الامين، الشاعر، المناضل، الكاتب، الاديب موسى مطلق ابرهيم يُكتب عن تاريخه الحزبي الكثير. نأمل ان نفعل، كما ندعو عارفيه من الرفقاء ان يكتبوا، وفاءً لرفيق مميز في ادائه القومي الاجتماعي.
في كتابه "قطاف من حقول العمر" يورد الامين ابرهيم زين هذه الواقعة التي يصح ان يعرف بها القوميون الاجتماعيون، كجزء من تاريخ حزبهم . ل.ن.
*
حضور الشهيد
كنا في سجن القبة(1)، نروي في حلقات ليلية كيفية انتماء كل رفيق من اعضاء غرفتنا الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وفي احدى الليالي روى لنا الرفيق موسى مطلق ابراهيم، الفلسطيني المولد والمشرّد الى لبنان إثر نكبة عام 1948، ومن سكان مخيّم الجليل في مدينة بعلبك، كيفية انتمائه الى الحزب وحضوره اول اجتماع للمديرية التي كانت على اسم الشهيد محمد الشلبي، قائلاً:
"كان ذلك منذ خمس عشرة سنة، وفي مدينة الشمس بعلبك، وبعيد انتمائي الى الحزب السوري القومي الاجتماعي بأيام. فقد تبلّغت إلحاقي بإحدى مديريات المدينة، وكانت تُسمى باسم أحد شهداء النهضة، هو الشهيد محمد الشلبي. دعيت الى حضور اجتماع تلك المديرية في مساء يوم التبليغ نفسه، وقد رافقني الى ذلك الاجتماع احد اعضاء المديرية هو الرفيق المرحوم علي وهبي، الذي كان دليلي الى مكان الاجتماع، الذي كان يومها بيت الرفيق علي شرف الدين (2)، الذي بادر الى الترحيب بي كرفيق جديد يحضر الاجتماع الاول في حياته الحزبية، والرفيق علي شرف الدين هو اليوم احد امناء هذه النهضة العاملين لانتصارها وحمل رسالتها بالقدوة الصالحة والمثابرة الدؤوب. ولما حانت ساعة الموعد، كان البيت قد امتلأ بحوالي ثلاثين رفيقاً او يزيد، فاوعز لنا المدرب بالقيام والتأهب، ومن ثم بتأدية التحية، وجاء بعدها صوت المدير، قوي النبرة، واضح الاداء، يقول: باسم سورية وسعادة، افتتح أعمال هذا الاجتماع، فرد عليه الجميع بصوت واحد: تحيا سورية ويحيا سعادة، وعاد المدرب فأوعز لنا بأخذ وضعية الراحة والجلوس.
ثم قام الناموس بعدها وبيده سجل بأسماء الاعضاء ليتلو التفقد، فنادى، اول ما نادى، على اسم الشهيد محمد الشلبي، الذي تحمل المديرية اسمه، وهنا هبّ الجميع وقوفاً وصاحوا بصوت واحد: حاضر، عادوا الى الجلوس، وتابع الناموس بعد ذلك المناداة على الاسماء واحداً بعد آخر، وكان الرفيق الذي يُنادي على اسمه يقف ويقول: مستعد، ويجلس، وهكذا حتى تمام التفقد.
والحق، اقول، انني لم أعِ شيئاً مما دار في ذلك الاجتماع، لانني كنت مشغولاً عما حولي بهذا الحضور الساطع للشهيد محمد الشلبي، الذي اكّده ثلاثون رفيقاً او اكثر في تلك الهبة الواحدة والصيحة الواحدة، بينما لم يجب اي منهم عندما نودي على اسمه بكلمة: حاضر، بل بكلمة: مستعد، كأنما الحضور وقف على الشهيد وحده، اما الآخرون فعليهم ان يكونوا مستعدين فقط لمثل هذا الحضور. لقد ملأ عليّ حضور الشهيد على هذا الشكل، جميع حواسي وقتذاك، فلم استطع ان اتخلص منه، لأعي ما كان يدور حولي في ذلك الاجتماع !.
وانتهى الاجتماع ومضى كل رفيق الى سبيله، ولكن حضور الشهيد لم ينته بانتهائه في نفسي، بل اخذ يتغلغل في أعماقي وينمو ويتسع ويتخذ له مع الزمن سمات وملامح شتّى، حتى ملك عليّ كياني كله، وصار الشهيد عنواناً لحق الأمة ولا اقول وجهاً له، فحقّ الأمة كمبدأ هو عنوان ثابت لا يزول، ولكنه متحوّل السمات والملامح والوجوه، ما بين مرحلة ومرحلة، وما بين جيل وجيل، فهناك حق الأمة في صراعها من اجل البقاء، وهناك حق الأمة في صراعها من اجل الاستقلال والحرية، وهناك حق الأمة في صراعها من اجل النمو والتقدم، وهناك حق الأمة في صراعها من اجل الرقي والسعادة، الى آخر ما هنالك من وجوه متحوّلة لهذا الحق الثابت على مر الاجيال.
اليست طريقنا هي طريق الحياة، وان طريق الحياة هي طويلة وشاقة، واننا كلما بلغنا قمة تراءت لنا قمم اخرى، نحن جديرون ببلوغها، وجديرون بالمضي الى ما وراءها من قمم لا تزال ضميراً في طريق الحياة ؟!
وهكذا، اصبح الشهيد في نفسي عنواناً لحق الامة المجرّد، ووجهه تجسيداً لوجه هذا الحق، في كل مرحلة من المراحل، وفي كل جيل من الاجيال!.."
(1) بعد الثورة الانقلابية نقل الرفقاء المشاركون فيها الى سجن القبة في طرابلس
(2) منح رتبة الامانة لاحقاً، واستمر على التزامه ونشاطه الحزبيي حتى رحيله.
|