إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

في تقديم العين على القاف

نسيب أبو ضرغم - البناء

نسخة للطباعة 2014-06-10

إقرأ ايضاً


منذ ما بعد اتفاق الطائف الذي صار دستور الجمهورية الثالثة في لبنان، وتحديداً بعد تولي الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة، بُدئ بوضع سياسة للدولة اللبنانية قائمة على نقل ملكية القطاع العام إلى القطاع الخاص. وكانت فلسفة هذه السياسة أن الدولة هي رب عمل فاشل، بدليل ترهل المؤسسات الرسمية وفسادها. والحل من وجهة نظر هذه «الفلسفة» هو في أن يتملّك القطاع الخاص كامل القطاع العام، ويقوم هذا القطاع نفسه بتقديم الخدمات إلى المواطنين.

لم تبقَ هذه «الفلسفة» محصورة في دائرة التصوّر والتخطيط، بل إن الرئيس رفيق الحريري عجّل في تطبيقها، يوم أقدم على محاولة شراء شركتي الخليوي من الدولة اللبنانية بمبلغ مليار ومئتي مليون دولار أميركي، وللتذكير، فإن المحاولة الأولى في سياق تطبيق الفلسفة المشار إليها، باءت بالفشل، إذ ووجهت بمعارضة عنيدة من قبل الرئيس إميل لحود عبر وزير الهاتف آنذاك جان لوي قرداحي فسُجِّل انتصار للقطاع العام على محاولة تفكيكه ونقل ملكيته إلى القطاع الخاص. وللتذكير أيضاً، نورد أن شركتي الهاتف تدران اليوم على الخزينة اللبنانية ملياراً وستمئة ألف دولار سنوياً، ومن خلال مقارنة الرقمين ندرك مدى عمق الهوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تقودنا إليها سياسة خصخصة القطاع العام، وهي في رأينا خصخصة الدولة في لبنان.

ما حصل في شركتي الخلوي، جرت محاولة تكراره في شركة الكهرباء عن طريق إهمالها وجعلها مؤسسة عامة فاشلة تلقي على الخزينة أعباء هائلة، ليصار إلى تسويغ بيعها «بتراب المصاري» إلى الحيتان الجاهزة لابتلاع كل شيء.

نسوق هذا الكلام في سياق طرح موضوع سلسلة الرتب والرواتب، الموضوع الذي أخذ من عمر اللبنانيين ثلاث سنوات نضالاً وملاحقة ومطالبة واعتصاماً، فأخرج الموضوع كأن المشكلة هي في عجز الحكومة عن تأمين الموارد الكافية لتغطية السلسلة. إننا في هذا المقام، لن نقول في موضوع «العجز» الوهمي الذي يُدّعى به، ذلك أننا نعلم جيداً أن ثمة موارد هائلة يمكن جمعها من خلال استعادة حق الشعب اللبناني في الأملاك البحرية وغير البحرية المسطو عليها، ومن خلال محاكمة جميع السُرَّاق الذين فاحت روائح سرقاتهم والذين لم تَفُح بعد. يمكن للسلطة أن تجمع أكثر من تكاليف تغطية السلسلة لو وضعت يدها على ملف المساحات التي ردمت في البحر خلافاً لكل قانون، ومحاسبة المستفيدين من ذلك. يكفي أن تقتطع الدولة أكثر من نصف المساحة المردومة في البحر وتؤجرها للقطاع الخاص كي تؤمن ما يفوق مصاريف السلسلة، إلاّ أن وراء الأكمة ما وراءها!

جرى التركيز على عجز الخزينة العامة بشكل متكرر ولجوج، إذ لم يتكلم هؤلاء المدعون بعجز الخزينة عن أسباب عجزها، ولم يُشروا إلى سرّاقها وهادري أموالها. دائماً الفاعل في لبنان «مجهول».

كل ما في الأمر، أن جهابذة تبذير المال العام وتهريبه، رأوا في مناسبة طرح السلسلة فرصة للعودة إلى النغمة القديمة: بيع الدولة إلى القطاع الخاص. وسرّ الأمر يكمن في نزوعهم إلى إلغاء الوظيفة العامة وركيزتها التقاعد، والاستعاضة عنها بالتعاقد، والتعاقد بطبيعته ذو مهلة محددة، إذ ليس من متعاقد مدى الحياة أو مدى السن القانونية. ماذا يعني ذلك؟

يعني ذلك، نقل المواطنين الذين حرّرتهم الوظيفة ونظام التقاعد من سيطرة أصحاب رأس المال، رأس المال الذي يكون اشترى «بتراب المصاري» الدولة بمؤسساتها نقلهم إلى نير القطاع الخاص، أي امتلاك لقمة عيشهم والتحكم في مستقبلهم ومستقبل أولادهم، ولهذا ترجمة سياسية خطيرة هي استلاب مواقفهم السياسية وجعلها متطابقة مع رغبة أسيادهم من أصحاب رأس المال. وإذا سقط هذا الأمر على الحالة السياسية القائمة في لبنان فهذا يعني تحويل لبنان بفعل هذه السيطرة إلى محمية تأتمر بسياسة خارجية واضحة الأهداف والخطط، عندما يصبح الشعب اللبناني بأكثريته أسير التعاقد القائم مع أصحاب رأس المال.

إلى ذلك، يحق لنا أن نسأل، إذا تم استبدال التقاعد بالتعاقد، وهيمنة رأس المال الناتجة من ذلك، أيّ رأس مال سيحكم صيرورة المجتمع اللبناني؟ وهل من الصعب أن يصبح الرأسمال العائد لمواطنين لبنانيين قناعاً لرأسمال لا يعرف حقيقته إلاّ الله والراسخون في العلم؟! هل ذلك صعب، بعد فقدان الدولة قطاعها العام وتمليك هؤلاء الأصول الوطنية كافة، وبعد فقدان الشعب قدرته على المواجهة بحكم خضوعه للتعاقد؟

السلسلة واجهة لعودة سياسة خطيرة جداً يقودها Nicker العصر في لبنان.

عندما ينجحون في تقديم عين التعاقد على قاف التقاعد، يكون البلد قد سقط سقوطه المدوي، ولا أحد يستطيع أن يقدّر كمّ من الزمن سيمرّ حتى يستعيد إمكان نهوضه.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024