إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الصراع الفكري في الأدب السوري الجزء الثاني (2)

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1942-08-15

إقرأ ايضاً


مضى على هذه الكتب الثلاثة زمن غير قصير، ولو طلب إلي الآن رأيي في ما أنكره علي الكاتبان الكبيران من الكآبة والشكوى في قصيدة "الأحلام" لأنكرت معهما على نفسي ذلك الأسلوب، لو أن "الأحلام" كانت من منتوج العهد الحاضر. أما وهي قد نظمت في زمن لم أكن قد جاوزت فيه الثامنة عشرة من العمر، تحت تأثير طور الفتوة المكتنف بالظلمات والحيرة وقلق النفس، فإنني أراها صورة حقيقية لنفسيتي في ذلك الحين كما يصح أن تكون صورة لنفسية معظم الفتيان، وهذا ما يحببها إلي ويجعل لها قيمتها في نظري.

شفيق معلوف

اعتقد أن الموضوع الذي طرقته الكتب الثلاثة لا يجوز أن يبقى في هذه الحدود الأولية التي ورد فيها، فالمعاني فيها كلها نتف مقتضبة لا تسد حاجة ولا تشفي غليلا. وإذا كان يشفع في اقتضابها أنها كتب خصوصية فلا يشفع شيء بالمرور بها دون تناولها بالدرس وتمحيص الأفكار الواردة فيها. ولا أعتقد الحاشية التي ضمنها الشاعر تعليقه على كتابي منتقدي ديوانه بالغة الغاية التي يمكن أن تطمئن إليها نفس من لا يقنع من عظمة البحر بوشل، ولا من سعة الأفق بحيز حدوده المستوى الذاتي الماضي.

لا أطمح إلى قول كل ما أود قوله في الأدب وفي الفن في أبعد ما أمكن ويمكن النظرة الإنسانية العليا بلوغه، وجميع ما ينطوي تحت ذلك من أشكال وألوان، في عجالة أكتبها في صحيفة تلح عليها المطاليب السياسية وحاجات التفكير القومي في القضايا الاجتماعية - الاقتصادية، تحت ضغط الظروف الحاضرة التي تحمّلني من أعبائها ما لو زاد أكثر من نسبة قشة التبن إلى الوقر لأرهقني وارزحني. ولكني لم أجد بدا من قول شيء في الموضوع لإبقائه حيا ولترغيب الأدباء في الإقبال عليه، ولا مندوحة عن إبداء بعض ملاحظات خطرت لي فور قراءتي الكتب المثبتة آنفا.


أبدأ بكتاب الريحاني. أن فيه مواضع تحتاج إلى تدقيق كثير. وألاحظ أن في هذا الكتاب تعميما وإطلاقا يجرفان الكثير من التفاصيل التي تبقى الحقيقة الكبرى الأساسية ناقصة نقصا كبيرا بدونها ويظل الفكر قلقا لا يجد استقرار واطمئنانا إلا بوجودها وجلائها.


نظر الريحاني في "الأحلام" فوجده ديوانا تسوده "لهجة الكآبة والحزن" ووصف هذه "اللهجة" بأنها كانت"موضة" في أيام بيرن وميساه. وليس ديوان "الأحلام" في متناول يدي لأقابل هذا الوصف عليه واجد كم فيه من تدقيق. ولكني أذكر أني قرأت هذا الديوان قراءة مستعجلة من نحو أربع عشرة سنة أو يزيد، وأذكر أن التأثير الذي أحدثه فيَّ هو تأثير نبضات الإحساس الأول وقد انقشعت حجب المراهقة عن قزحية الشباب فتمازجت فيها الأشواق والرغبات التي اتخذت صورا من الجمال قوية ولاذعة أحيانا ولكنها صور ظهرت فيها شاعرية جدير بأن تحل موضعا مكينا في النفوس وفي الأجيال. ومع ذلك فلا بد من القول أن تعبير "لهجة الكآبة والحزب" الذي أطلقه الريحاني هو من التعميمات التي لا تفيد كثيرا في دراسة معينة أو مختصة بموضوع معين. وهو بعيد كل البعيد عن تناول الوجهة النفسية وأسبابها.


ومن هذا القبيل انتقاله من مخاطبة صاحب "الأحلام" إلى مخاطبة جميع الشعراء السوريين فيقول لهم "اقرأوا اشعيا بدل أن تغمسوا أرواحكم في دموع أرميا. عودوا إلى شكسبير وغوته بدل أن تحرقوا أصابعكم ومآقيكم في مراجل ميساه وبيرن". ولو كان قيل هذا الكلام في غير معرض النظر في ديوان "الأحلام" لكان إطلاقه هذا الإطلاق غير المحدود يجد موضعا امنع من موضعه الحاضر، لأنه يكون حينئذ كلاما عموميا منه من يشاء ما يشاء، أما في موضعه المذكور فهو قليل المحصل. ولا يزيد المحصل من كلام الريحاني قوله أن الشاعر ليس "زنبقة في جمجمة" ولا قوله "إنما الشاعر الحقيقي مرآة الجماعات ومصباح في الظلمات وعون في الملمات وسيف في النكبات. الشاعر الحقيقي يشيد للأمم قصورا من الحب والحكمة والجمال والأمل".


هذا الكلام الأخير الذي يحاول الريحاني أن يخرج به من السلبية الصكراتية (السقراطية) إلى النظرة الإيجابية، يزيد التعميمات السابقة تعميما. ويمكن أن يحسب من قبيل المعميات وليس فيه أدنى اقتراب من شجون الموضوع التي لكل شجن منها اتجاه خاص.


الحقيقة أن هذا الكلام لا يتعلق بديوان "الأحلام" بقدر ما يتعلق بالشعر والشاعر على الإطلاق. وهو مرسل إرسالا لا تحقيق فيه ولا تدقيق وليست فيه حقيقة أساسية واحدة يصح اعتمادها "لتشييد قصور من الحب والحكمة والجمال والأمل" للأمم التي تهدمت قصورها أو لم يكن لها قصور. فإني لا اعتقد أن شعراء سورية يصيرون غير ما هم بقراءة سفر اشعيا وترك قراءة سفر ارميا. والعودة إلى شكسبير وغوته وحدها لا تفيد كثيرا إذا لم تكن هناك ثقافة واعية فاهمة تتبع خطط النفس السورية. وماذا استفاد أدب اللغة العربية كله من عودة الشاعر المصري شوقي إلى شكسبير غير النسخ والمسخ والتقليد الذي لم يضف إلى ثروة الأدب العالمي مقدار حبة خردل؟


أما قول الريحاني "الشاعر الحقيقي مرآة الجماعات ومصباح في الظلمات" فقلت أنه من قبيل المعميات ولم يصعد بنا درجة واحدة فوق قول جبران" الشاعر زنبقة في جمجمة"، فمرآة الجماعات لا يكونها الشاعر وحده أو كل شاعر. وقد قال الدكتور خليل سعاده: "صحافة كل أمة مقياس ارتقائها وصورة أخلاقها ومظهر شعورها وعنوان مجدها، فهي المرآة التي لا ترى بها الأمة نفسها" ومصباح الظلمات يكونه الفيلسوف والفنان والأديب والشعار والقائد والعالم وكذلك "عون في الملمات وسيف في النكبات" ويكونه كل واحد من هؤلاء بطريقة خاصة. وفي هذه الحقيقية يكمن سر لا يجلوه كتاب الريحاني ولا شيء مما كتب الريحاني. فقد عاد الريحاني إلى هذا الموضوع في كراس عنوانه "أنتم الشعراء" قبّح فيه البكاء والعويل تقبيحا كثيرا ولكنه لم يعط الشعراء درسا واحدا يوجههم توجيها جديدا ، لأن كلامه كان كله من هذا النوع الغامض المشوش الذي يشبه دعوة الداعين إلى الاتحاد القومي من غير فهم أو تعيين لما هي القومية وما هي مقوماتها.


اترك كتاب الريحاني عند هذا الحد وانتقل إلى كتاب السيد يوسف نعمان معلوف. والذي أراه في هذا الكتاب أنه يشتمل على آراء فجة أو مبتسرة مستمدة من الحياة الأميركانية العملية ذات الطابع الانغلوسكسوني وليس فيه شيء من العمق لخلوه من النظرة الفلسفية أو التاريخية. وهذه الآراء الواردة فيه هي مزيج من نزعة فردية ورغائب عملية وأحكام عامة استبدادية كقوله "فمنه (الشرق) أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعدد منازعها وكثرة معتقداتها فكان شرا في الحياة على نفسه وعلى غيره".


تظهر النزعة الفردية بجلاء في قوله: "اعتن في مؤلفاتك المقبلة أن تكون مبتكرا فيما تنزع إليه سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلـَّدا لا مقلـِّدا في سائر أعمالك لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة المرء"، فكأن الشهرة الفردية صارت الغاية الأخيرة المتوخاة من الفكر أو العمل، وكأن أهم شيء في طبيعة الفكر أو العمل أن يكون المرء غير تابع غيره وأن يكون متبوعا. وهي قاعدة فردية بحت لعل الدافع إليها أن المتكلم عمّ المخاطب ويهمه أمره الشخصي استمساكا بعروة القرابة الدموية التي تنزع إلى المباهاة والمفاخرة كما هو مشهور في قبائل العرب. ومع أن المخاطب، وهو الشاعر المنتقد، قبل هذه الفكرة الفردية في جوابه إلى عمه فهو لم يتقيد بها كل التقيد الظاهر في كلام عمه فألقى عليه هذا السؤال: "ولئن طرقت باب ولجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟" وهو سؤال يكاد يصل إلى طرق باب ينفتح عن أفق تنبلج فيه أنوار فجر تفكير أصلي جديد، ولا يقصر إلا خطوة أو قفزة واحدة ليلج هذا الباب. ولكنها خطوة أو قفزة تفصل بين عالمين وقد تشبه، نوعا، القفز فوق العارضة العالية أو السور بالاستعانة بعكاز طويلة خاصة بهذا الغرض.


والرغائب العملية هي التي تجعل عمّ الشاعر يقول له هذا القول: "وقبل كل شيء اترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة وأطرق أبدا المواضيع والحيوية والعمرانية الخ" فمحصل كلامه أن الخيال هو دائما لا روح فيه، وأن الشعر هو كله خيال. وهنا يتحول انتقاده للشاعر إلى نوع من تقبيح الشعر والإشارة على نسيبه بوجوب تركه والانتقال إلى طرق "المواضيع الحيوية والعمرانية... ومواضع الضعف في الأمة مشيرا إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها". وكل ذلك لا دخل له في الشعر والشعراء ولا يختص إلا بعلماء الاجتماع والنفس والسياسة. ولولا هذا التخصيص التوجيهي لكان أمكن التساهل في عبارة المنتقد السابقة واعتبارها مفيدة "ترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة" من أجل الأخذ بنوع من الخيال فيه روح وحقيقة. وقد أصاب الشاعر في الرد على هذا الكلام من وجهة نظر الشعر، خصوصا قوله: "أن للوطن كتابه وصحافييه له أقلامهم المرهفة وقرائحهم المشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الحالات الطارئة فيبعث في من حوله ضجيجا يزول بزوال تلك الطوارئ فهذا ما لا أسلم به، إذ ليس الشاعر، في عرفي، من ضج له الجيل الواحد، حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأجيال" فهذا كلام من يشعر برسالة الشاعر الأسمى والفنان الذي من أهم صفاته الإبداع عن طريق التصور (الخيال) وهو أقوى كثيرا من قوله أن مهمة الشاعر هي "تصوير نفوس الناس للناس" الذي هو مرادف لقول الريحاني أن الشاعر"هو مرآة الجماعات" وقد يكون متأثرا به. ولكنه مخالف له عند التفصيل، لأن "مرآة الجماعة" قد تعني"نفس الجماعة" أما "نفوس الناس" فيرجح أنها تعني نفوس الأفراد. والعبارتان، ضمن الحدود التي قيلتا فيها، ضعيفتان لأنهما لا تشتملان على أية قضية نفسية علمية أو فلسفية أو على إدراك مضبوط لنفس الجماعة ونفس الفرد والفرق بينهما والعبارة الثانية، من هذا القبيل، اضعف من الأولى لأنها أكثر تعميما وهي لذلك أكثر غموضا. ولكن إذا أخذنا هذه العبارة على وجه التدقيق ونظرنا إليها نظرنا إلى معنى مقصود بعينه وجدنا أنها أقوى، في ذاتها، من عبارة الريحاني لأنها أبرزت لفظة "النفس" التي تدل، سواء أكانت مفردة أو مجموعة، على أقوى وأسمى ما في الإنسان، بينما عبارة الريحاني لا توجب الدخول في المسائل النفسية وقد تعني أبراز شؤون الجماعة وعاداتها.


من الغريب أن الشاعر الذي قال القول القوي آنفا، في صدد الشاعر ورسالته، لم يجد بعد مضي تسع سنوات ونيف، ما يزيده عليه أو يكون شبه استمرارا له، وأنه اكتفى بالقول في تعليقه الأخير على كتابيَ منتقديه أنه لو طلب إليه رأيه الآن لكان "أنكر على نفسه ما أنكره عليه الكاتبان الكبيران من الكآبة والشكوى".


"الزوبعة"، العدد 50 في 15 اغسطس 1942


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024