إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

هل حقاً أن الديمقراطية نهاية التاريخ ؟

محمد خليفة

نسخة للطباعة 2007-09-16

إقرأ ايضاً


لماذا توقف الزمن السياسي عند الديمقراطية ، فأصبحت هذه المفردة المبهمة وصفة سحرية جاهزة يقدمها الغرب المتفوق لكل الشعوب المستضعفة التي تطمح إلى العيش بكرامة وسلام . فهل إن الديمقراطية حقاً هي نهاية التاريخ ، وبها وحدها دون غيرها من الأنظمة السياسية الأخرى ، يتحقق الاستقرار والازدهار الذي تنشده البشرية جمعاء ؟. الواقع أن الديمقراطية ليست أفضل الأنظمة السياسية على الإطلاق ، فنشأتها في البيئة الأثينية تجعل منها وقفاً على تلك البيئة دون غيرها . وتعني كلمة (الديمقراطية) اليوم النظام الذي تكون (السيادة) العليا فيه للشعب الذي يكمن دوره في أن ينتخب بصورة دورية ممثليه الذين سيأخذون بالنيابة عنه بعض القرارات الأكثر عمومية المتعلقة بالمجتمع ككل. أما لدى الأثينيين القدماء ، فكان للعبارة معنى مختلف : من جهة لأن مفهوم (الشعب) كان أكثر تقييداً منه بالنسبة إلينا اليوم (فالعبيد ، والنساء مستبعدون منه) . ومن جهة أخرى لأن الشعب يتمتع بوظائف أوسع ، فهو الذي يتداول في جمعية عمومية وليس ممثلوه ، ومنه ينبثق الحكام مباشرة بالانتخاب حيناً وفي أغلب الأحيان باللجوء إلى القرعة . وقد ظهر هذا النظام في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد ، وكان يسمى ((إيزونومية)) وكانت جدّة هذا النظام تتحدد بمساواة الجميع وليس بسلطة هذا أو ذاك . وقد صنع كلمة (ديمقراطية) معارضو هذا النظام ، وهم الأوليغارشيون أولئك الذين كانوا يسمون أنفسهم (أرستقراطيين). وبذلك ، فإن كلمة (الديمقراطية) تعني من وجهة نظر هؤلاء سلطة (الغوغاء) على النخبة . وقد اقتصر النظام الديمقراطي على أثينا التي كانت نموذج المدينة الديمقراطية ، ومدرسة اليونان . وقد انتقد أفلاطون ، وهو ابن أثينا ، النظام الديمقراطي بعد أن حكم (الديمقراطيون) على سقراط بالموت عام 399 قبل الميلاد . ورأى أن أثينا تحكم بطريقة سيئة ، كما رأى "أن المصائب لن تتوقف بالنسبة للناس قبل أن يصل للسلطة عرق من الفلاسفة الأنقياء والحقيقيين ، أو أن يأخذ رؤساء المدن /الدول/ بفضل نعمة إلهية ، بالتفلسف حقيقة" . ومن ثم جاء بعده أرسطوطاليس ابن اسطاغيرا ، فانتقد هو الآخر النظام الديمقراطي ، ورأى أنه من الخطأ إسناد السلطة إلى العامة ، بل إن السلطة يجب أن تكون في أيدي أشخاص متخصصين يستطيعون اتخاذ القرار المناسب لكل حالة ، وأن تترك للعامة السلطتين القضائية والتداولية . وفي النهاية يقول أرسطو : ((إن كل الأنظمة التي تهدف إلى المنفعة المشتركة تكون أشكالاً مستقيمة ، بينما تكون تلك التي لا تهدف ، على العكس ، إلاّ لتأمين مصلحة الحكام على وجه الحصر ، أنظمة رديئة)) . لكن لم تلبث الديمقراطية الأثينية أن انتهت مع ظهور الاسكندر المقدوني عام 333 الذي فتح آسيا وأقام إمبراطورية واسعة ممتدة من اليونان إلى الصين ، وجعل نفسه سيداً عليها . ولم تعد الديمقراطية إلى الظهور إلا مع قيام الثورة الإنجليزية المجيدة عام 1688 . والواقع أن هذه الثورة لم تكن ثورة بالمعنى الدقيق للكلمة ، بل كانت تعبيراً عن تفوّق البرجوازية الحديثة الإنجليزية على النظام الإقطاعي القديم الذي كان يمثله الملك . والدليل على ذلك هو أن البرلمان الإنجليزي الذي أصدر قراراً آنذاك بعزل الملك جيمس الثاني وتولية ابنته ماري زوجة الملك الهولندي وليم أورانج عرش إنجلترا ، كان برلماناً يسيطر عليه التجار والمحامون والصناعيون . وكان هؤلاء لا يمثلون الشعب بقدر ما يمثلون مصالحهم الخاصة . وقد استطاع هؤلاء الانتصار على الملكية ومن ثم تقييد حرية الملك في اتخاذ القرارات ، فظهر النظام البرلماني في العالم ، وهو النظام السائد الآن . وقد لقي هذا النظام دفعة قوية مع بيان إعلان الاستقلال الأمريكي عام 1776 . ومن ثم مع قيام الثورة الفرنسية عام 1789 . وظل النظام البرلماني طوال القرن التاسع عشر ، قاصراً على إنجلترا وهولندا والولايات المتحدة وفرنسا . لكن انتصار الحلفاء (بريطانيا ، فرنسا ، الولايات المتحدة) في الحرب العالمية الأولى عام 1918 ، عزز النظام البرلماني في العالم، وبدأت العديد من الدول تقتدي به ، مثل جمهورية فيمار التي قامت في ألمانيا عام 1919. وكانت الحرب العالمية الثانية ما بين 1939 ـ 1945 عاملاً حاسماً في سيادة النظام البرلماني الإنجليزي في العالم . فأصبح هذا النظام هو الأصلح لتحقيق السعادة والرخاء . وأصبح يُوصف بالنظام الديمقراطي ، مع أن الديمقراطية بعيدة ومختلفة عنه . فالشعب في هذا النظام لا يحكم نفسه مباشرة ، كما كان يحدث في أثينا القديمة ، بل من يحكم الناس هم أشخاص نجحوا في الانتخابات العامة وبطرق قد تكون ملتوية . كما أن هؤلاء الناس ليسوا هم من يحكم الدولة ، بل هناك مؤسسات تتولى إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية . ومن هذه المؤسسات ، المؤسسة العسكرية . فالعسكريون في جميع الدول الديمقراطية الحديثة ، غير منتخبين ، ومع ذلك فهم يلعبون دوراً كبيراً في هذه الدول كما يحدث في الولايات المتحدة وبريطانيا . فمن يستطيع أن ينكر الدور الذي يلعبه البنتاغون في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية الآن . وإذا كانت الديمقراطية الحديثة هي الحكم التمثيلي البرلماني ، فيجب أن يقال إن هذه الديمقراطية لا تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، بل تعني حكم القلة نيابة عن الشعب . وبذلك فإن القول إن الشعوب في الأنظمة الديمقراطية الحديثة تمارس حقوقها السياسية كاملة ، هو قول كاذب ، وبالتالي ، فإن الإدعاء بأن الديمقراطية البرلمانية الحديثة هي نهاية التاريخ هو قول كاذب أيضاً ، وعلى الشعوب في العالم ألا تركن إلى دعوات الكاذبين حول الديمقراطية الحديثة التي تحت تسميتها يتعرّض العالم العربي إلى الإبادة الشاملة والحقد النَتِن الذي استباح ما لا تستبيحه الوحوش من القتل العام والتدمير الشامل للجنس العربي والاغتصاب الجماعي والهتك العلني للأعراض في غوانتنامو ، الذي وصفه الرئيس الأمريكي الأسبق ، جيمي كارتر "بأنه عار على الولايات المتحدة" ، والمبالغة في إشهار كل ما يعبّر عن إذلال العرب والمسلمين ، وتمريغ كرامتهم في التراب والحطّ من شأنهم وتحطيم روح الانتماء لديهم باسم الديمقراطية المشبعة بالقيم الغربية والنزعة الليبرالية المتوحشة . فهذه القيم الغربية المهتزة في عصر ما بعد الحداثة هي التي يراد تنميط الواقع الاجتماعي والثقافي العربي وفقاً لنموذجها الإنجلوسكسوني الفجّ . فما يجري في العراق يؤكد إدانة الإنسان "الديمقراطي" بأنه أشدّ توحشاً من الوحوش .. فالسباع رحيمة إذا قورنت بفظاعة الإنسان "الديمقراطي" في فلسطين والعراق . فالجثث الإنسانية تظهر من خلال شاشات التلفزيون وكأننا في غابة يعيش فيها الأسود والنمور والذئاب ، بل إن هذه الحيوانات الكاسرة أرحم من هذا الإنسان ، فلا تقتل نفسها بدافع الالتزام نحو النوع . ولكن الإنسان بروحه الشريرة الفظيعة يقتل ويدمر ويبرر تصرفاته فقط من أجل نموذجه الديمقراطي . إن هذه الديمقراطية ، التي تحمل بذور فنائها في ذاتها ، يريدون مع ذلك تعميمها على العالم وكأنها الأمثل للوحدة والتعايش داخل المجتمعات العالمية والعالم العربي بالأخص الذي يعيش في ظروفه الراهنة معاناة كبيرة وأحداثاً مرهقة ، وأفقاً اقتصادياً صعباً ، وانسداد آفاق لا يترك له بصيص أمل في تقرير مصيره وتحديد غايات مجتمعه . وهذا الإحساس يجعله يشعر بعبثية وجوده ، ويطمس هويته الحضارية والثقافية ويسد أفقه الاجتماعي في عالم كئيب محروم من بعدي الأصالة والعمق . إنها مأساة الديمقراطية الفاقدة لصوت الضمير الحق في حياة إنسانية كريمة تقوم على وحدة في خصائص البشر ودورها في حياة الإنسان في إطار من التعاون الإنساني الكامل والتكافل الاجتماعي الصحيح من أجل رفع قيمة الحياة وقيمة الإنسان إلى المستوى اللائق في المساواة والحرية والعدالة والخلاص الحقّ لكل البشرية ، تماشياً مع روح الحضارة الإنسانية وحرية الفكر والشعور الإنساني الأرقى بالإنسان والحياة وفق نواميس الفطرة وصوت الحق .

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024