لم يكن فقط مهندساً للصوت، حمل شهادته ودار بها الى مؤسسات يطلب منها عملاً، انما كان، الى شهادته، صاحب موهبة بدأت تظهر وهو طفل في السنة الثانية من عمره، حتى اذا كبر ولمع اسمه، بات لصيقاً بكل عمل فني كبير، وبات المعنيون يهرعون اليه للاستفادة من خبرته، ومن اذنه الموسيقية، ومن شغفه بعمله.
منذ الستينات اسمع به وأقرأ عنه في كل اعمال الاخوين رحباني، وفي انجازات ستديو بعلبك، وكان مديراً له.
التقيت به اكثر من مرة في منزل الامين عبد الله محسن الكائن في الطابق الخامس من بناية مجاورة لمبنى الريجي في الحدث. وكان الرفيق فريد يقطن في الطابق الثالث من البناية نفسها.
لفتني فيه مستواه الاخلاقي وثقافته القومية الاجتماعية، هو الذي تربى على سعادة واقسم امامه.
واندلعت الحرب المجنونة، فيغادر الرفيق فريد مكان سكنه في منطقة لم تعد آمنة، ومثله يفعل الامين عبد الله محسن، إنما لم يغادر ذاكرتي حتى اذا انصرفت مجدداً الى موضوع تاريخ الحزب، رحت اسأل عنه بدءاً من الحدث، الى ان امكنني زيارة الفاضلة عقيلته السيدة سامية الحلبي في ضهور الشوير مترافقاً مع الرفيق المهندس جميل ابو خير(1) ومرة ثانية لأستلم منها مستندات وصوراً تضيء على سيرة الرفيق فريد.
فمن هو الرفيق "فريد ابو الخير"
*
لعل ما يقوله الناقد الادبي والاعلامي عبيدو باشا في جريدة "السفير" يضيء بوضوح على ما كانه الرفيق فريد ابو الخير في عالم الموسيقى.
مقالته بتاريخ 7 شباط 2001 خير شهادة، وتعريف صادق عن الرفيق الذي يبقى خالداً كلما تحدث التاريخ عن مهرجانات بعلبك، وعن هذه الكوكبة الرائعة من الموسيقيين الذين عرفهم لبنان في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي.
رحيل فريد ابو الخير
سفير الموسيقى
لم يتصور فريد ابو الخير اولاً، ان الصناعة تركيب وتنظيم للمادة. ذلك ان علاقته بالمهنة جاءت من هواية خالصة. اتفق الجميع على ذلك، جميع من عرفه وسألناه عنه، أكّد انه حصّل مهنته من الهواية. لم يفكر البتة في ان يتحول الى مهندس صوت، بضربة واحدة او بضربتين او اكثر. ميزته بلاغته في علاقته بالموسيقى، ابن التاجر اللبناني، الذي بدأ بالتجارة، قبل ان ينتقل الى مجاله الخاص، الذي لا يقلد قوالب الغناء، حين ينسخها.
الموسيقى في مرتبة ثانية في اول حياته. الموسيقى في مرتبة اولى في المرحلة الثانية من حياته. لم يتوفّ فريد ابو الخير، قبل ان يبني مكتبة موسيقية ذات مساحة سمعية شاسعة. انه وحده، من يمتلك تسجيلات الفرق التي جاءت الى بعلبك قبل ان تبدأ المهرجانات. وهو وحده، من يمتلك تسجيلات برامج مهرجانات بعلبك منذ بداياتها. هكذا اضحى ذاكرة الموسيقى اللبنانية والموسيقى العربية والعالمية، على حد سواء. بالصدفة، الصدفة وحدها اخذته الى ان يفتح ابواب تجربة جديدة، لم يكن في صددها. جاءت فرقة سمفونية الى بعلبك، طُلب الى فريد ابو الخير، كما يروي توفيق الباشا، الاهتمام بشؤون النقل والتسجيلات التقنية الخاصة بحفلها. اهتم بذلك، بما لفت إليه الجميع. مذاك، طلبوا منه، ان يهتم هو وحده بتسجيل حفلاتهم الموسيقية، على ادراج بعلبك، وفي الصالات البيروتية المعتمة. اضحى معرفة مجسدة في شخص، مع الألات الضخمة الغريبة في تلك المرحلة البعيدة ومع الميكروفونات الضخمة، بحجم حبات الفطر في شرائط الرسوم المتحركة.
بيديه، على كتفيه حمل فريد ابو الخير الآته ومهنته. لم يتأفف يوماً. لم يكن مثلاً متعالياً. بل مثل طبيعة باطنة للظواهر الطيبة، هذا الرجل الوديع الطيب المتفاني. لذا، لا يختلف اثنان، على انه ساهم في إعلاء صوت النهضة الموسيقية والغنائية في لبنان، بالرغم من انه لم يلحن اغنية واحدة او يؤلف قطعة موسيقية بموازير عتيقة او جديدة. سجل لفيروز ووديع الصافي وعبد الوهاب ولفريد الاطرش وللاخوين رحباني في لبنانياتهم وعربياتهم. اصبح وأمسى كبير مهندسي الصوت في ستوديو بعلبك، حين نسبت كل الاعمال الغنائية والموسيقية الكبرى الى تجهيزاته المتطورة والنوعية التي طبعها على الاغنيات والقطع المنتجة في استديوهاته.
حصل فريد ابو الخير قوانينه العلمية من تجربته الشخصية. حصل علومه الشخصية، من نشاطه الانساني. صار صديقاً للجميع وصوتاً مسموعاً في مهنته، وهو يلبي حاجات الاخرين. في كل صناعة سمعية-صوتية. نشاط صناعي ملحوظ، رسم حضور فريد ابو الخير عبر تكرار الحضور. اكتسابه الملكة الصناعية، اكسبه عقلاً استثنائياً وحنكة في اكتساب الطرق المتعددة والمختلفة في المهنة الواحدة.
يتذكره منصور الرحباني في الستينات، في همة دائمة، سميّع، بذا يصفه. رافقنا في رحلاتنا البعيدة والقريبة. واحد من قلة قليلة نادرة، تفهم في دقائق الهندسة الصوتية والتكنولوجيا. لم تغلبه التقنية، اذ بقي خلفها خطوة خطوة ولحظة لحظة. بقي شاب مهنته وهو في السبعين. لانه رفض ان يحوّل النسبي الى مطلق والمطلق الى نسبي. لم يتهكم ولم يوقع نفسه ولا الآخرين في المعارف الوثوقية او الجدليات النظرية المضجرة. ولعل صرامة شغله، باحترامه الاشياء، كبيرها وصغيرها، جعلت الكل لا يغفل عما تضمنه عمله من بحث وجدة.
منذ العام 1955. وفريد ابو الخير في مهنة الموسيقى، كسامع من طراز رفيع للموسيقى الكلاسيكية. نزل في مغطس البسيط والمركب في الموسيقى والاغنية اللبنانيتين. منذ استُدعي، لكي يركب اجهزة الصوت في بعلبك، ولكي يسجل الحفل بمعدات بدائية، صنع العجائب، على ما يروي زكي ناصيف صديقه وتوفيق الباشا ومنصور الرحباني. الكل اصدقاؤه، من لا يكل عن وصفه بالخبير والمرجع وخصوصاً على الصعيد التقني.
حين جهزت دار الاوبرا في مصر بآلات يابانية متطورة، استدعي لكي يعاين مكامن الخلل فيها. اصابه الحياء، اذ لم يبح بأن العلة ليست في الآلات، بل في حداثة علاقة شاغليها بها، ساهم في تسجيل اوراتوريو توفيق الباشا هناك، قبل ان يعود الى صوته وصمته واعماله الخاصة. مات في السبعين، بعد ان ماتت مطارحه الحميمة. مات شعره ومات نثره، ماتت قصائده المسجلة. ايقن ان الحي مات، وان ما هو عن الحي، ليس حياً إلا في حياة اصحابه الغاربين، هاله ذلك. خفق خفقة وداع اخيرة ومات. مات ابن ضهور الشوير المنتقل الى كفرشيما، محولاً بيته الى متحف تسجيلات صوتية. ما يحتفظ به، لا يحتفظ به احد، هذا جهده، هذه حياته، وهذا موته.
*
وفي 20 شباط 2001 يكتب الشاعر هنري زغيب في "نهار الشباب" عن الرفيق فريد ابو الخير، أثر رحيله:
" ودّعنا فريد ابو الخير. الصامت المتواضع الواقف وراء الاعمال الفنية الكبيرة يوصلها بالتقنية الافضل الى مستمعيها، غادرنا بالصمت نفسه الذي عاش فيه طوال حياته.
فريد ابو الخير لم يحمل معه الى الغياب ذكراً له، بل حمل معه ذاكرتنا. كان يقف دائماً وراء الحاجز الزجاجي، ويشرف على التسجيل، حتى اذا انتهى العمل، خرج الى الناس بأبهى صوت، وبقي فريد وراء الحاجز الزجاجي، فيسمع الناس العمل نقياً ممتازاً من دون حاجز يفصلهم عنه، لكنهم لا يرون الحاجز الزجاجي.
كل صرح كبير لا يقوم إلا على أعمدة متينة، تبقى تحت الارض ليظهر فوق الارض الصرح الكبير. والناس يرون الصرح ولا يرون الاعمدة المطمورة. هكذا فريد ابو الخير: لا يعرفه إلا أهل البيت من الوسط الفني، ويعرفون أنه لم يكن "مهندس صوت" عادياً، بل كان "المعيار" الضامن كلّ نجاح تقني.
بعد اليوم، كلما سمعنا عملاً من مهرجانات بعلبك او من استوديو بعلبك، او سواها مما مرت عليه انامله، سنترحم على فريد ابو الخير، ونذكره بالخير الفريد، ونتخيل انامله الخبيرة على هندسة الصوت، توصل إلينا الجميل جميلاً، ليبقى في ذاكرتنا جميلاً لأن وراءه مبدعين صاغوه فنياً، وخبيراً أوصل الابداع الفني الى قمته.
سنظل نذكر الخبير الكبير: فريد ابو الخير ".
لمحة عن حياته:
ابرز ما جاء في ما كتبه القس كبريال بهتان، عن الرفيق فريد ابو الخير، في "النشرة" الصادرة عن "الكنيسة الانجيلية الوطنية":
•ولد فريد ابو الخير في وادي شحرور سنة 1927 (2).
•ابتدأ علومه في مدرسة كفرشيما الوطنية، وبقي فيها حتى تخرج. عرف بذكائه وشغفه بدراسة الكهرباء وعلم الصوت.
•بدأ حياته العملية في سن مبكرة. إذ عمل مع اذاعة الشرق الادنى، ومن ثم انتقل ليعمل مع إذاعة صوت الانجيل. حيث ذاع صيته وعرف عنه اتقانه لهندسة الصوت. تعرف على المرساين الاميركان ودرس معهم فن الصوت وعلمه، وبعد سنوات عدة من الدراسة العملية والتحضير نال بجدارة شهادة هندسة الصوت.
•عمل كمهندس للصوت في استديو بعلبك، تعرف هناك على كبار الفنانين الموسيقيين. عمل مع الرحابنة وكان له معهم ومع فيروز رحلة عمر إن في لبنان أو خارجه. رافق فريد مهرجانات بعلبك منذ نشأتها وحتى توقفها القسري بسبب الحرب البغيضة.
•تزوج فريد سنة 1970 من الانسة سامية الحلبي (3) وعاشا معاً حياة سعيدة رغيدة، قدمت له سامية فيها كل خدمة وتضحية ومحبة.
•كان لفريد موهبة فريدة في جمع الاغاني والالحان، فبالإضافة الى الترانيم الروحية، فإن مكتبته الموسيقية غنية بأرشيف زاخر من الاشرطة والاسطوانات التي تحمل أطيب الذكريات وأجمل الاغاني والألحان . كُرّم فريد من قبل المركز الكاثوليكي للإعلام عن الاعمال الجليلة التي قدمها. كما كُرّم تكريماً رسمياً في مصر بعد أن أعاد تجهيز دار الاوبرا بالمؤثرات الصوتية المختلفة وأيضاً في مناسبات متعددة من قبل أصدقائه ومحبيه.
•كان فريد شديد الملاحظة، ثاقب النظرة لا يطيق الكذب ولا الرياء، متواضعاً لكنه عليمٌ في دقائق الامور. تميز بطبعه الهادئ ومحبته لكل الناس، كان مسكونياً بكل ما للكلمة من معنى فهو كاثوليكي وأرثوذكسي وماروني وإنجيلي لا غش فيه، أحب الجميع حتى أعداءه وخدمهم بدون استثناء، لم يكن يعترف بالطائفية ولا هي وجدت لنفسها مكاناً في قلبه.
فريد ابو الخير الغائب عنا اليوم بالجسد والحاضر معنا دائماً بالروح ستبقى كلماته واعمال يديه خالدة في كل عمل رائع.
*
كتب تنويه:
الى حفلات التكريم التي أقيمت له، فقد تلقى الرفيق فريد كتابي تنويه من قائدي الجيش: "العماد ميشال عون" بتاريخ 15121988، و"العماد اميل لحود" بتاريخ 1021993.
كتاب العماد ميشال عون:
" نشكر لكم كل ما قدّمتموه واسهمتم به لإنجاح نشاطات يوم الاستقلال 1988 لعائلات الشهداء العسكريين ونتمنّى لكم اطراد النجاح ودوام التوفيق".
كتاب العماد اميل لحود:
" إن مساهمتكم في إحياء ذكرى الاستقلال بالمشاركة في الحفلة الفنية التي اقيمت للعسكريين وعائلاتهم كانت مدعاة شكر وامتنان لما حملت من دلائل العاطفة تجاه ابناء المؤسسة العسكرية وشعور نحو الجيش. فإذ نحيي لديكم هذه الدوافع الوطنية والانسانية نرجو لكم دوام التوفيق لمزيد من الخدمة والعطاء ".
*
وفاته:
وافت المنية الرفيق فريد يوسف ابو الخير يوم السبت 3 شباط 2001، وقد نعته عقيلته السيدة سامية الحلبي، شقيقتاه ليللي واكيم وهدى فريجي وعائلتيهما، ولدا عمه واولاد خاله المرحوم انيس، وعائلات ابو الخير، الحلبي، هاشم، واكيم، فريجي، كنعان، خياط، فرحات وعموم اهالي كفرشيما وضهور الشوير.
يوم الثلثاء 6 شباط نقل جثمان الرفيق الراحل الى الكنيسة الانجيلية في زقاق البلاط – رياض الصلح حيث أقيمت خدمة الدفن الساعة الثانية بعد الظهر ثم ووري في مدفن العائلة في كفرشيما. تقبلت التعازي قبل الدفن وبعده في صالون الكنيسة الانجيلية ويومي السبت والاحد 10 و 11 منه في منزل الفقيد في ضهور الشوير ملك فيليب الحلبي.
وبتاريخ 24 شباط نشرت العائلة في الصحف "شكراً على تعزية" جاء فيه:
نتقدم بالشكر لجميع الذين آسوها بمصابها الاليم بفقيدها الغالي خاصة: فخامة رئيس الجمهورية والسادة الوزراء والنواب الحاليون والسابقون ونقابة الفنانين والهيئات الروحية والسياسية والاجتماعية ان كان بحضورهم الشخصي او باتصالاتهم الهاتفية وبتبرعاتهم ببدل اكاليل او ارسالهم الاكاليل سائلين الله ان لا يفجعهم بعزيز.
•كان آخر مهرجان شارك فيه هو صيف 840.
*
ستوديو بعلبك:
لان مسيرة الرفيق فريد اقترنت بستوديو بعلبك الذي كان له حضوره اللافت في السنوات التي سبقت الحرب المجنونة، فمن المفيد ان نورد "قصته" كما وردت في جريد "النهار" بتاريخ 632010 تحت عنوان:
ستوديو بعلبك: الحرب اقفلته مرة اولى وزمن السلم قضى على الامل بإنقاذه:
طلب وزير الثقافة سليم وردة بعد ظهر أمس من محافظ جبل لبنان بالوكالة انطوان سليمان وقف اعمال الهدم في ستوديو بعلبك في حرج تابت، لترسل الوزارة بعثة منها للتأكد من طبيعة المبنى ومحتوياته وما اذا يمكن تصنيفها بالاثرية والتراثية، وما يمكن عمله في هذا المجال على ما افاد "النهار" في اتصال معه.
وكانت أعمال الهدم بدأت أمس، وقال جيران المبنى انه يتم بيع ادوات الانتاج الجديد بالكيلوغرام بدل نقلها الى أي متحف وطني يسجل تاريخ الانتاج الفني اللبناني.
وكانت ادارة الستوديو اعلنت في 2471992، اعادة تنشيط الانتاج السينمائي في الستوديو الوطني العريق بعد توقف قسري فرضته الحرب، قاصراً نشاطه طوال سنوات على التسجيلات الموسيقية لفنانين كبار.
وقد اقيم احتفال انذاك رعته السيدة منى الهراوي على تراس المبنى حضره حشد من الفنانين اللبنانيين والمصريين.
ومما قاله عضو مجلس الادارة ضاهر ديب انذاك: اذا ما ذكرنا الفن في لبنان وفي العالم العربي لا بد ان نذكر ستوديو بعلبك، لأنه قطعاً، اصبح جزءاً من التراث القيم. قام ستوديو بعلبك بأعمال كبيرة في حقل السينما والموسيقا الخ، وكان له دور رائد في هذا المجال. وها نحن اليوم، وبعد هذه المحنة، نعود مجدداً ننفض الغبار وننتفض كطائر الفينيق لنلملم جروحنا ونرجع الى العطاء، هذا العطاء الذي عملنا به دائماً، وكان مقياسه ان نعطي بلا مقياس... ذاك كان سر نجاحنا في ستوديو بعلبك (6) وإذا كنا نتكلم عن الفن، فإننا نتكلم عن الحرية، اذ من غير الحرية لا يستقيم الفن".
وتكلمت السيدة الهراوي:" ضيوفنا الاعزاء، يا نجوم مصر الشقيقة والفن العربي، أهلاً بكم في لبنان واحة اللقاء من أجل الابداع، إن إعادة تنشيط ستوديو بعلبك هو تجديد لانطلاقة الفن والانتاج واحياء لدور لبنان الثقافي والابداعي. انه اعلان لنجاح مسيرة السلام".
وأضافت: "اليوم نعيد افتتاح ستوديو بعلبك، وغداً نجدد تجهيزه واستكمال عدته، اعيدوا بيروت عاصمة الفن والعطاء، انطلقوا في بناء العصر الجديد، احبوا بريق الصناعة العربية، املأوا الارض والقلوب، بصحوة القيم، كونوا انتم، صوغوا ثقافة الجمال، جمال الحياة، جمال الامل، جمال الاباء، الجمال الذي تحدث عنه اديبنا اللبناني الكبير جبران خليل جبران قائلاً: "الجمال هو الحياة بعينها، سافرة عن وجهها الطاهر النقي، ولكن انتم الحياة، وانتم الحجاب، والجمال هو الابدية تنظر الى ذاتها في مرآة، ولكن انتم الابدية وانتم المرآة، عاش لبنان".
*
تقترن قصة تأسيس ستوديو بعلبك بالمصرفي يوسف بيدس (بنك انترا) اضافة الى ثري فلسطيني الاصل هو بديع بولس يتردد ان الاستوديو قام في فيللا كانت ملكاً له. ولا يمكن فصل نشأة ستوديو بعلبك عن الارث المكتسب من تجربة "اذاعة الشرق الادنى"، احد رجال هذه الاذاعة، كامل قسطندي، اخبر انه قبل ان يكون الاستوديو معروفاً باسمه الحالي، لم يطمح مؤسسوه الى اكثر من تطوير اسلوب العمل الذي مارسوه في اذاعة الشرق الادنى. وبالفعل، فقبل اضافة النشاطات السينمائية الى قائمة مشاريعه، اطلق على الاستوديو اسم "الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية" وكان بين المشاركين في المرحلة التأسيسية كل من توفيق الباشا، نزار ميقاتي، زكي ناصيف، كامل قسطندي، وشغل صبري الشريف منصب المسؤول عن الدائرة الموسيقية فيما تولى سميح الشريف مهمات الادارة.
وفي التفاصيل، يوضح قسطندي ان "الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية" تأسست سنة 1957: "ذات يوم، اتصل بي بديع بولس وأطلعني على خريطة بناء كبيرة في سن الفيل، كان ينوي تشييد ستوديو، وبعد البحث، اتفقنا على البدء بالتنفيذ. لكن حدث اني اتصلت بالمغفور له اميل البستاني، وكان آنذاك رئيس مجلس ادارة شركة "كات" فطلبن منه الدخول في المشروع. سألني: كممثل لشركة "كات"؟
اجبته: لا. ولكن بصفتك الشخصية. فوافق. وكان هذا كافياً لإثارة الريبة في نفس بديع بولس الذي أثر الاستقلال في مشروعه، وانتهى الامر بانصراف قسطندي الى نشاطاته الخاصة، وشيئاً فشيئاً تحولت "الشركة اللبنانية للتسجيلات الفنية" الى "ستوديو بعلبك".
ويروي فنانون عن مدير الستوديو فريد ابو الخير انه كان يخيف الفنانين بادارته الصارمة بما فيهم الرحابنة الذين كانوا يلتزمون تعليماته. وقد شهد الستوديو أبرز تسجيلات ذلك الزمن من فيروز الى زكي ناصيف وفريد الاطرش وغيرهم.
في عام 1992 أعيد افتتاح الستوديو وبعد 18 عاماً اقفل من جديد، وهذه المرة بشكل نهائي، اذ تم هدم المبنى وبيعت المعدات.
وقال الفنان وليم حسواني ل"النهار" مساء أمس:
في تلك الايام كان استوديو بعلبك بالنسبة الينا، المجتمع الفني الراقي والمنارة التي تشرق منها الكلمة واللحن.
اذا كان ستوديو بعلبك سيزول من الوجود، نعتبر ان قسماً كبيراً من عالم الفن في لبنان زال، وكلنا اسف على ما يحصل.
وفي اتصال مع الفنان الياس الرحباني قال: " نحن في بلد تملك دولته روح الهدم للفكر والفن. لقد اعطى هذا البلد الحرف والفكر والحقوق الى العالم، لكن "الوحوش الكاسرة" أكلت جبال لبنان والاخضر فيه.
كان عاصي ومنصور وفيروز وصباح وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي وغيرهم وراء قيام ستوديو بعلبك.
وأضاف: منذ ان كان عمري 19 عاماً أتذكر كيف كان الانكليز يصفون الباطون لبنائه، كنت اجلس هناك. اتذكر الان كل تلك اللحظات، اتذكّر تلك الغرفة التي تعطي رنّة للاوركسترا، كل هذا التراث الذي تسمعونه في العالم اسمه ستوديو بعلبك. كل العالم العربي وكبار فنانيه سجّلوا في ستوديو بعلبك الذي كانت تقنياته الاهم، هو قلعة وتراث الشرق الاوسط، مثل تلفزيون لبنان.
هذا أسوأ ما سمعته عن النية في هدم الستوديو.
ثقل الحضارة الشرق أوسطية في ستوديو بعلبك يهدمونها اليوم.
هوامش:
(1) من ضهور الشوير، وهو رفيق واع عقائدياً وناشط في البلدة، وفي العمل القومي الاجتماعي. فيما الرفيق فريد ابو الخير من بلدة وادي شحرور.
(2) انما ترعرع في كفرشيما حيث شقيقتاه وعمه وخاله، وفيها ووري الثرى.
(3) لم تنتم الى الحزب إنما كانت مقربة جداً. تعاطت مهنة التعليم في الشوير وخارجها. تتلمذ على يدها ألاف الطلبة، من بينهم الرفيق جميل ابو خير الذي يحكي الكثير عن أدائها المميز.
فوالدها الراحل فيليب كان رفيقاً، كذلك شقيقها سليمان.
|