إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

لم يتعلّم الموارنة من التجربة الدرزية والخاسر هو لبنان

نسيب أبو ضرغم - البناء

نسخة للطباعة 2015-02-24

إقرأ ايضاً


جمع الأمير أحمد المعني، آخر أمين درزي على لبنان، زعماء الحزب القيس، وطلب إليهم أن يقبلوا بالأمير علي علم الدين أميراً على جبل لبنان من بعده، لأنه بلا وريث ذكر، وبالتالي ليس من أمير درزي قيسي موجودٌ ليتبوأ مركز الإمارة. وكان الأمير علي علم الدين من الحزب اليمني.

انتفض زعماء الحزب القيسي في وجه الأمير أحمد المعني، مؤكدين قبولهم بأمير شهابي قيسي وإن كان سنياً، على أن يكون الأمير علي علم الدين اليمني أميراً عليهم. حاول الأمير أحمد إقناعهم بقوله لهم إنه أدرى منهم بآل شهاب فهم أصهاره، ولكن عبثاً حاول، وهكذا أتى بالأمير حيدر الشهابي أميراً على الجبل وبدأ حكمهم بمعركة عين داره عام 1711، التي ضرب فيها الأمير حيدر الحزب اليمني وطرده خارج البلد. كانت معركة عين داره بداية نهاية حكم الدروز في جبل لبنان، الحالة التي ألقت على الدروز معاناة ما زالوا يعيشونها حتى اليوم.

مثلما فعل الدروز، فعل الموارنة، يوم أتاهم النصح من روبرت مورفي، الذي توصّل مع الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى التخلي عن ترشيح الأسد للرئيس سليمان فرنجية والقبول بالنائب مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية. وكان مورفي قد وضع الزعماء المسيحيين في بكركي آنذاك، بتداعيات رفضهم لترشيح الضاهر، حينما قال لهم، الضاهر أو الفوضى. وأعاد التاريخ نفسه، فالموارنة ليسوا أكثر دراية من الدروز القيسية، إذ أتى رفضهم بالحدة ذاتها والنزق وضيق الأفق، مثلما كان رفض زعماء القيسية لاقتراح الأمير أحمد المعني. والتاريخ أصرّ على أن يعيد نفسه أيضاً، فكانت للموارنة «عين دارة» خاصة بهم، نفذتها القوات اللبنانية في وجه الجنرال عون، «عين دارة» الموارنة أدت إلى اتفاق الطائف، الذي جلب إلى الموارنة ما جلبته «عين دارة» الدروز لهم. وها هم يعيشون الحالة التساؤل الوجودي ذاته.

أردنا من هذه المقدمة القول إن لبنان منكوب بطبيعة التركيبة الاجتماعية ـ السياسية القائمة على اعتبار الطوائف والمذاهب عناصر أساسية مكونة للمجموع اللبناني وتعتبر الأساس لكل البنى السياسية والدستورية والقانونية والاجتماعية في لبنان.

يخسر الدروز كمكوّن طائفي حكم لبنان بسبب صراعاتهم الداخلية، فيدفع لبنان ثمن ذلك حوادث طائفية فتحت أبواب البلد للتدخل الأجنبي، وأعني حوادث 1860 التي كان العامل الأجنبي أحد صنّاعها الأوائل، وبالتالي يُنكب لبنان بتسويات طائفية من نظام القائمقاميتين إلى نظام المتصرفية، الأمر الذي أسّس لقيام لبنان الحديث على أسس طائفية ـ مذهبية.

كذلك يخسر الموارنة بفعل ضيق أفقهم الحكم، بعدما كان لبنان في ظلّ صلاحيات رئيس الجمهورية محكوماً بشكل أو بآخر من قبل هذه الطائفة. اصطرع الموارنة، وأورثوا بفعل اصطراعهم، اتفاق الطائف الذي شطب هذه الطائفة من خانة السلطة لمصلحة وهابية سياسية فرضتها المعادلات القائمة بسبب ما أفرزه رفض الموارنة لنصيحة مورفي وما تلاها من تداعيات وصولاً إلى اتفاق الطائف.

لبنان، بعد اتفاق الطائف وخاصة في المرحلة الأخيرة، يعاني توتراً يطال أحد مكوناته الطائفية الموارنة . توتر يدل على قلق وجودي تعيشه هذه الطائفة. لا يخفى الضرر العميق الذي يولده هذا التوتر وتداعياته على مستقبل اللبنانيين كافة.

السؤال: أين يكمن أصل الداء، الذي يظهر في مراحل تاريخية من تاريخ لبنان، سواء على يد فشل الدروز، أو على يد فشل الموارنة؟… ومَنْ يدري، فقد يظهر هذا الداء عينه بسبب فشل الطوائف الأخرى أيضاً.

مأساة اللبنانيين أنهم ارتضوا لأنفسهم نظاماً سياسياً يقوم على اعتبار الطوائف والمذاهب عناصر أساسية وتأسيسية في البناء الوطني. بكلمة، ارتضوا أن يكونوا ثمانية عشر مواطناً وليس أربعة ملايين مواطن. ارتضوا لأنفسهم هذه الصيغة، ولكنهم لم يحترموا شروطها، فسرعان ما كانت تنتصر نزواتهم على المصالح العليا للبلد، وهي نزوات الطوائف، بل نزوات المتسيدين عليها. تنفرج خلافاتهم على وقع التناقضات الكامنة في ذوات الطوائف، ويؤدي انفجارها إلى أزمات وطنية ـ بنيوية تطرح فوراً تساؤلات وجودية تشكل خلفية حراكهم كلّه، سياسياً واجتماعياً وثقافياً وحتى اقتصادياً.

يقول د. إدمون رباط: «… والأدهى من ذلك أن رؤساء الدولة ووزراءها لم يتصرفوا أثناء انزلاقهم على المنحدر الذي تقودهم مصالحهم السياسية إلى قعره، إلا بما يستجيب لضغوط الأوساط الطائفية التي انبثقوا عنها. فلم تؤدِ تصرفاتهم في نهاية الأمر، إلا إلى تعزيز إولة البنية المتعددة الطوائف التي يستمدون مبرر وجودهم منها. والحال أن هذه البنية كانت حافلة ومشبعة بالتناقضات القابلة للانفجار الأمر الذي حصل بالفعل عام 1975» إدمون رباط، التكوين التاريخي للبناني السياسي والدستوري، ج ثانٍ، ص 830 .

ثمة صيغة بنيوية مصيرية مليئة بالتناقضات، تنفجر بين أيدي أصحابها بشكل متواتر. هذا ما حصل مع الدروز عام 1711 وهذا ما حصل مع الموارنة 1990 وهذا ما سيحصل مع كل طائفة ستشعر يوماً بأن مقاليد الحكم الأساسية بيدها. يحصل هذا الانفجار ولا تتوقف مفاعيله في الصيرورة اللبنانية، بل تشكل خلفية وعقدة في آن واحد تؤسسان لكامل الحراك السياسي لزعمائها.

ما يستميت الموارنة اليوم لإعادته إلى قيد الحياة، وهو السلطة، عبر رئاسة الجمهورية التي استحالت بعد اتفاق الطائف إلى حكم لا يملك أوراقاً صفراء، استمات الدروز لأجله بدخولهم حوادث 1960 من دون طائل، بل على العكس ازدادوا غرقاً في مستنقع اللاسلطة.

إنها المأساة اللبنانية، فإِلامَ تتكرر المأساة؟ إلام تنهزم الطوائف الواحدة تلو الأخرى بتناقضاتها الداخلية، فتخلّف للوطن هذه الأزمات المتراكمة التي ستتوالى على يد طوائف أخرى، طالماً أننا لا نريد الخروج من حلقة الموت المقفلة، وهي صيغة الطوائف والمذاهب، إلى رحاب الحياة الصحية، رحاب المواطنة»؟

عندما ينوء الوطن تحت عبء هذه الكوارث الطائفية السياسية المتواترة، ألا يستحق الأمر الوقوف والبحث عن مخرج نهائي لهذه الدوامة؟

عمق المأساة ليس في عدم انتخاب رئيس جمهورية، أو في صعوبة تشكيل حكومة أو استمرارها. المأساة هي في أننا رعايا طوائف يتملكها ملوك، ملوك ليست هذه الطوائف بنظرهم أكثر من أسلاب لهم ومصلحتهم في أن تبقى كتلاً مقفلة، لا أن تتفكّك، وبالمعنى السياسي، إلى أفراد أحرار، إلى مواطنين يبلغ عددهم أربعة ملايين. المأساة أن نبقى ثمانية عشر مواطناً، لم يتعلم الموارنة من الدروز، ولن يتعلم الآخرون من الموارنة ، أما لبنان فهو الخاسر الأكبر.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024