إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

مَن قاتل وحش الخوف الأب – الأمين نديم وسّوف بقلم الأمين نزار سلوم

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2025-10-21

إقرأ ايضاً


(كتبتُ هذا النص وفاءً للأمين نديم وسّوف وتحيّة له... وخوفاً على تاريخ قد يغلبه النسيان والتجاهل في هذا الوقت الصعب الذي يتجه لإغلاق آفاق المستقبل)

-1-

لم يكن مقتل العقيد عدنان المالكي، في 22 نيسان 1955، حادثاً فرديّاً أو عابراً أو ارتجاليّاً، بل جاء في سياق الضغط المباشر على المُناخ أو المزاج الاجتماعي العام الذي كانت مفاهيم النهضة السّوريّة القوميّة الاجتماعيّة تشكّل أحد أهم ملامحه ومرجعياته. المسألة برمتها جاءت في سياق "ترتيب جديد للشرق الأوسط"... وفي هذا حديث آخر تقتضي مناسبة الكتابة الآن تأجيله.

مقتل العقيد المالكي، أدى في أحد أهم نتائجه المباشرة إلى كبح تقدم النهضة، والتطلّع إلى إعدامها سياسيّاً واجتماعيّاً، وسط حملة هائجة على القوميين الاجتماعيين، سجناً لهم، وتنكيلاً بعائلاتهم، وتضييق سبل الحياة عليهم، وتخويف المجتمع منهم، وزرع الخوف في نفوسهم لدفعهم لليأس الذي يتكفل بذبول إرادة الحياة والنهوض مجدداً.

مقتل العقيد المالكي، خلق وحشاً من الخوف ليقيم في عقل القوميين ومن يناصرهم أو يقترب منهم.

وعلى ذلك بدأت معركة القوميين الكبرى والطويلة مع وحش الخوف.

-2-

لم يكن التنظيم السّري الطلابي الذي بدأ في جامعة دمشق في نهاية الستينيّات من القرن العشرين – الماضي قد صلب عوده تماماً، عندما بدأ الرفيق نديم وسّوف نشاطه الحزبي في منطقة "الوادي". كان ذلك في مطلع سبعينيّات ذلك القرن.

حينها، وفجأة، ظَهَرَ رجل يعلن عن نفسه وبوضوح ومن دون أية مواربة، يُعلن عن إيمانه بعقيدة أنطون سعادة. انطوى الأمر على مشاعر مُختلطة، من الفرح الداخلي، والاعتزاز، إلى التوجّس والخوف والتردد. بلى، لا زال وحش الخوف مُقيماً في عقول الشريحة الكبرى من القوميين، ولا زالت ندوب سياط الجلّادين بارزة على ظهورهم، ولا زالت أصوات تلك السياط الهائجة تحاصر ذاكرتهم... على أنّهم لم "يكوعوا"... آثروا الظلم وإنْ بدا حينها أبديّاً، وفاءً لعقيدتهم – حلمهم، على مكاسب وإنْ بدت حينها ضروريّة ومصيريّة لضمان حياة عائلاتهم.

ظهر نديم وسّوف، في ذلك الحين، كمن يخرج من تحت قوقعة كانت تكبح إرادته للتحرّر من ثقلها. خرج ليبدأ معركته الكبرى مع وحش الخوف، ومع آلة التخويف من العسس والمخبرين والخصوم من غير حزب وجهة سياسيّة.

كان ظهور نديم وسّوف على النحو الذي ظهر فيه، بمثابة "إنزال مظلّي" لقوّات النخبة من جنود العقيدة خلف خطوط ... خطوط مَن؟

خلف خطوط: وحش الخوف وآلة تخويفه وصنّاعه.

وكما يليق بجندي من قوات النخبة، لم يكن في حساب الرفيق نديم العودة إلى الوراء مهما كان الأمر، بل البقاء والرسوخ والاستمرار في الصراع حتى النهاية.

-3-

في ذلك الوقت، مطلع السبعينيّات، كنتُ مع أبناء جيلي ومَن يكبرني عمراً، نقطع المسافة ما بين بيوتنا في الزويتينة ومدرستنا في مرمريتا سيراً على الأقدام. يبدأ الموكب بواحد ينطلق من الزويتينة لينضم إليه كل من يقيم على مسار الطريق، مروراً بـ عين الراهب، ومن ثم "الحارة التحتينيّة" في مرمريتا، وصولاً إلى المدرسة، التي كنت أراها تقع في "حارة مشتركة لبيت المعطي وبيت سلامة، مع حضور لبيت الحبقة".

ذات يوم، وموكبنا يتجه صباحاً إلى المدرسة، وقد كنّا قطعنا قرية عين الراهب ونحن نتبادل الآراء بصوتٍ عالٍ، وفيما كنت أنهي عبارة لم أعد أذكرها تماماً في محاولة لي لإقناع زميلي، لأرى رجلاً كان يمشي خلفنا أو إلى جانبنا، قد تقدّم مني على نحو لهوف وكأنه وجد "شيئاً" ضائعاً، تقدم بابتسامة عريضة مستحسناً كلامي، ولكنه فاجأني بتعقيب سريع قائلاً: لا أستغرب ما تقوله، فأنت ابن الأستاذ خليل مسعود (يُكنى أبي باسم جده الذي كان معلّماً)، ومن ثم لازمني حتى المدرسة.

الرجل، هو نديم وسّوف. ولكن، ماذا يعني أنّي ابن الأستاذ خليل؟

أبي، الأستاذ خليل، كان نزيلاً في سجن المزّة في العام 1955، إذاً؟

إذاً... ماذا؟

هنالك راية موضبة ومرتبة ومحفوظة، قيماً، ومثلاً عليا، وسلوكاً، وعملاً، وصبراً، وتجبّراً على الضعف، وتحمّلاً للظلم، هذه الراية لا تزال حلماً ولا بدّ أنّ نعيد رفعها عالياً لنواصل المسير.

حمّلني الرفيق نديم بوصفه لي بابن خليل مسعود، همَّ، بل، واجب حمل تلك الراية.

في ذلك اليوم تعرّفت إلى نديم وسّوف، وبسرعة خاطفة، وبالرغم من سني الصغير نسبيّاً (16 – 17) عام، انضممت إليه في قوات النخبة خلف خطوط وحش الخوف.

-4-

يقع بيت الرفيق نديم على الطريق العام، وقد كان من السهولة علينا نحن الذين بدأ عددنا يتزايد التردد إليه. فتح الرفيق نديم بيته دائماً، وبالرغم من أنَّ المخبرين كانوا يراقبونه على مدار الوقت إلّا أنَّ ذلك لم يدفعه لا هو ولا زوجته المحترمة للطلب إلينا بعدم المجيء. تحوّلت زيارة بيت نديم وسّوف عموماً بالنسبة للمجتمع الأهلي إلى امتحان للشجاعة، فيما بالنسبة لنا كانت زيارته فصلاً من فصول الصراع مع وحش الخوف.

بالنسبة لي، كان بيت الرفيق نديم المكان الحرّ الذي أرى فيه كيف تحاول مجموعة من الشباب المتحمّس الانخراط في ذلك العمل المضني والصعب الذي تجد فيه حلمها وقد تجسّد واقعاً. آلة التخويف لم تتوقف، استمر المخبرون والعسس بوظيفتهم المعتادة، رفعوا من درجة وتواتر حضورهم ومضايقاتهم. أثمرت جهودهم بإنتاج خوف يصل إلى حدود الرعب عند البعض من نديم وسّوف وبيته. العديد من هم في الدائرة الاجتماعية الأولى أصبح يتجنّب زيارته. كان واضحاً أنَّ وحش الخوف قد تقدم في تلك الدائرة وغيرها.

بالرغم من ذلك كلّه، لم يتراجع نديم قيد أنملة، ظلّ مثابراً على طريقته، هادئ النفس والأعصاب، فلم يتمكن أي شخص مغرض أو قريب خائف من استفزازه والدفع به خارج ما يعمل على إنجاحه بصبرٍ، وتأنٍ، وإيمان، وثقة. نحن مجموعة الشباب، بالمقابل، لم نتراجع أبداً بالرغم من كل الضغوطات التي مورست علينا من كل صوب. استمرت علاقتنا به وتعمّقت واغتنت وأخذت أبعاداً إضافيّة. يمكن القول إننا وفي تلك اللحظة لم نعد نحسب أنفسنا كأفراد، بل أصبحنا: كتلة واحدة موحدة.

-5-

بيت الرفيق نديم، كما أذكره، نظيف، مرتب، بإدارة أم نظام المحترمة التي وقفت إلى جانبه دائماً، بالرغم من كل الصعوبات التي مرت على عائلتها والضغوطات الاجتماعيّة التي مورست عليها. لورا ونظام وأليسار وخلود ومن ثم أنس ويسار، الأطفال كانوا في هذا المناخ وكبروا فيه. عليَّ أن أذكر أنَّ أبي لم يرضخ أبداً للضغوطات والتخويف فظلّ الرفيق نديم يتردد إلى بيتنا كما نحن نتردد إلى بيته. والدتي المُصابة بمتلازمة الخوف من السجن، بدأت تخاف عليَّ، ولكن موقفها من الرفيق نديم كان حاسماً. لم تستسلم بدورها لضغوط وجوب مقاطعته. نظرت إلى هذا الأمر كنوع من الإجحاف والظلم برجل لم يؤذ نملة في حياته، بل كانت تعتبره مميزاً بسلوكه وتهذيبه. انتصرت الأخلاق عند أمي على الخوف ووحشه وآلته.

-6-

..... وصلنا مساء يوم شتائي بارد إلى سجن الشيخ حسن في محلة باب مصلّى في دمشق، بسيارة تعود لجهاز المخابرات العسكريّة، بعد أن تم التحقيق معنا في حمص بتهمة الانتماء للحزب السوري القومي الاجتماعي!

كنا خمسة، وللأسف لا تسعفني ذاكرتي على نحو وافٍ على تذكّرهم جميعاً، عيسى سعادة، ... نفوّج، طوني خليل، ...، وكنت أصغرهم. في البهو الكبير للسجن تهامس الرجال الذين يقودوننا للحظات قبل أن يقرروا أنَّ أربعة منّا سيكونون في طابق، وواحد سيكون في طابق آخر سفلي، تحت الأرض. كنتُ أنا الواحد الذي نزل إلى ذلك الطابق حيث تم حشري في زنزانة منفردة (2 – 1) متر مع حفرة صحيّة!

ثلاثة ثقوب بحجم العين موجودة في باب الزنزانة، بالكاد يمكن أن تنظر فيها إلى الخارج، إلى البهو، وهذا ما قمت به فوراً.... حملقتُ وركّزت نظري متنقلاً بين أبواب زنزانات مقابلة لي... لكن عبثاً.

كنت أبحث عن الرفيق نديم الذي تم اعتقاله في وقت سابق، حيث نجح المخبرون في الدفع بجهاز المخابرات لإلقاء القبض عليه. عائلته لم تعرف عنه شيئاً، لا في أية مدينة ولا في أي سجن؟

في صباح اليوم التالي، وقد كنت ممدداً في الزنزانة ورأسي من جهة الباب ونظري إلى الأعلى، رأيت ورقة ملفوفة تدخل من أحد ثقوب الباب الحديدي. انتظرتها لثواني قليلة إلى أنْ سقطت. كانت ورقة نقديّة بقيمة 25 ليرة سورية! قفزت مسرعاً لأنظر من أسقطها، فرأيت الرفيق نديم يهرول مسرعاً إلى زنزانة جانبية قبل أن يراه الحارس. كان عائداً من حصته بالتنفس الخارجي في ساحة السجن وهو ما حصلت عليه بعد ثلاثة أيام من إقامتي المتواصلة في الزنزانة.

عندما التقينا في حصّة التنفس الخارجي لأول مرة، سلّم عليَّ بحرارة وهو يبتسم قائلاً: كم أنا مسرور لأنّك اعتقلت أنت بالذات.... وقبل أن يكمل بادرته: مسرور!! لماذا؟ أجابني لأنّهم لو اعتقلوا (...)، بدلاً منك لأصبنا بكارثة، فهو ضعيف ولا يتحمّل الضغط، فيما أنت قوي وشجاع.

للسجن تفاصيل أخرى، ربما سأرويها في المستقبل، لكن في تلك اللحظات ومع ما قاله الرفيق نديم شعرت أن جسراً طويلاً قد عبرته بسرعة كبيرة، جسراً أوصلني إلى كل السجون التي تم زجّ القوميين فيها منذ نهاية ثلاثينيّات القرن العشرين وحتى مطلع سبعينيّاته.

قلت له: ما حاجتي بالـ 25 ليرة؟

أجابني: ستكفيك لشراء 5 علب من السجائر، سعر العلبة في السجن خمسة أضعاف سعرها في الخارج. وهكذا فعلت.

....... خرجت قبله من السجن، وفي اليوم الثاني لوصولي إلى بيتنا، جاءت لورا الصبية اليافعة البهيّة الطلعة، والتي بالكاد قطعت خط الطفولة، جاءت تسلّم عليّ نيابة عن أمّها التي لم تخرج من بيتها حينها وزوجها في السجن، ولتسألني عن أحوال والدها إن رأيته؟

كرجل شجاع، كما وصفني الرفيق نديم، زينت لها حالة السجن لأزرع الطمأنينة في نفسها مع والدتها وأخوتها وبيت جدها. وأكّدت لها أنَّ والدها بخير وسيكون مسروراً عندما يخرج ويراكم تتابعون واجباتكم الدراسيّة كما ينبغي.

واقع الأمر، الرفيق نديم فقد من وزنه الكثير في السجن، كان نحيفاً وضعيفاً جسدياً، ولكنه بقي شجاعاً ومتماسكاً إلى أن خرج بعد عدة أشهر.

-7-

بعد خروجه من السجن، ازدادت الحملة على نديم وسّوف حدّة. ضغوطات اجتماعيّة من القريبين ومن البعيدين... مترافقة مع ضغوطات اقتصاديّة وصلت إلى ذروتها بمقاطعة الدخول إلى محله، حيث كان قد افتتح محلاً لبيع الثياب والقطنيات في أسفل طلعة مار يوحنا في مرمريتا. ما اضطره أخيراً إلى إغلاقه تماماً. بدا وكأنَّ الحملة ضده تستهدف ليس تخويفه والتخويف منه، بل تجويعه مع عائلته.

يا للهول!! أذكر كيف أنَّ بعض الرجال أمام محله كانوا يستنكرون هذه الحملة الشرسة عليه، حيث قال أحدهم: لم يبق ضمير ولا شرف ولا أخلاق في هذا العالم؟! ليتابع السيد كمال الجنورة، الحلاّق المشهور، الذي كان عابراً بالمصادفة: ضمير وأخلاق؟! بل لم يبق تاريخ وجغرافيا!!

-8-

عندما رأيته، في ثوب الكهنوت لأول مرة، وقبل أن أنطق بأيّة كلمة، بادرني قائلاً: تحيا سوريا، لقد طلبت إذناً رسميّاً بأن أصبح كاهناً، وقد أذن لي الرئيس (يقصد رئيس الحزب).

لم يصبح الرفيق نديم كاهناً، لاعتبارات روحيّة وأخلاقيّة وقيميّة... أبداً.

المحبة والتسامح والصدق والتواضع ... وكل ما له صلة بالقيم والمثل راسخة في شخصيته ولا تنقصه كي يأخذها من عالم الكهنوت.

عذراً، رفيق نديم

عذراً، أم نظام

عذراً، الأبناء وأفراد العائلة جميعكم،

الرفيق نديم لبس ثياب الكهنوت من أجل حمايتكم، ولكسر طوق الحصار الاجتماعي والاقتصادي الذي كان مضروباً حولكم.

لم يتمكن الحزب من توفير العوامل التي تحميه وتحميكم، فأذِنَ له الرئيس بتدبّر أمره، فكان الكهنوت الضمان الأكيد لهذه الحماية، والذي لم يضطره في الحالات كلّها لهجر عقيدته ونسيان ماضيه والتقاعس عن واجباته.

خدمته في دير القديس جاورجيوس الحميراء، وضعته رمزيّاً في فضاء أسطورة مار جرجس – الخضر الذي نازل التنين وقتله مرة ومرتين وثلاث... وها هو ينازله في دورة التاريخ الرابعة.

.... عدّة سنوات بعدها، سيُمنَح الرفيق الأب نديم رتبة الأمانة، ومن حينها سيحمل الاسم المركب: الأب – الأمين نديم وسّوف.

-9-

آخر مناسبة حزبيّة التقيته فيها، كانت المؤتمر العام 2016. لم يتغيّر أبداً، باستثناء تعبيره بالاستياء من حالة الحزب، ودعوته لي بالمبادرة في هذا الشأن. نظرته لي التي كونها في اللقاء الأول مطلع السبعينيّات... لم تتغير أبداً، ظلّ يكرر على مسامعي ذلك التقدير الأثير الذي سمعته منه لآخر مرة في آخر زيارة لي للوطن في ربيع العام 2023.

-10-

ما قاله السيد كمال الجنّورة، مرة في وصف حرب العسس والمخبرين ضد الرفيق نديم، (لم يبق تاريخ وجغرافيا!!) يُعتبر من أدبيات الكوميديا السوداء. لكن أتأمل، في هذا الوقت متألماً، وأنا أنظر إلى الوطن متسائلاً: أين الجغرافيا؟ أين التاريخ؟

-11-

نديم وسّوف، الأب، الرفيق – الأمين، خاض معركة مشرّفة في مواجهة وحش الخوف... ومضى، لكن اسمه منحوت على جداريّة تاريخ النهضة.

(15 – 19 تشرين أول)، 2025 ابن الأستاذ خليل مسعود



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2025