إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الاستعمار وتفتيت الشعوب

محمد خليفة

نسخة للطباعة 2008-10-12

إقرأ ايضاً


عند البحث عن عوامل تخلف الأمة وتأخر أبناءها في مسار الحضارة والانتقال إلى عالم عصر الحداثة والتنوير ، يكون السبب هو الاستعمار الذي لعب دوراً كبيراً في عوامل تخلّف هذا الإنسان المستعمَر وقهره وتشكيل تطوره الاقتصادي والسياسي ، وارتبط به ليس في كل ما يختص بموقعه الجغرافي وبخصائص جوهر بنيانه الفكري والمادي والاجتماعي ، وتطور عواطفه فحسب ، وإنما لعب كذلك دوراً بالغ السوء في تفتيت الكثير من الشعوب في الأرض . كما أنه لعب ، من دون قصد منه ، دوراً حسناً في توحيد الكثير من الشعوب الأخرى ، وكان الأمر في كلتا الحالتين خاضعاً لمصالح الدول الاستعمارية . فقد حدث في القرن التاسع عشر تسابق بين الدول الأوروبية : "بريطانيا ، فرنسا ، إيطاليا، ألمانيا ، هولندا ، بلجيكا ، إسبانيا" لاستعمار العالم . وكان لبريطانيا وفرنسا قصب السبق في هذا المضمار ، وكانت كل دولة استعمارية تحاول السيطرة على أكبر قدر من الأرض لتكون مستعمرتها كبيرة . ولعل أكثر الشعوب التي عانت من ويلات الاستعمار ، وما تزال تعاني حتى الآن هي شعوب إفريقيا والمنطقة العربية . فقد تعرّضت إفريقيا لأبشع صور الاستعمار الأوروبي بعد انعقاد مؤتمر برلين بين الدول الأوروبية في 1884 ـ 1885 الذي خصص لتقسيم إفريقيا بين تلك الدول ، حيث تم تقسيم القارة وتمزيق شعوبها من أجل تأمين حصة استعمارية لكل الدول الأوروبية الحاضر في ذلك المؤتمر . وقد أسهم هذا التقسيم العشوائي في إيجاد صراعات دائمة بين الدول الإفريقية بعد استقلالها عن المستعمرين ، وهذه الصراعات ما تزال مستمرة ويصعب أن تتوقف قريباً لأن حجم التخريب الذي أحدثه المستعمرون كان كبيراً . وفي المنطقة العربية ، لم يكن حال الشعوب أفضل من حال الشعوب الإفريقية . فقد هجم الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي والإسباني عليها ، فاستعمرت فرنسا الجزائر عام 1830 ، ومن ثم وضعت تونس تحت حمايتها عام 1881 ، وراحت تتطلع إلى استعمار المغرب . وكانت إسبانيا قد قامت عام 1860 بغزو المغرب واحتلت منطقة الريف والصحراء الغربية . وأما فرنسا ، فقد وجدت معارضة من ألمانيا التي كانت تريد السيطرة على المغرب للاستفادة من ثرواته المنجمية مما أدى إلى حدوث أزمة دولية كبيرة عام 1905 ، فتم تدويل المغرب اقتصادياً بمقتضى شروط مؤتمر "الجزيرة الخضراء" في إسبانيا في يناير 1906 وتم الحدّ من الامتيازات الفرنسية . لكن فرنسا ما لبثت أن حلّت الأزمة مع ألمانيا من خلال إعطاء هذه الأخيرة أراضي في وسط أفريقيا . وهكذا أصبح المغرب من نصيب الاستعمارين الإسباني والفرنسي عام 1912 . وعلى الرغم من أن فرنسا كانت تستعمر تونس والجزائر وموريتانيا وأجزاء من الغرب ، لكنها لم توحّد مستعمراتها هذه تحت سلطة واحدة ، لأنها كانت قد ضمّت الجزائر إليها عام 1848 ، في حين أنها كانت قد وضعت تونس تحت حمايتها ، وتركت للباي فيها السلطة المحلية . وأما المغرب ، فكانت تواجه مشاكل مستمرة فيه ، ولذلك ظلت المستعمرات الفرنسية في بلاد المغرب العربي تحت سلطات متعددة . وكانت إيطاليا قد احتلت ليبيا عام 1912 وتوسعت في الصحراء الكبرى لتستفيد من أكبر قدر من الأرض ، ولذلك ظلت ليبيا كبيرة حتى بعد استقلالها عام 1952 . وأما بريطانيا ، فكانت قد سطت على وادي النيل (مصر والسودان) عام 1882 ، والذي كان موحّداً منذ أيام محمد علي باشا . ولذلك تركته بريطانيا على وحدته لتستفيد من الخيرات الموجودة فيه . ولم ينفصل السودان عن مصر إلاّ عام 1956 . وفي المشرق العربي ، كانت بريطانيا قد سطت على سواحل الجزيرة العربية من عدن حتى الكويت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وكان العثمانيون في الداخل ، كما كانوا في العراق وبلاد الشام . وفي عام 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى واشتركت فيها الدولة العثمانية ، وأثناء الحرب اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقسيم الممتلكات العثمانية في العراق والشام بينهما . وفي عام 1918 انهزمت الدولة العثمانية ، ومن ثم انهارت ، فوُضِعَ الاتفاق البريطاني الفرنسي موضع التطبيق ، وقد استطاعت بريطانيا أن تستولي على ولايات العراق الثلاث "البصرة ، وبغداد ، والموصل" ووحّدتها تحت سيطرتها ، كما أخذت شرقي الأردن وأعطت فلسطين هدية لليهود ، وأخذت فرنسا سوريا وأقامت دولة لبنان الكبير . وعندما انهارت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، ظلت المنطقة العربية على حالها من حيث التقسيم الذي أنشأه الاستعمار . ولم تنجح كل الجهود العربية في تحقيق الوحدة بين العرب . والواقع أن هناك شعوباً أخرى كان لها حظاً قوياً في عهد الاستعمار ، فمثلاً ، إندونيسيا ، تتألف من نحو 17 ألف جزيرة ، وقد جمعتها هولندا منذ القرن الثامن عشر تحت سيطرتها ، وظلت موحّدة حتى بعد استقلالها عام 1950 . والهند أيضاً ، جمعتها بريطانيا منذ أن بدأت في استعمارها عام 1661 . ومع أنها شطرتها قبل إعطائها الاستقلال عام 1947 إلى دولتين : واحدة للهندوس وهي الهند ، وأخرى للمسلمين وهي باكستان وبنغلاديش ، إلاّ أن الهند ظلت مع ذلك كبيرة ، فمساحتها أكثر من سبعة ملايين كيلو متر مربع ، وعدد سكانها مليار نسمة ، وهي الآن قوة عالمية صاعدة ، والفضل في توحّدها يعود إلى بريطانيا التي لعلها تلوم نفسها الآن لأنها جمعتها في دولة واحدة .


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024