إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

إنهيار دولة الألقاب << نظرة في الأرستقراطية السورية >>

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1942-02-15

إقرأ ايضاً


عندما أوردت الزوبعة، في بعض مقالاتها، إسمي شكيب وأمين أرسلان مجّردين من لقب الإمارة ظن كثير من البسطاء أنّ هذه الجريدة قد أتت أمرا أدّا وأن قصدها كان الطعن والتحقير الشخصيين. وبعض المولعين

بألقاب الإمارة والعطوفة والسعادة والأمير والبك والباشا شعروا، عند قراءتهم في الزوبعة أسماء من ينعتوهم بهذه النعوت مجّردة من بهرجتها اللقبية، أنّ الأرض تميد تحت أرجلهم حتى أنهم يجدون صعوبة كبيرة في حفظ توازنهم وتثبيت أقدامهم.

الحقيقة في هذه المسألة التي يستغرب البسطاء ظهورها في مقالات الزوبعة هي أنّ الأمر يتعلق بمبدأ عام من مبادىء الحركة السورية القومية الإصلاحية. فالمبدأ الإصلاحي الرابع من مبادىء هذه الحركة ينص على :" إلغاء الإقطاع وتنظيم الإقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة ." فالنهضة السورية القومية ترى أنّ الإقطاع مصيبة كبيرة من مصائب الأمة السورية تضاهي مصيبة التحزبات الدينية ، وأنّ الإمتيازات المدنية الموروثة من حالة الإقطاع القديمة هي حجر عثرة في سبيل الوحدة القومية التامة وصدع في بناء الدولة القومية المتينة. ولمّا كان من الواجب إلغاء الإقطاع وإزالة الإمتيازات المدنية للوراثات الإقطاعية كان لا بد من الغاء جميع مظاهر الإقطاع وامتيازاته. والألقاب الإقطاعية هي من جملة هذه المظاهر التي يجب أن تمحى عن وجه الأمة السورية .

..وبما أنّ الزوبعة وقفت نفسها على خدمة المبادىء القومية الصحيحة والإصلاح الإجتماعي –الإقتصادي فموقفها موقف من يعمل بمبادىء عامة لا من يتعرض لخصوصيات أحد من الناس لا علاقة لها بالمبادىء العامة. ولو كانت ألقاب الإقطاع غير ذات صلة بحالة الشعب السوري الإجتماعية – الإقتصادية – السياسية لما كان يهمنا أمرها. ولكننا نهتم كثيرا لهذا الأمر لأننا ندرس ونعلم أنّ قسما كبيرا من نكبات أمتنا السياسية مسبب من حالة الإقطاع واستخدام الإقطاعيين وأصحاب الألقاب نفوذهم للتسلط على مقدّرات الأمة والتزاحم على الحكم ولا أهلية لهم غير النفوذ الموروث. فالإقطاعيون في لبنان والشام وفلسطين هم الذين ترأسوا وقادوا جميع الحركات والثورات الإعتباطية التي كلّفت الشعب الشعب السوري قسما ضخما من ثروته وكمية لا يستهان بها من دمه على غير طائل. ولولا ألقاب الأشخاص الذين تولوا الأعمال المذكورة وحالتهم الإقتصادية الموروثة التي مكنتهم من استخدام أشخاص ووسائل إذاعية وغير ذلك من توابع النفوذ الإقطاعي لكان الأرجح أت لا يكونوا بلغوا الحد الذي بلغوه في المضاربة بمصالح الأمة ومستقبلها.

أما آفة الإقطاع من الوجهة الإجتماعية والحقوق المدنية فمن أشد الآفات المانعة الأمة من النهوض. فإن حالة ألوف عائلات الفلاحين في المناطق الإقطاعية في لبنان والعلويين وجبل حوران والشام وفلسطين في حالة فاقة وضعف في الجسوم وفي النفوس وغباوة في العقول تدعو الى أشد الأسف. والأمة التي يكون لها ثلاثة أرباعها في حالة عبودية لا يمكنها أن تقف وتثبت بين الأمم الحرة.

لمّا كان موضوع هذا المقال مختصا بناحية الألقاب من مسألة الإقطاع ولمّا كانت هذه الناحية تدخل في مسألة النظام الأرستقراطي فاننا نترك فرع الموضوع الإقطاعي الأخرى لفرصة مقبلة ونقتصر الآن على الناحية المذكورة . فنسأل : هل يوجد في سورية نظام أو بقية نظام ارستقراطي يجعل لألقاب الإمارة والبكوية والباشوية والمشيخة وغيرها قيمة حقيقية فعلية ؟

الجواب الذي لا غبار عليه هو : إذا لم تكن الألقاب الأرستقراطية السورية عديمة القيمة الفعلية بالمرّة فهي، على الأقل، مشكوك كثيرا في قيمتها بصورة عامة وفي حالات معّينة هي عديمة القيمة بالمّرة.

يجب أن يكون واضحا ، منذ البدء، أنّ الألقاب الأرستقراطية السورية ليست ذات طبيعة واحدة ومنشأ واحد. فمنها ما منشأه أرضيا – إقتصاديا ومنه ما كان منشأه قبليا من غير أية صفة أرضية كشيوخ العشائر ورؤساء القبائل . فهؤلاء لهم سلطة القضاء على أفراد عشائرهم أو قبائلهم من غير ان يكونوا أصحاب الأراضي التي يعمل فيها هؤلاء الأفراد، كما هي الحال في رؤساء العشائر العلويين. وأحيانا يحدث تنازع على السيادة على أفراد هذه العشائربين نفوذ رؤسائها ونفوذ أصحاب الأراضي التي يعمل فيها هؤلاء الأفراد. ويرجح في هذه الحالة أن يغلب نفوذ الإقطاعيين الحقيقيين نفوذ رؤساء العشائر. فأفراد عشائر العلويين الذين يعملون في حقول الدنادشة يخضعون بالأكثر لما يفرضه هؤلاء ، الذين هم أصحاب الأرض.

عرفت سورية إمارات من النوع العربي ليست لها أية صفة أرضية . ومن هذه الإمارات إمارة أو ملكية رؤساء الغساسنة الذين كانوا امراء على القبيلة، لا على الأرض. وما دخل من أرض تحت حكمهم جرى فيما بعد باقطاع من أباطرة الدولة البيزنطية . وعرفت سورية إمارات أرضية كإمارة فخرالدين المعني في لبنان الذي زاد السلطان سليم حدود منطقة إقطاعه نظرا لتقديمه الخضوع له حين مروره بسورية.

ومهما يكن من أمر منشأ الألقاب الأرستقراطية في سورية فإنه لم يكن ولم ينشأ فيها، في القرون الأخيرة من تاريخها ، نظام ألاستقراطي راسخ، فما خلا إمارتين أو ثلاث ، بلغت الى شيء من الشأن السياسي، كانت حالة الإقطاع والأرستقراطية في فوضى . والإمارات والمشيخات الصغيرة التي كانت تنشأ كالفطر هي أفضل دليل على الفوضى وعدم وجود نظام أرستقراطي راسخ . فلم يتمركز الإقطاع على قاعدة السلطة الموحَدة ذات الشكل السياسي-الإداري ولذلك جرت الإرستقراطية السورية المتأخرة على قاعدة وراثة الألقاب . لا على قاعدة وراثة السلطة . فمعلوم أنّ السلطة على أرض أو جماعة اذا توزعت على عدد من الأفراد إنقسمت وسقطت.

ولذلك حافظت الأرستقراطية الإفرنجية المنظمة على مبدأ وحدة السلطة ضمن الإرث. فأولاد الأمير، من أي رتبة كان ، لا يرثون لقب الإمارة وسلطتها، بل يرثهما فقط الإبن البكر أو الذكر الأول. فالسلطة تكون له ولمّا كان اللقب للدلالة على الملكية والسلطة فهو ملازم لها فلا يرثه غير وارث السلطة. أما في سورية فالألقاب في فوضى لا مثيل لها . فكل من حمل لقب أمير، من أي رتبة كان ، يرث أولاده كلهم الذكور والأناث هذا اللقب. وتذهب الفوضى الى أبعد من ذلك فأولاد صاحب لقب الأمير أو الشيخ يكونون أمراء ومشايخ ووالدهم بعد حي يرزق. وأحفاد الأمير وأحفاد أحفاده يكونون كلهم أمراء. فإذا سألت : على أي شيء يأمر " المير " الفلاني؟ لما وجدت في غالب الأحيان سوى علامة التعجب جوابا.

على قاعدة وراثة الألقاب المتبعة في بلادنا إنتشرت الألقاب الأرستقراطية إنتشار الأوبئة . فكيفما قلّب المرء طرفه وقع على " أمير" أو " شيخ " بين فئة من الناس لا فرق بينه وبين أفرادها في علم أو ثروة أو سلطة ، إلا أنه يحاول دائما فرض لقبه وإيجاد إمتياز مدني ونفوذ سياسي له عليهم وفي هذه الحالة تجد طائفة كبيرة من الأمراء الأرسلانيين والجنبلاطيين والشهابيين واللمعيين والطرشان والخازنيين والمردميين والشيشكليين، الخ،الخ.

لم يقتصر وباء اللقاب الأرستقراطية على الوراثة، بل تناول الإكتساب بأية طريقة كانت. فعدد كبير في سورية يحمل لقب الإمارة التركي " بك " من غير إستحقاق. والمولعون أو الطامعون بالألقاب من أبناء امتنا لم يرفضوا لقبا أتاهم من أي من الناس، فكثير من البكوات والشيوخ في سورية تناولوا لقب البك أو الشيخ من مساحي الأحذية وسائقي العربات وخادمي الفنادق والمطاعم. ونعرف عددا من الذين إنتحلوا المشيخة طول حياتهم وورّثوها لأبنائهم لمجّرد أنهم كانوا مدة من الزمن قائمين بوظيفة مشيخة ضيعة المعادلة للمختارية . ففي الشوير من قضاء المتن إنتحل المشيخة السيد خليل عون ولم يقبل أن يعرف بغير لقب " الشيخ " خليل عون وصارت زوجته تدعى " الشيخة " . ويقال إنّ الأستاذ إبراهيم المنذر ليس شيخا إلا عن طريق الإنتخال ، إذ أبقي لنفسه لقب " الشيخ " الذي كان يحمله حين كان مختارا أو شيخا لضيعة المحيدثة قرب بكفيا، ثم إنّ الناس إلتبس عليهم الأمر نظرا لإشتغاله بالتدريس والأدب وظنوا أن مشيخته مشيخة علم، كما عرف اليازجيون العلماء. وبعض اليازجيين الذين ليسوا شيوخا لا في العلم ولا في شيء آخر ، إلا أن يصيروا شبوخ سن، لا يزالون يحملون لقب "شيخ". وجميع هؤلاء "الشيوخ" و "الأمراء" يتوقعون من الناس التجلّة والإحترام اللائقين بالألقاب التي يحملونها صوابا أو خطأ.

إنّ المناقب القومية الجديدة تأبى علينا الإستمرار في هذه الفوضى الإجتماعية – السياسية. أنّ النهضة السورية القومية ترفض كل إمتاز مدني أو سياسي يوجد طبقة من الشعب لسبب الإقطاع أو تقليد وراثة فاسدة. فالقومية السورية تدعو جميع أبناء الشعب السوري الى طلب الإمتياز بالبطولة والتضحية في سبيل قضايا الأمة مقتدين بحياة الزعيم الذي رفض إقتراحات كثيرة وردته ليحمل، على طريقة الأرستقراطية السورية المتأخرة، لقب الإمارة الذي استحقه وناله والده الدكتور خليل سعادة بك. فبما أنّ البكوية هي الإمارة عينها باللفظ التركي فإن تطبيقها في سورية على طريقة وراثة الألقاب الأرستقراطية يجعل واجبا أو جائزا ترجمتها الى اللفظ العربي ونقلها، على الطريقة المتبعة في سورية ، من الأب الى الأبناء والأحفاد. وعلى سبيل المعلومات نورد هنا أنّ السيد جميل مردم (بك) وغيره من رجال " الكتلة الوطنية "وغيرهم العارفين . بمنزلة الدكتور خليل سعادة بك ، ومن أوساط دمشق أخذوا يدعون الزعيم حين زيارته الأولى لدمشق سنة 1930، أي قبل تأسيس الحزب السوري القومي بنحو سنتين، بلقب الإمارة فكانوا يتوجهون اليه بلقب " أنطون بك سعادة " أي الأمير أنطون سعادة. ولكن الزعيم أبى هذا اللقب وكل تقليد صحيح أو غير صحيح يجعله في طبقة فوق الشعب.

فنحن حين نذكر أصحاب الألقاب التقليدية البالية مجِرِّدينهم من ألقابهم لا نفكر بالإساءة اليهم ، بل بجعلهم أدعى الى الإحترام . فالقاعدة القومية الصحيحة تقول إن قيمة الشخص في أعماله لا في ألقابه . ونحن ننتقد أعمال الأشخاص العمومية التي لا يسترها عن أعيننا لقب صحيح أو غير صحيح. ونعتقد أنّ أصحاب الألقاب يجب عليهم الشكر لإنقاذهم إياهم من حكم القائل :

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهرّ يحكي، انتفاخاً، صولة الأسد

إنّ بين الخمسة والتسعين والثمانية وتسعين بالمئة من الألقاب الأرستقراطية في سورية غير صحيحة وليس لجميعها نظام أرستقراطي صحيح. والألقاب التي على شيء من الصحة بالنسبة الى العهد الإقطاعي البالي لا محل لها في النهضة السورية القومية التي لا تعترف بإقطاع ولا بإمتيازات مدنية وسياسية وراثية ولا غير وراثية.

فيا ألقاب الأمير والبك والمقدم والباشا والشيخ والآغا، أديري وجوهك الى الخلف وارجعي الى العصور المظلمة التي أتيت منها ، لا سقى الله أيامك الماضية ولا أعادها الى الوجود في الأمة السورية الكريمة.

الزوبعة، بوينس أيرس، العدد38، 15/2/1942

الأعمال الكاملة ص 15- الجزء 6



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024