إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الذّاكرة

نسيب أبو ضرغم - البناء

نسخة للطباعة 2013-08-02

إقرأ ايضاً


قالت لي الذاكرة أنت أنا فاستفزّتني ذلك أن الأنا التي تموج في داخلي دخلت حلقة التفرّد وخالت نفسها أنها ذات قائمة بذاتها فما هي هذه التي تدّعي أننّي هي؟ إلا أنّ ما قالته كان كافياً لأن أذهب معها في سياق احتشدت فيه أسئلتي وتساؤلاتي.

قلت:

وكيف يكون! كيف أكون أنا أنتِ؟!

قالت حتى تدرك ذلك لا بد من أن تعرف ماهية الأنا خاصتك أليست هي ما قدرت وما إليه تطمح ما تريد وما لا تريد ما تحبّ وما تكره؟ أليست أناك هذه المنظومة من الرغبات والعقد والانتكاسات والمعارف؟

قلت: بلى.

قالت: وكيف لك أن تشعر بكل ذلك؟ كيف لك أن تعي آلامك وأفراحك ومعارفك ورغباتك؟ كيف لك أن تعي ما تكره وما تحب؟ أليس لأنني أستودع فيّ كل هذه وأقدمها إليك ساعة يطلبها عقلك أو تنفعل بها نفسك؟

وهب أنني قد أسدلت بيني وبين ما تدّعيه أنت أنا قائمة بذاتها ستاراً وحجبت به ما عندي فماذا يبقى من أناك؟ ألا تستحيل وهماً ونسياً منسيّاً.

أطرقت أستمع متشبثاً باناي ولكن الستار الذي أشارت إليه ذاكرتي بدأ ينسدل أكثر ويدفعني إلى عتبة الحقيقة بذات سرعة انسداله. الحقيقة التي لا تدرك إلّا بضوء الذاكرة فهي من دونه ظلمة وفراغ وبالتالي تستمد هذه الحقيقة مكوناتها وشروطها ومضمونها من ذاكرة تكوّنت مصباحبة لحركتنا سواء في المادة أو الفكر.

أحسّت الذاكرة أنّ لقولها وقعاً عميقاً فأكملت:

كل هذا الذي تراه معناه لديّ وكل هذا الذي تسمعه معناه لدي حتى الذي صنعته أو أبدعته هو من دوني غريبٌ عنك وبواسطتي بعضٌ حيٌّ نابض منك.

الكون برمّته يظهر أمامك صفحة بيضاء فحتى اللون الأبيض الماثل أمامك عينه أنت لا تفقه ماهيته ولا تدرك موقعه من الألوان.

من دوني أنت حواس صماء عمياء لا تكوّن المحصلات والنتائج.

من دوني أنت وجود ماديّ لا يعرف معناه لأنّ معناه هو في ما أنا أختزنه وهو مكنونٌ في داخلي.

تكمل الذاكرة درسها فتعرّفني بزخّات أنوارها حتى أغرقت أناي بمادة نورها وأحيتها بالنور عينه.

تقول بنبرة المعلّمة أنا بُعدك في ما مضى وفي ما سيأتي أنا جنحاك المقدسان المعدّان للتحليق بي أنا هو الطريق الذي من دونه ترى ذاتك تدور وتدور بغثيان مُملّ.

أنت الشكل وأنا الأساس أنت الكأس الترابيّ وأنا الخمرة المقدّسة أنت الحرف وأنا المعنى أنت الطاقة الصامتة السلبية وأنا القوة المُحفّزة.

أنت بدوني لا غاية ومعي غاية.

أنت من دوني لا معنى ومعي المعنى الظاهر والمُسْتَبْطن.

أنت من دوني قوة بالقوة ومعي قوة بالفعل.

أنت من دوني غثيان ولا اتجاه ومعي إرادة.

ستبقى وأناك تلميذين وسأبقى المعلّمة الأبدية.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024