إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

«تركها على المشيَّة»

نسيب أبو ضرغم - البناء

نسخة للطباعة 2013-10-18

إقرأ ايضاً


ينتابك الذهول حينما يظهر أمامك أحدهم وهو على مستوى من الدهاء فتطرح على نفسك إزاءه سؤالاً ملحاً: من أين أتى بهذا كلّه؟ ومن أين له هذا؟

عرف التاريخ الكثير من الدُهاة والكَذَبة لكنهم جميعاً جعلوا من أنفسهم مرجعاً لدهائهم هم صنعوه وهم عمّموه وهم من يتحمّل مفاعيله. كانوا يتباهون بدهائهم ويعتبرونه مَلَكة يمتازون بها عن سواهم.

عمرو بن العاص معاوية بن أبي سفيان مترنيخ... إلى آخر القائمة المعروفة في التاريخ ما كانوا يوماً إلاّ متباهين بهذه الطاقة الفائقة من الدهاء.

أما صاحبنا ذاك الفلاّح الأمّي الذي لم يأخذ من العلم إلاّ معرفة فكّ قراءة اسمه وتصوير كتابته تصويراً رأيته قد تفوّق على أعلام الدهاء في العالم.

حصل أن طلب منه أحد أبناء قريته أن يفلح له حقله وألحّ عليه ذلك أن السماء لم تعد تنبئ بسقوط المطر وصاحب الحقل يخشى أن يبقى حقله بوراً.

ألحّ بالطلب ردّ الفلاح: «تركها على المشيّة» ويقصد المشيئة الإلهيّة وأعاد صاحب الحقل يلحّ مجدّداً طامعاً بأن يجزم الفلاح وعداً ثابتاً له والفلاّح يجيب بالرد الأول ذاته: «تركها على المشيّة».

أمام ثبات الفلاح على جوابه ونظراً إلى حاجته الماسة إليه بَلَع ريقه وأسكت عقله وفؤاده ولسانه على ريبة وشك بجواب الفلاح ومضى يتضرّع إلى «المشيّة» لكي تلبي ذاك الفلاح.

مرّت أيام واشتدّ الحر وامتنع المطر والحقل لم يُفلَحْ بعد.

ذهب صاحب الحقل إلى الفلاح معاتباً كيف لك أن تخلف بوعدك وتمتنع عن حراثة الحقل ها هو قد بقي بوراً أهكذا هي وعودك؟!

ردّ الفلاح وقد استجمع دهاءه أنا لم أعِدك أنا قلت لك «تاركها على المشيّة» لقد حاولت جاهداً أن أحرث حقلك ولكن المشيّة كانت تعوقني فما ذنبي أنا حاولت والمشيّة منَعَتْ أنا لم أخلف بالوعد. اجتاحت صاحب الحقل موجة برد جَمّدت مفاصله وعطّلت لسانه ولم يبق منه ينبئ بالحياة إلاّ التماعات في أحداقه امتزج لمعها ببعض الغضب والذهول. يقول صاحب الحقل في نفسه: وهل أسأل المشيّة عن تخلفها وتمنعها؟!

أعياه الجواب وعاد مطرقاً يشعر بكابوس مُضنٍ يفوق بأضعاف كابوس بقاء حقله بوراً.

أخبرني بما حدث... سألني رأيي وكان مضى على تمنّع المشيّة عقداً من السنين قلت: والله هذا الفلاح تفوّق على دهاة كثر أنا قرأت عنهم في كتب التاريخن

قال: وبمَ؟ قلت: الدهاة المعروفون في التاريخ كانوا يتباهون أولاً بدهائهم إضافة إلى أنهم كانوا ينسبون فعل دهائهم إليهم فكانوا الدهاء والدهاة معاً فعلاً ومسؤولية. أما صاحبك الفلاّح فهو على سويّة أرقى في الدهاء وأكثر جراءة على الله.

أنظر إليه كيف أنه حرّر نفسه من أيّ مسؤولية تنتج من تخلفه عن الوعد تمسكن وظهر كأنه الحمل الوديع الذي لا يتحرك ولا يسكن إلاّ بإرادة الله فإن تحرّك فالله هو الذي أراد وإن سكن فكذلك هو يفعل ما يريد يكذب بقدر ما يريد وقد حصّن نفسه «بالمشيئة». المشيّة منعت المشيّة أعاقت هو طائع لها غير قادر على مخالفتها أما أنت فأجرَك على المشيّة وشكواك على المشيّة.

تصوّر كيف يتجرأ على الله إلى حدّ أنه يحمّله مسؤولية كذبه هو...

ما هكذا فعل عمرو بن العاص إذ كان إذا دهى يتحمّل مسؤولية دهائه...

ومترنيخ إذا دهى يعتبر دهاءه مدرسة في علم السياسة والدبلوماسية... لا المشيّة ولا الله... ولا أحد سواه.

غريب أمر هذه الكلمة «المشيّة» لم أقع على كلمة في اللغة العربية يمكن أن تحتمل هذا الكمّ من الدهاء والكذب الكلمة التي هي في الأساس تعبير عن إرادة الله فتستحيل بدهاء هذا الفلاح إرادة على الله وباسمه دهاء وكذباً.

أسأل نفسي: هل الدهاء موهبة لا علاقة لها بالعلم والتعليم؟!

أعتقد ذلك... ربّ فلتكن مشيئتك أنت...


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024