تابع:

- سوفَ أصدرُ أمراً بتعيينك نائباً للميليشيا لتتسلّم قيادة الرفقاء في مرجعيون رسمياً، وتكون قائد مسيرة الرفيق زيد الأطرش، الذي بعد أن يحتل قلعة راشيا يُتابع سيره جنوباً إلى أن يصلُ إليك حيثُ تنتظره، تعال نُعيّن مكاناً تنتظرهُ فيه.

وطلب من الرفيق عساف، فأتاه بخريطة مُكبرة للبنان نشرها أمامهُ على الطاولة، فحدّقَ بها الزعيم وقال:

- عين عطا، أتعرف عين عطا؟

- أعرفها جيداً، ولنا فيها رُفقاء.

- حسناً جداً، بإمكانك اذن مع الرفقاء المسلحين الذين تقودهم أن تناور فرقة الجيش المتواجدة في مرجعيون لتلفت انتباهها إليك، وتستدرجها إلى الجبل شرقاً، فيخلو الميدان أمام زيد لتنجح خطتهُ في راشيا. حاول أن تستولي على أسلحة الدرك في مخفري شبعا وحاصبيا أولاً، ولكن إيّاك أن تُعامل رجال الدرك بقسوة، لأنهم منا ولنا ولا يد لهم في الأمر. افعل هكذا بالضبط: استولِ على الأسلحة في شبعا وحاصبيا، ثُمَّ تُراجع إلى عين عطا وابقَ هناك مُنتظراً الرفيق زيد، فإنّهُ بعد أن يضرب ضربته في راشيا يذهب ويُلاقيك هُناك، ثُمَّ تزحفان إلى حاصبيا، ومنها إلى مرجعيون ثُمَّ إلى صيدا، استعدْ للانطلاق بعد الغداء، لكي تتمكن من الوصول في الوقت اللازم فيضرب الجميع ضرباتهم في وقت واحد.

- انني على تمام الاستعداد للسير إلى الموت في سبيل القضية ولو كنتُ اعزل، ولكن الرفقاء في مرجعيون لا سلاح لديهم، فهل بالإمكانِ تزويدي ببعض السلاح لكي يرى الرفقاء ذلك وينتعشون.

- نعم بالإمكان.. ونادى رفيق مظهر.

وأطلَّ الرفيق مظهر شوقي(11) الذي لم أكن أعرفهُ بعد، طويل القامة عملاقاً، وإلى جانبهِ الرفيق ادمون كركور(12).

- عندما يخرج الرفيق نواف سلمه ثلاث بنادق وكرارين، على أن يسلمه الرفيق زيد ما يحتاج إليه عندما يلتقيان، وأنت يا رفيق أدمون أوصلهُ بسيارتك إلى "عرنة" كسباً للوقت.

وقال الرفيق عساف كرم:

- هُناكَ جسرٍ على طريقِ حاصبيا- راشيا الوادي، يجبْ نسفه، لكي تتعرقل مسيرة الجيش فيما إذا حاول التوجه من مرجعيون إلى راشيا ، فهل بالإمكان القيام بذلك؟.

- ليسَ لديَّ خبرةً بأعمالِ النسفِ يا حضرة الزعيم ولكن الرفيق رشيد مجاعص مدير عرنة هو بنّاء، فإذا كتبتم له بذلك يكون أوفق.

- حسناً، سأكتب لهُ الآن، يا رفيق مصطفى، وحضر الرفيق مصطفى سليمان(13) الذي كنتُ أعرفهُ كمنفذ عام للطلبة في بيروت، فقدمهُ لي الزعيم كناموس لهُ، ثُمَّ طلبَ منهُ أن يكتُب أمراً بتعييني في الميليشيا، فخرجَ الرفيق مصطفى ينفذ الأمر ثُمَّ عاد بعد دقيقتين وسلّمَ الزعيم أمراً مكتوباً، فوقعهُ وسلمني اياه فقرأت فيه ما يلي:

الحزب السوري القومي الاجتماعي

القيادة العليا

أمر يومي

قُلّدَ الرفيق نواف حردان رتبة نائب في الميليشيا، وأُسندت إليه قيادة القوميين الاجتماعيين في منطقة مرجعيون.

في 16 القائد الأعلى

التوقيع

انطون سعاده

ثُمَّ كتبَ رسالة للرفيق رشيد مجاعص الشويري الأصل يكلفه فيها بمرافقتي وتنفيذ ما أُعهدَ بهِ إليه.

كان الوقت قد اصبح ظُهراً، فوصل الرفيق نجيب الشويري (صاحب البيت) واستأذن الزعيم بوضع طعامُ الغداء فأذن لهُ، بعدَ أن دعاني للبقاء وتناول الغداء معهُ.

ودخل قليلاً إلى غُرفتهِ الخاصة وعادَ بعد قليل وبيده كتاب كبير وورق وقلم، وقد اختفت من وجهه علامات التركيز الذهني والحزم التي كانت تبدو عليه وهو يضع الخطط ويُصدرُ الأوامر، وبدا مشرق الوجه راضياً مُبتسماً وراح يُداعب الرفيق زيد الأطرش والأمين عجاج المهتار اللذين دخلا سويةً، طالباً من زيد أن يتعلم نظم الشعر من عجاج، ومن عجاج أن يُسمع بعض شعره لزيد.

ودخل تلك اللحظة الرفيق عصام المحايري وأسرَّ للزعيم أن رجال الأمن الشامي صادروا من المطبعة بيان الثورة، الذي كان قد وضعه فيها الرفيق يوسف اليازجي لتطبعه، فَقَطَبَ الزعيمُ حاجبيهِ وأوعزَ لعصام أن يتصل بالعقيد أديب الشيشكلي ويطلب منهُ أن يهتم بالأمر ويعمل لاستعادةِ البيان.

وخرج عصام ينفذ الأمر، فسألتُ الزعيم عن البيان وإذا كان بالإمكان تسليمي نسخاً منه لأوزعها في منطقتي، فقال لي بأنهُ سيرسل كميات منه بعد طبعهِ مع الرفيق زيد، ولكنهُ استدركَ وطلبَ من الرفيق مصطفى سليمان أن يطلعني على بيان سابق كان قد أصدرهُ الزعيم، فقرأتهُ وأذكر أنّهُ كان ينتهي بهذهِ العبارة:

"لقد كان الانتداب الفرنسي صاحب الفضل في إزاحة الستار عن نشوء الحركة السورية القومية الاجتماعية وسوف تكون الحكومة اللبنانية صاحبة الفضل في إزاحة الستار عن انتصار الحركة السورية القومية الاجتماعية الانتصار الكامل؟"

"إننا سنحفظ للحكومة اللبنانية هذا الفضل عند الحساب".

وعاد الزعيم بعد ذلك، ونحنُ ننتظر الغداء، إلى مرحهِ، يُحادثنا ويُداعبنا ويوحي إلى كل منا ونحنُ على وشك السير إلى الثورةِ وساحاتِ القتال، بالراحة النفسية والثقة بالانتصار، وراح يوجه الحديث كما يشاء متنوعاً سلساً عذباً مُنتعشاً بالعزمِ والتصميم طافحاً بالأملِ، وبعد توقف قليل أجابني عندما سألتهُ عن الكتاب الذي يحمله:

- انهُ كتاب بالإلمانية عن معركة "كاني" الكبيرة التي خاضها هاني بعل ضد الرومان وانتصر فيها انتصاراً ساحقاً، اقرأهُ الآن لاستعينَ ببعض المعلومات الواردة فيه، وأنا اكتُب كتاب "نشوء الأُمة السورية" الجزء الثاني من جديد، لقد أنجزتُ كتابةَ ثلاثةِ فصول من هذا الكتاب يا رفيق نواف.

واستولى عليَّ التعجب وأنا أسمع ذلك، وامتلكتني الدهشة، ورحتُ أسألُ نفسي:

- ماذا؟ أيكتب الزعيم في هذه الأيام؟ أيكتب في نشوء الأمم والتاريخ وعلم الاجتماع، وهو يقود الثورة والبلاد في غليان، ودمه مهدور.. والحكومة اللبنانية تطلب رأسه وتضع الجوائز لمن يدل على مكان وجوده، والسجون تعج بالرفقاء.. والموت على الأبواب؟؟ أيقرأ في مثلِ هذه الظروف، أي أعصابٍ هي أعصابُ هذا الرجل؟

وكيف يستطيع أن يكون هادئاً رابط الجأش صافي الذهن.. كيفَ يُركز أفكاره ليقرأ ويغوص في أعماق التاريخ ويكتب فيه، والبلاد أمام بركان، وقد تعصف العواصف في حزبه الذي هو أمام معركة يترتب عليها مصيره ومصير أعضائه إلى سنين عديدة، وقد تكون حياته هو نفسه في خطر..

ودنوت منه عندئذٍ مُعجباً مدهوشاً، فرأيتهُ يبتسم للرفقاء، وسمتعهُ يقولُ لهم كأنه يجيب على أسئلة تراود أذهانهم.

- لا تضطرب أعصابكم عند الخطر.. فإن الخطر في اضطراب الأعصاب.

فوجدتُ فيما يقول جواباً على أسئلتي أيضاً وباركتُ البطن الذي حمله.

وجلسَ من جديد إلى رأسِ المائدة لتناول الطعام.. وجلستُ إلى يمينه وأنا فخور معتز، فتناول رأس بندوره وقطعهُ نصفين، استبقى النصف الأول في صحنه ووضع الثاني في صحني، ودعاني لكي أتغدى جيداً لأنني على سفر.

ورحنا نتناول الغداء، عساف، وزيد، وعجاج، ومصطفى سليمان، ونجيب الشويري وأنا.. وهو يُلاطف الجميع فرحاً مسروراً، كأنّهُ ليست هُناك ثورة ولا من يحزنون، بل نزهة سنقوم بها للترويح عن النفس..

ونهضتُ عندما انتهى الغداء أريد الانصراف فأمسك يدي مُصافحاً وضغطَ عليها وهو يحدق بي بعينيه النافذتين الوديعتين مُبتسماً تلكَ الابتسامة اللطيفة الحنونة، التي ستظل ماثلة أمامي إلى آخر ساعة من حياتي.

ودعتهُ بحرارة، وقلبي يخفُقُ على يدي، ثُمَّ رفعتها أُحييه التحية القومية الاجتماعية، فأجابني بمثلها رافعاً يدهُ أيضاً، تُشيرُ إلى طريقِ البطولة وطريق الحياة.

وكانت تلك المقابلة، المقابلة الأخيرة.

وكان ذلك الوداع، الوداع الأخير.

هوامش:

(1) جورج بلدي: مراجعة النبذة المُعممة عنه في قسم من تاريخنا على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

(2) سامي الخوري: الدكتور، الأمين، وعميد الإذاعة. للاطلاع مراجعة النبذة المعممة عنه على الموقع المذكور آنفا.

(3) جورج معلوف: من راشيا الفخار، ومن سنديانات الحزب فيها وفي منطقة العرقوب، مُنِحَ رُتبةَ الأمانة، للاطلاع أكثر مراجعة قسم من تاريخنا على الموقع المذكور آنفا.

(4) حليم حردان: مناضل قومي اجتماعي، شقيق الأمين نواف حردان والد رئيس الحزب السابق الامين أسعد حردان.

(5) من يعرف المنطقة، يُدركُ مشقّة الانتقال سيراً على الأقدام من بلدة إلى أُخرى.

(6) زكية حنا: شقيقة الرفيق فؤاد حنا، غادرت مع زوجها الرفيق عبدالله متري إلى سان باولو، واستقرا فيها.

(7) ارجّح انه الرفيق جريس الغريب والد الرفيق علي الغريب.

(8) سليمان سليقه: شاعر مهجري في الأرجنتين، للاطلاع على النبذة المعممة عنه مراجعة الموقع المذكور آنفا.

(9) مفيد العدس: غادر إلى غانا مُحققاً نجاحاً في أعماله ومستمراً على التزامه الحزبي .

(10) بلدة عرنه: للحزب حضور جيد في البلدة، التابعة حزبياً إلى منفذية "حرمون". لا اذكرها الا واذكر معها الرفيق المخلص، المُتفاني، نقولا صليبا، وقد نشرتُ عنهُ أكثر من مرة (مراجعة الموقع المذكور آنفاً).

(11) مظهر شوقي: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

(12) ادمون كركور: مراجعة الموقع المذكور آنفا.

(13) مصطفى سليمان: كما آنفاً.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024