إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

ثورة تموز ثورة العز والكرامة حاربنا تحت شعار: «إنكم أصغر قوة تحارب لتغيّر مجرى التاريخ»

اياد موصللي - البناء

نسخة للطباعة 2017-07-05

إقرأ ايضاً


وفي الثالث من تموز وكان يوم أحد تلقينا تعليمات تقضي بوجوب الحضور إلى جسر فكتوريا، وكان موعد التجمع في الساعة السادسة مساء في نقطة محدّدة، حيث يكون هنالك مسؤولون حزبيون لديهم تعليمات سوف يبلغوننا إياها، وهناك أبلغنا أننا سنذهب إلى لبنان… وبعد تجمعنا طلبوا منا الصعود إلى حافلات كبيرة كانت متوقفة. ركبنا إحدى الحافلات وكان عدد السيارات اثنتين بعد أن اكتمل عددنا توجهت السيارتان نحو طريق بيروت، وقبل الوصول للمنطقة المعروفة بـ زرزر ، قبل ميسلون وجدنا سيارة متوقفة ممتلئة بأعداد من القوميين قادمين من محافظة السويداء بقيادة الرفيق زيد الأطرش وأصبح عدد سياراتنا ثلاث. كنت ارتدي ثياباً عسكرية مع جزمة وهي ثيابي في فلسطين، دخلنا طريق دير العشائر والدنيا ليل حالك، أثناء سيرنا دوّى انفجار قوي لم نعرف سببه ولا مصدره، توقفنا مستطلعين وتوقف كامل الموكب، وبدأنا ننظر من النوافذ وكم كانت دهشتنا عجيبة عندما شاهدنا الزعيم ومعه عدد من المسؤولين يتجه نحو مصدر الصوت كان يرتدي بنطلوناً قصيراً ويضع على كتفه جاكيتته، وتهامسنا… سعاده، سعاده، هذا هو الزعيم انه يرافقنا، وبخطى ثابتة توجه نحو مصدر الصوت، وتبيّن انّ الانفجار نجم عن عجلة الباص الأمامي ودويه كان قوياً بفعل المنطقة المقفرة الهادئة ليلاً.

قفز الجميع نحو النوافذ الكلّ يريد ان يرى الزعيم، وبعد إبدال العجلة تابعنا السير وكان الزعيم يركب سيارة صالون يقودها الرفيق صبحي فرحات وبجانبه عدد من المسؤولين، ما كدنا نسير قليلاً حتى اعترضتنا دورية من رجال الدرك فأوقفتنا لأنّ هذا الطريق ممنوع اجتيازه إلى لبنان أو إلى سورية دون إذن خاص واستغرق وقوفنا ما يقارب الساعتين وفيما كان النقاش جارياً بين الدورية والمسؤولين وصلت ثلاث سيارات بيك آب شرطة عسكرية سورية ترافقها سيارة جيب وأفسحت لنا الطريق للمرور وتابعنا سيرنا حتى وصلنا نقطة قريبة من الحدود، وتعرف باسم «منقع التفاح» بوادي الحرير وهي تؤدّي إلى البقاع الغربي حيث تمتدّ بلدات دير العشائر سحمر، مشغرة… راشيا الوادي وهنالك توقفنا… نزلنا من السيارات واصطففنا صفوفاً نظامية، حيث جاء الزعيم فأخذنا له التحية هتف تحيا سورية وردّدنا يحيا سعاده… تحيا سورية…

وكانت على الأرض كمية من الأسلحة مكدّسة، وخلف الزعيم وقف الرفيق عساف كرم وبعض المسؤولين… وألقى الزعيم فينا خطاباً حفظت قسماً منه وسجلته عندما كنا في المغارة… قال سعاده: «انكم ذاهبون إلى لبنان حيث اعتدي عليكم وامتهنت كرامتكم، أنّ الحكومة اللبنانية اتهمتنا بالتآمر على سلامة الوطن، والتعاون مع الصهيونية، إلا أنهم عملاء الصهيونية اذهبوا ودافعوا عن كرامتكم، ولسوف تواجهون الجند بقيادة الرفيق الصدر عساف كرم، أوصيكم بالجند فهم آباؤكم ومنهم أبناؤكم، انهم ليسوا أعداءكم فلا تؤذوهم ولا تقسوا عليهم دافعوا عن أنفسكم أوصيكم ألا تعسفوا واشعروا الأهلين انكم اتيتم لتحريرهم، ولو أكلكم الجوع فلا تمدّوا أيديكم لشيء ليس لكم أبداً، نحن أتينا لنري الحكام أننا لا نبغي إلا مصلحة الشعب. انكم أصغر جيش في العالم يحارب ليغيّر مجرى التاريخ… لا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل، ولتحي سورية»…

ثم ودّعنا واحداً واحداً وصافحنا باليد وعندما وصل ناحيتي كنت أرتجف من شدة البرد فوضع يده على كتفي مبتسماً وقال لي: بردان رفيق اياد… وربّت على كتفي مرتين وهو يتكلم… وكانت هذه آخر مرة أرى فيها الزعيم أو أسمع صوته…

بعد ذهاب الزعيم وزع علينا الرفيق عساف الأسلحة فناولني بارودة انكليزية وثلاثين طلقة! وبقي ما يقارب 21 قومياً بدون سلاح… كان مجموعنا 68 قومياً… ركبنا سيارتي نقل وذهب الرفيق زيد الاطرش بسيارة فيها قرابة 23 قومياً آخرين وفي إحدى السيارتين وهي الثانية ركبت ومعي سعيد حماد وكنا المسؤولين عنها أمنياً وركب الصدر السيارة الأخرى وكان عددنا في السيارتين لا يتجاوز 45 قومياً…

أما الرفيق زيد الأطرش ومن معه وعددهم 23 قومياً فاتجهوا نحو بلدة راشيا حيث كانت مهمّتهم احتلال القلعة… التي ستصبح المقرّ الرئيس لتحركاتنا.. وتوجهنا نحو سهل سحمر حيث نزلنا في نقطة جبلية وعادت السيارات إلى سورية، صعدنا جبلاً ومنه دخلنا مغارة تدعى «الضبع» اختارها عساف كرم لأنها كانت مقراً له ولفصيلته العسكرية ابان الاحتلال الفرنسي والمعارك التي نشبت في المنطقة أثناء الحرب العالمية الثانية بين الجيش الموالي لألمانيا وقوات الحلفاء… مهمة مجموعتنا احتلال مخفر وسرايا مشغرة لفتح الطريق بيننا وبين بيت الدين… كنا ننتظر أن يأتي إلينا رفقاء حسب تعليمات سابقة لديهم ويحضروا المؤن التي نحتاجها، انتشرنا داخل المغارة ننتظر حلول الليل، في هذه الأثناء انتهزت فرصة الانتظار وأخرجت من جيبي ورقة وقلما وكنت دائماً أحملهما وسجلت فقرات من خطاب الزعيم، واسم المغارة ونقلتهما في ما بعد إلى دفتر يومياتي…

بعد جلوسنا مدة تزيد عن ساعتين حضر رفيق ادّى التحية وعرّف عن نفسه ديب الشمعة من مديرية مجدل بلهيص وأعطى كلمة السرّ وكانت «سعاده».

واحضر معه كيساً كبيراً يحوي كعك «قرشلّي» وبعد ان تحادث قليلاً مع الرفيق عساف ذهب على أن يعود لاحقاً. هنا أتوقف أمام حالة لا يمكن أن نرى مثلها في غير هذه المدرسة، لا سيما في ظرف مثل الظرف الذي كنا فيه، لم نكن ننقل معنا سوى أسلحتنا والعتاد… خرجنا من دمشق قرابة الساعة السادسة مساء، والساعة الآن تجاوزت الثانية عشرة من ظهر يوم 4/7.

ما يقارب ثمانية عشرة ساعة دون طعام، كان المتوقع وصول بعض المؤن من مديريات المنطقة التابعة لمنفذية البقاع… لم يعضّنا الجوع وانْ شعرنا بهمهمته وتأخر وصول الرفيق ديب المكلف بالارتباط بيننا وبين مسؤولي الحزب في المنطقة ولما وصل الرفيق ديب كان يحمل معه كيساً فيه كعك «قرشلي» وضعه وبعد استراحة ذهب ليعود بالمؤن… هنا وزع الصدر الكعك علينا فأصاب كلّ واحد منا أربع كعكات وقال: اعتبروا انّ كلّ كعكة هي زاد يوم فإذا لم يتمكن رفقاؤنا من إيصال المؤن أو تعذر ذلك فهذه مؤونتنا في الوقت الحاضر ولن نمدّ يدنا إلى أحد أو نغتصب موادّ من القرى! نعم هكذا حرفياً وأنزلنا من مخزون العقل والفؤاد من التربية والإيمان القومي الاجتماعي ما يملأ معدتنا مسانداً قطعة الكعك… نعم نعم هذه المدرسة هيأتنا لأمر خطير يساوي وجودنا، لذلك هانت كلّ الصعوبات، حضر الرفيق ديب في ما بعد ومعه مؤن كافية لشحن المعدة الخاوية وإعطائها ما يمدّ في صمودها إلى يوم آخر…

وعند حلول المساء نادى الصدر الرفقاء، جورج حمصي أبو زيكار وادمون كركور، موسى عوض وأعطاهم مجموعة تبلغ حوالي 5000 منشور تحوي بيان الحزب عن الثورة القومية الاجتماعية: وطلب اليهم إيصال هذه المناشير إلى مديرية مشغرة، وذهب هؤلاء بعد أن ركبوا سيارة صغيرة للرفيق جورج حداد، وقبل وصولهم إلى مقصدهم اعترضهم حاجز تفتيش وعثر على المناشير وقبض عليهم، وعند التحقيق معهم لم يعترفوا بوجودنا وقالوا إنهم وصلوا الآن… وهذا بعض ما تضمّنته المنشورات من بيان الثورة القومية الاجتماعية الأولى:

«إنّ الحزب القومي الاجتماعي يعلن الحكومة طاغية خارجة عن إرادة الشعب، معرّضة خيره للمحق وسلامته للخطر، ويثبت هنا ما أعلنه من قبل في صدد المجلس النيابي الذي تشكل بتزوير فاضح للانتخابات التي جرت سنة 1947 في جو من مطاردة السياسيين وإرهاب المعاكسين وتزوير إرادة الشعب ويعلن الثورة الشعبية العامة لأجل تحقيق المقاصد التالية:

1 ـ إسقاط الحكومة وحلّ المجلس النيابي واعتبار مقرّراته التشريعية في السياسة الداخلية الناتجة عن مساوئ خصوصية باطلة.

– تأليف حكومة تعيد إلى الشعب حقوقه وحريته وإرادته المسلوبة.

– وضع دستور صحيح ينبثق عن إرادة الشعب يحلّ محلّ الدستور الحاضر الفاقد الصفة الدستورية الصحيحة ويضمن المساواة في الحقوق المدنية والسياسية لأبناء الشعب ويجعل التمثيل السياسي على أساس المصلحة القومية بدلاً من أساس المصالح الطائفية والعشائرية الخصوصية توطيد الاستقلال اللبناني على أساس إرادة الشعب الحرة.

– احترام المعاهدات والاتفاقات المعقودة مع دول أجنبية.

– تحقيق المبادئ القومية الاجتماعية الإصلاحية التالية:

ـ فصل الدين عن الدولة.

ـ منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القومي.

ـ إزالة الحواجز الطائفية بين مختلف الطوائف والمذاهب في الاجتماع والثقافة.

ـ إلغاء الاقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الانتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والوطن.

ـ تطهير إدارة الدولة من الرشوة والفساد والتحكم.

ـ تخطيط سياسة اقتصادية قومية ترتكز على الوحدة الاقتصادية في البلاد السورية وضرورة قيام نهضة صناعية زراعية على أسس متينة.

ـ المباشرة بسرعة بإزالة الحيف عن العمال والمزارعين.

ـ القضاء على الاحتكار والطغيان الرأسماليين وإلغاء جميع الأحكام الخائنة لحرية الشعب والعابثة بحقوق أبنائه والتي فرضت بجشعها ورعونتها الثورة للدفاع عن الحرية المقدسة وعن حياة الشعب وإرادته.

وقد قبلت حركة الشعب الكبرى التحدي وأعلنت الثورة. فإلى الثورة على الطغيان والخيانة أيها الشعب النبيل».

التحرك من المغارة

تحركنا من المغارة سالكين طرقاً فرعية يرشدنا الرفيق ديب شمعة إلى الطريق حتى وصلنا وادياً ودخلنا طاحونة هناك وكانت خالية تماماً وتقع قريباً من نهر الليطاني وبعد مكوثنا بقليل حضر أشخاص وتحادثوا مع الصدر عساف ثم ذهبوا، بعد ذلك قام الصدر ففرز مجموعة من 20 رفيقاً بكامل أسلحتهم وبقينا ما يقارب 25 معنا أربع بنادق فقط بندقيتي وواحدة مع نائل نديم وواحدة مع نبيه شمس الدين وواحدة مع سعيد العظم والتفت إليّ وقال أنت المسؤول هنا من بعدي وأوصاني بالانتباه الشديد وقال حرفياً: «إنني أضع أرواحهم بين يديك»… والتفت نحو الرفقاء وقال: الرفيق إياد هو المسؤول عنكم عسكرياً وهو يعدّ خلفي هنا وكلامه ككلام الزعيم نفسه فعليكم إطاعته وتنفيذ أوامره ـ وردّد الرفقاء نعم وهنا انتحى بي جانباً وأبلغني ما يتوجب القيام به لتأمين الطريق والحراسة والمحافظة على الذخائر التي بين أيدينا حيث كان معنا بعض الجعب تحوي قنابل يدوية وقال لي كلمة السرّ هي «سعاده»، وعلى الشخص الذي يأتي من قبلي لإبلاغك تعليماتي للالتحاق بنا أن يعرفها، ومن لا يعرف كلمة السرّ تقبض عليه… ودّعناه وذهب مع الرفقاء حوالي الساعة 8 ليلاً وبقينا في الطاحونة.

وزعت الحراسات والمهمات وسلمت عدداً من القنابل اليدوية كانت موجودة معنا لعدد من الرفقاء بعد إرشادهم لكيفية استعمالها. ووضعنا حراسة على ظهر الطاحونة وحراسة بجانب التلّ المطلّ على قرية سحمر وفي الممرّ المؤدّي للطاحونة، وهو الممرّ الوحيد، وهو مظلم جداً، كما خصّصت رفقاء يسيرون بين الحراسات بشكل دورية دائمة… وكنا نجري تبديلاً بين فترة وأخرى من أجل الاستراحة. في إحدى الجولات شاهدنا شخصاً يقترب وسمعت سعيد العظم يصيح به قف توجهنا نحو الشخص ورأيته هناك واقفاً رافعاً يديه وبعد تفتيش دقيق ولما سألته لمَ أتى إلى هنا وماذا يريد؟ قال انه قومي اجتماعي ويريد الالتحاق بنا، وهذا أمر ليس عشائرياً، فالحزبي له مديرية يعود إليها ويتحرك وفق تعليمات وتوجيهات أو أوامر، لذلك وضعته تحت الحراسة والمراقبة… بعد فترة جاء شخصان آخران اوقفناهما وبعد التحقيق قالا إنهما من بلدة سحمر وقد جاءا لإبلاغنا انّ مختار البلدة أرسل شخصين من قبله إلى مخفر مشغرة لإعلام السلطات عن وجودنا في المغارة وطلبا أن نبعث من يقبض عليهما قبل الوصول إلى المخفر وفهمت أنهما توجها للمخفر من وقت قصير مما يعني أنّ رفقاءنا يكونون قد وصلوا المخفر واحتلوه قبل ان يصل هذان الشخصان، وهذا ما حصل فعلاً فقد وصل الرجلان ورفقاؤنا يحاصرون المخفر كما علمت في ما بعد…

مضت أربع ساعات على ذهاب الصدر عساف ومعه مجموعة من رفقائنا، ولم يظهر أيّ اثر ولم يصلنا أيّ خبر حتى ولم يظهر أيّ أحد، وخشيت أن يكون رفقاؤنا قد تعرّضوا لمكروه، لذلك فكرت في اتخاذ تدبير يؤمّن حماية الموجودين. تشاورت والأمين عساف أبو مراد فهو ابن المنطقة ويعرف تفاصيلها ثم ارتأيت أن أغيّر مكاننا وننتقل لمكان آخر ننتظر فيه وقتاً آخر فإذا لم يظهر رفقاؤنا فسأعمل على وضع خطة للعودة إلى سورية.

توجهت مع عساف أبو مراد وسعيد العظم واستشرت الموجودين معنا من أهل المنطقة للبحث عن مكان استراتيجي ننتقل إليه، وبعد ان وجدنا مكاناً يمكننا الركون إليه والدفاع عن أنفسنا عند اللزوم، وهو يقع بين الصخور خلف قرية سحمر بعيداً عن العيون… غادرنا الطاحونة بعد أن أزلنا كلّ اثر يدلّ علينا… انتقلنا للمكان الجديد ووزعنا الحراسة فيه وتركت رفيقاً قرب الطاحونة يترقب من بعيد عودة رفقائنا من مشغرة… وقرابة الساعة الخامسة صباحاً إذا بالصدر عساف كرم ومن معه قد أتوا باتجاهنا دون أن يعلموا أننا في مكان قريب منهم… وقد رآني عساف كرم فيما كنت أهمّ باللحاق بشخص مرّ قربنا ورآنا وكنت أريد إيقافه، وقد أوقفت الشخص وتبيّن أنه ابن المختار فاحتجزناه.. ثم أخبرت الرفيق عساف بانتقالنا من الطاحونة كتدبير وقائي وشاهد المكان فوافق بسرور… وشرح لي تفاصيل ما جرى معهم في مشغرة… قال:

عند وصولهم نحو المخفر وجدوا رجال الدرك والقوة المتواجدة فيه على علم بمجيئهم ويبدو انّ مخبرين من المنطقة نقلوا لهم المعلومات، وقد دارت معركة قوية وحامية وتسلق الرفيق عبد الهادي حماد الجدار الخلفي للمخفر بغية النزول للحديقة، ثم تبعه رفيق آخر، وهنا رآه دركي فصرخ منبّهاً رفاقه فأطلق رفقاؤنا النار وأصابوه مع اثنين آخرين قدما لنجدته، وقال لي عبد الهادي في ما بعد إنه كان بإمكانه قتله ولكنه لم يفعل لأنه لم يشكل خطراً وهذه هي أوامر الزعيم… نام الرفقاء قليلاً ليرتاحوا وتابعت مع آخرين مهمة حراستهم والمكان واصلين ليلنا بنهارنا… فجأة وفيما نحن مختبئون، رأى أحد رفقائنا سيارات عسكرية وبينها سيارات إسعاف تجتاز الطريق وهو غير بعيد عنا فصاح منبّها نهضنا وحملنا عتادنا وتركنا المكان وسرنا باتجاه قرية سحمر، وشاهدنا الأهلون نمرّ بقربهم، تابعنا السير في السهل الممتدّ على ضفة نهر الليطاني حتى وصلنا إلى منطقة فيها بعض الصخور والمكان قريب من بلدة مشغرة حيث كان رفقاؤنا في اليوم السابق وتمركزنا هناك، وانضمّ إلينا الرفيق ديب الشمعة أثناء المعركة، واليوم هو الخامس من تموز أيّ مضى يومان منذ مجيئنا إلى لبنان لأداء الواجب وتلبية نداء الحزب. بقينا قرابة الساعة هنا، عندها رأى الرفيق حمادة اليوسفي رجالاً في أعالي الجبل المطلّ على مشغرة، كان معي منظاراً سلمني اياه عساف كرم لأراقب به المنطقة فأخذه حمادة ونظر به فشاهد الجنود يتمركزون من عدة جهات لمحاصرتنا، نادينا الصدر ونظر هو الآخر وتبيّن انّ طوقاً قد ضرب علينا.

أمرنا الصدر عساف بالتحرك فسرنا حتى اجتزنا منحدراً وهبطنا سهلاً اجرد ليس فيه إلا الحصى والرمل ومنبسطاً مثل الكف، ولمحنا جنوداً يتمركزون في الجهة الأخرى من النهر ومصفحات بقربهم اخبرت الصدر عساف فقال لي الحق بحمادة اليوسفي وكان يحمل رشاش «برن» انكليزي وما كدت احاذي حمادة وعدد من الرفقاء خلفي حتى دوّت فوق رؤوسنا قذيفة دبابة فانبطحنا أرضاً وبدأ الرصاص ينهمر بشدة وكثافة من عدة جهات والمهاجمون بعيدون عن الأنظار. تفرّقنا في الوادي الواسع وقيل لي إنّ النار تطلق علينا من الجهة المقابلة فأطلقت بذلك الاتجاه خمس طلقات، أدّت لفتح النيران بشدة وغزارة من تلك النقطة وحاول الرفيق حمادة أن يطلق الرصاص من رشاشه فلم يشتغل وبدا أنه معطل فرماه وزحف وتمكّن من الهبوط في الوادي وتبعه محمد الزعبي… تقدّمت قليلاً فرأيت الرفيق اسعد جواد وكان يحمل على ظهره حقيبة ديناميت ومتفجرات وعلى رأسه كوفية حمراء فطلبت منه نزع الكوفية لأنها علامة ترى من بعيد، وفكرت في التقدّم واجتياز المنطقة حيث هنالك واد يمكن أن نجد فيه ما يمكن استخدامه متراساً ومكاناً يصلح لإطلاق النار لأنّ مكاننا الحالي غير مؤهّل مطلقاً. كلّ هذا والرصاص يتطاير من حولنا ناثراً الحصى والغبار، وسألني أسعد هل أرمي الحقيبة فقلت نعم لئلا تصيبها رصاصة فينفجر كلّ ما في الحقيبة.

معركة غير متكافئة

هجوم واسع من كلّ الجهات نيران كثيفة ونحن في أرض جرداء عددنا 14 رفيقا في هذه البقعة ليس معنا سوى سلاح محدود، الجنود يشاهدوننا من مرتفعاتهم ونحن لا نرى احداً… كان في مكان قريب الرفيق نصير صالح ريا وهو في مكان منعزل، ناداني سائلاً: هل أطلق النار؟ فقلت له لا، لأنّ ذلك سيستتبع ناراً معاديه قد تقضي على رفقائنا كلهم… تسمّرنا في أماكننا لا يوجد أيّ منفذ، وفيما نحن كذلك برز وقوفاً ما يزيد على 20 جندياً من الجهة المقابلة وجلهم يحمل أسلحة رشاشة وأمرونا بالتسليم وتلكأت ورفقائي بالاستجابة لأنه لم يصلني أيّ جواب من الصدر. وكنت قبل هذه المرحلة قد ارسلت للصدر أستفهم منه عما نفعل وبماذا يأمرنا، كانت الرسالة من شخص إلى آخر حيث كان الصدر بعيداً عنا وجاء الجواب تصرّفوا حسب الموقف فرفض الرفقاء الاستسلام إلا إذا فعلت أنا لأنني المسؤول عنهم، فاشتدّ إطلاق الرصاص فوق رؤوسنا، رميت بندقيتي على الأرض ووقفت ووقف خلفي كلّ الموجودين، وما كدنا نفعل حتى بدأ رجال الدرك إطلاق الرصاص علينا من بعيد في محاولة لقتلنا، فعدنا للانبطاح ثانية فأوقفوا إطلاق النار، نهضنا حيث اقتربوا منا وسرنا أمامهم رافعين أيدينا فوق رؤوسنا. وصلنا فسحة كبيرة تجمّع فيها الجنود، وهنا برزت «البطولات» فتارة يتوجهون نحونا بالحراب وأخرى يطلقون الرصاص إرهاباً بين أرجلنا. بعد ذلك فتشونا واخذوا كلّ ما معنا من مال وساعات أو أيّ مقتنيات أخرى، كنت احمل محزماً خاصاً للذخيرة وكانت فيه كمية من الخرطوش فنقدّم مني وكيل ضابط وقال لي: «يا عرص أنت قد ز وتريد ان تقتلني»… كان مصاباً بطلق ناري أصابه بشكل سطحي في خوذته الحديدية وأخذ يضربني، وحدثت محاولات إرهابنا من قبل رجال الجندرمة حيث رفعوا بنادقهم يريدون قتلنا… لولا تدخل الجيش الذي أخذنا تحت امرته لأنه هو الذي أسرنا وليس الدرك… كنا 14 شخصاً وكانوا أكثر من 1800، استغرقت المعركة ما يزيد على الأربع ساعات، بندقيتان واثنا عشر أعزلاً… كان بيننا ما يزيد عن 12 رفيقاً لنا من المتواجدين في مجموعتنا كلها لم يكونوا مسلحين حتى ولا مدرّبين ولا متمرّنين على فنون القتال ولا أساليب المواجهة ولا الاحتراز من الأخطار، هذا النقص الكبير قابله إيمان صلب وثبات وشجاعة في الأداء، شاركوا في المعركة بما يعرفونه ولم يتراجعوا ولم يندموا حتى بعد صدور الأحكام.

انتهت المعركة يوم الثلاثاء 5 تموز 1949. ساقونا مخفورين من مكان لآخر وعندما نظرت حولي لم أجد سوى نحن فقط فظننت أنّ بقية رفقائنا تمكنوا من خرق الحصار وتقدّم مني رقيب أول وسألني أين البقية فقلت له ليس هنالك غيرنا نحن فقط، فاستغرب كيف هذا العدد الصغير أوقفنا تلك القوة الكبيرة… سرنا على الأقدام مسافة تزيد عن الساعة وشاهدنا رفقاءنا من بعيد وقد أسروا قبلنا ونحن آخر من أُسر من الرفقاء وعندما اقتربنا ناداني أحد الضباط مع اثنين آخرين وطلب منا رفع قتيل عن الأرض ورآني صغيراً فتركني ونادى غيري، كان القتيل ممدّداً على الأرض ومغطى بشرشف أبيض، وصلنا إلى قرب رفقائنا فشاهدناهم يحملون شخصاً على أكتافهم وسألت الرفيق محمد شلبي عمن يكون فقال إنه الصدر عساف كرم.

هنا عضضت على شفتي وقلت لقد مات شهيداً تحت راية الزوبعة، وأخبرني الرفيق شلبي أنهم طلبوا من عساف كرم أن يستسلم فردّ عليهم بإطلاق النار وهو واقف وسقط شهيداً… ساقونا حيث ساحة القرية وهناك كانت القوة محتشدة.

وقد استغرقت المعركة ما يزيد على أربع ساعات أوقفنا في صف طويل وبدأ العقيد سمعان يسأل عن بقية القوة وعن سعاده، وعندما جاءه الجواب اننا كلّ القوة وأنّ سعاده ليس معنا استشاط غيظاً وغضباً وبدأ الضرب والشتم، والعقيد سمعان هذا أصبح قائداً للجيش في ما بعد.

كنت أقف بجانب الرفيق نائل نديم حيث جاء ضابط فسحبنا إلى الساحة وبدأ يضربنا يريد أن نعترف عن مكان سعاده وضرب الضابط الرفيق نائل ضرباً قوياً وهو مكبّل فصرخ به نائل اضرب يا جبان اضرب… كان بقربنا عدد من راكبي الجياد، جرّني الضابط إلى الساحة وشدّني من شعري وقال: «… وهذا اليهودي يحارب معكم»؟ ووقفنا بين صفين من الجنود وأجلسونا في مكان منعزل.

ثم احضروا شاحنات وأصعدونا إليها مكبّلين كلّ اثنين مع بعض وكان رفيقي في القيد نصير صالح ريا.. وبعد أن سجلوا أسماءنا أركبونا في الشاحنات المخصصة لنقل الجند وفيها مقاعد خشبية على الجانبين جلس عليها رجال الدرك ووضعونا في أرض الشاحنة… طيلة الطريق كانوا يبرحونا ضرباً وبالأخصّ للأمين عساف أبو مراد وأسعد جواد حسن وعز الدين مراد، أما أنا – أنا يهودي – فوقف أحد رجال الدرك ونظر إليّ وقال أنت يهودي، وأمك زانية وأبوك حاخام… هززت رأسي ولم أجب فغضب وضربني بشدة وكان يسألني أتى وإلا ما أتى، وكنت أظنّ أنه يقصد الزعيم هل أتى معكم أم لا، وكنت أجيبه ما أتى ويضربني هو ورفاقه ويكرّر السؤال وأكرّر الجواب والضرب يتواصل طيلة الطريق كلما سألني أتى أردّ ما أتى ويبدأ الضرب من جميع من في السيارة من رجال الدرك وقبيل وصولنا بيروت صرخ بي الرفيق نصير صالح ريا: قل أتى، هذا سؤال يسألونه لليهودي، هل أتى المسيح فيقول لا فيضربونه، قل لهم أتى وهكذا قلت أتى فتوقفوا عن ضربي وقالوا آمن… تابعنا سيرنا وقد وصلنا بيروت وأنزلونا في المحكمة العسكرية وقد بلغت الساعة الحادية عشرة ليلاً وهناك سجلوا اسماءنا مرفقة بضربات وشتائم وركلات رجال الشرطة العسكرية. وبعد أن تمّ تسجيل أسمائنا أركبونا السيارات وساروا بنا نحو السجن…

يتبع: 8 تموز الشهادة والفداء

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024